30-مايو-2017

مصير المجتمع المدني المصري مجهول بعد قانون الجمعيات الأهلية (محمد الشاهد/أ.ف.ب)

صوّت مجلس النواب المصري بالموافقة على مشروع قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، ومنذ ذلك الحين والقانون المثير للجدل في انتظار اعتماد رئيس الجمهورية.

قوبل قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية وقتها باعتراض شديد من قبل منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية وبعض الأحزاب، واعتبره البعض تقييدًا صارخًا للعمل الأهلي في مصر، وتطويقًا لمنظمات حقوق الإنسان، وكانت جهات عدّة ناشدت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمراجعة القانون ورده مرة أخرى إلى مجلس النواب، إلّا أنه فيما يبدو ذهبت مؤسسة الرئاسة في النهاية إلى تجاهل كل الاعتراضات وإصدار القانون أخيرًا، بعد فترة تعطيل دامت حوالي ستة أشهر. 

ومن المفارقة في هذا الشأن، أن وزارة التضامن الاجتماعي، كانت قد تقدمت سابقًا بمشروع قانون مختلف عن المذكور، وأكثر مرونة منه، وأقل تقييدًا، إلا أنّ البرلمان رفضه.

1. من يخضع للقانون؟ وما المقصود بالجمعيات الأهلية؟

قبل التطرق لتفاصيل مرتبطة بالبنود الخلافية في قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية، من الضروري معرفة المقصود بـ"الجمعيات الأهلية" الخاضعة لسلطة القانون. ويُعرّف القانون "الجمعية" في المادة الأولى من الباب الأول بأنّها "كل جماعة ذات تنظيم مستمر، يتم تأسيسها وفقًا لأحكام هذا القانون، وتتألف من أشخاص طبيعيين أو اعتبارية مصرية أو منهما معًا، بحد أدنى عشرة أشخاص، وتهدف إلى ممارسة العمل الأهلي". أمّا "العمل الأهلي" فهو: "كل عمل لا يهدف إلى الربح، ويمارس بغرض تنمية المجتمع في إحدى المجالات المحددة بالنظام الأساسي لأحد الكيانات".

رفض البرلمان المصري مشروع قانون أكثر مرونة قدمته وزارة التضامن، ووافق في المقابل على هذا القانون المثير للجدل

ويُعرّف القانون المنظمة الأجنبية غير الحكومية، بأنّها "شخص اعتباري أجنبي، لا يهدف إلى الربح، يقع مركز إدارته الرئيسي في مصر أو خارجها، يصرّح له بممارسة نشاط أو أكثر من أنشطة الجمعيات والمؤسسات الأهلية الخاضعة لأحكام هذا القانون وفقًا للقواعد المقررة فيه".

اقرأ/ي أيضًا: المجتمع المدني المصري.. تركة للريح

إذن يُمكن القول اختصارًا من هذه التعريفات، أن الجمعيات الأهلية هي كل مؤسسة أو كيان غير حكومي سواء ذات شخصية اعتبارية مصرية أو أجنبية، تقع في حدود مصر، وتمارس أنشطتها وفقًا للقانون الصادر.

2. كيف يقيد قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الجديد العمل المدني؟

تنص المادة الثالثة من القانون على أنه "يجب أن يتضمن النظام الأساسي لكل جمعية، النص على التزامها باحترام الدستور والقوانين، وعدم الإخلال بالأمن القومي والنظام العام والآداب العامة"، فيما تنص المادة 14 من الفصل الثاني الذي يتناول أغراض الجمعيات وحقوقها والتزاماتها، ينص البند "ب" فيها على أنّه "يحظر على الجمعية ممارسة أنشطة يترتب عليها الإخلال بالوحدة الوطنية أو الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة".

ويبدو هنا أن قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الجديد قد تعمّد استخدامات عبارات فضفاضة واسعة التفسير، مثل الآداب العامة والنظام العام، دون أن يضع تعريفًا محددًا لتلك المصطلحات، لكي يكون من السهل التضييق، وربما التنكيل بأي جمعية أهلية أو مؤسسة غير حكومية، دون أن يكون ذلك خرقًا للقانون.

وتنص المادة 21 على أنه "لا يجوز للجمعية فتح مقرات أو مكاتب تابعة لها في أي من محافظات الجمهورية تخضع لإشرافها المباشر؛ لمباشرة وتنفيذ أنشطتها المختلفة بخلاف مقرها الرئيس إلا بعد موافقة كتابية مسبقة من الوزير المختص أو من يفوضه، موضّحًا فيها عنوان هذا المقر، والنشاط المستهدف، والمدير المسئول عنه، والعاملون فيه". وبهذا، ووفقًا لهذه المادة لم يعد إخطار الجهة الإدارية المسؤولة، كافيًا لافتتاح مقرات جديدة للجمعية، بل يجب أن تحصل الجمعية على تصريح كتابي من الوزير المختص، وهو ما يبدو تعسفًا مقصودًا أمام الجمعيات الأهلية، لصعوبة الوصول إلى الوزير المختص بطبيعة النظام الإداري في مصر، فضلًا عن صعوبة استصدار التصريح الكتابي منه أيضًا لطبيعة النظام الإداري في البلاد.

ولم يكتفِ القانون بتلك الشروط المقيّدة السابقة، بل تطرّق في الفصل الرابع الخاص بحل الجمعيات إلى شروط أكثر إجحافًا، إذ تنص المادة 42 على أنه "تقضي المحكمة المختصة بناءً على طلب الجهة الإدارية، أو كل ذي صفة، بعزل مجلس إدارة الجمعية، وتعيين مجلس مؤقت لاتخاذ إجراءات الدعوة لجمعية عمومية لانتخاب مجلس إدارة جديد"، في حالات مثل المذكورة في الفقرة "ي" التي تنص على "الانتقال إلى مقر جديد دون إخطار الجهة الإدارية خلال ثلاثة أشهر على الأكثر من تاريخ الانتقال"، والفقرة "ك" التي تنص على "قيامها بإبرام اتفاق تعاون أيًا كانت صورته مع منظمة أجنبية دون الحصول على موافقة الجهاز".

يستخدم القانون عبارات فضفاضة غير ذات معنى محدد لتبقى الجمعيات الأهلية رهن تفسير السلطات الأمنية لهذه العبارات

بهذا يعطي قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الجديد الحق لحل الجمعية في حالات تعسفية وصفها البعض بـ"الساذجة" مثل أن يتغير مقر الجمعية دون إخطار للجهة المختصة، أو القيام بعقد اتفاقات لا ترضى عنها الجهات الأمنية، لينحصر الأمر في النهاية في يد جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقًا) والوزارة المختصة.

وتنص المادة 70 من القانون على إنشاء جهاز قومي، يسمى الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية، يتبع مجلس الوزراء، وتكون له الشخصية الاعتبارية، ومقره العاصمة القاهرة، وله أن ينشئ مكاتب في المحافظات الأخرى. 

اقرأ/ي أيضًا: المجتمع المدني في مصر.. صراع الدولة والمواطنين

ثم تشرح المادة 71 اختصاصات الجهاز تفصيليًا، وتنص الفقرة "ج" على أنّ "التصريح بالحصول على تمويل أو أموال من الخارج أيًا كانت طبيعتها سواء من شخص مصري أو أجنبي طبيعي أو اعتباري أو من جهة أجنبية أو من يمثلها في الداخل أو يعمل لصالحها، أو بإرسال أموال لها أيًا كانت طبيعتها أو تمويل إلى أشخاص أو منظمات في الخارج".

يتضح هنا تعمد القانون تضييق الخناق على مصادر تمويل منظمات المجتمع المدني، بحيث يجعلها بتصريح من الجهاز المختص، وبرقابة شديدة، وبالتأكيد أن هذا التصريح لن يُؤذن به دون أن يُعطي جهاز الأمن الوطني الضوء الأخضر.

لم يجد قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية كل هذه القيود كافية لتكبيل الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، فوضع فصلًا خاصًا بالعقوبات، وهو الفصل التاسع، الذي تنص المادة 87 منه على أن "يعاقب بالحبس الذي لا تقل مدته عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه"، أما المعاقبون بهذه العقوبات هم "كل من أنشأ جمعية ثبت أن حقيقة أغراضها ممارسة الأنشطة المحظورة في البندين أ وب من المادة 14". 

وتكمن المشكلة في هذه المادة هو أن العقوبة مفروضة على ما لا يُمكن تفسيره تفسيرًا واحدًا محددًا، أو بصيغة أخرى ما يقع تفسيره المتغير في يد السلطة باعتبارها الأقوى، إذ إن البند "ب" من المادة 14 ينص على أنّه "يحظر على الجمعية ممارسة أنشطة يترتب عليها الإخلال بالوحدة الوطنية أو الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة"، فما هي كل هذه المصطلحات بالتعريف؟!

ممن يطالهم العقاب أيضًا "كل من عاون أو شارك منظمة أجنبية في ممارسة نشاط أهلي في مصر دون الحصول على تصريح من الجهاز أو بالمخالفة لأحكام هذا القانون أو لقواعد ممارسة النشاط المصرح به، وتقضي المحكمة بمصادرة أموال هذه المنظمة وأيلولتها إلى صندوق دعم الجمعيات والمؤسسات الأهلية".

وزيادة في تضييق الخناق، كانت المادة 88، الناصّة على أن "يُعاقب بالحبس الذي لا تزيد مدته على سنة، أو بالغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه"، كل من "نقل المقر إلى مكان بخلاف المُخطَر به، وفي حالة تكرار المخالفة يجوز للجهة الإدارية طلب حل الجمعية بدعوى أمام المحكمة المختصة"، وكل من "أجرى أو شارك في إجراء بحوث ميدانية أو استطلاعات رأي في مجال العمل الأهلي دون الحصول على موافقات الجهات المعنية قبل إجرائها".

وبهاتين المادتين، 87 و88 من فصل العقوبات في قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية، أصبح كل عامل في مؤسسات المجتمع المدني عرضة للحبس في أي لحظة، فإن كانت المؤسسة تمارس أنشطة يترتب عليها إخلال بالوحدة الوطنية أو النظام أو الآداب العامة، دون تعريف واضح لتلك المصطلحات التي يجوز استخدامها وتطويعها حسب رغبة السلطات الأمنية، وإن نقلت الجمعية مقرها إلى مكان جديد بدون إخطار، أو لو قام أحد أعضاء الجمعية بإجراء بحث ميداني أو استطلاع رأي دون أن يحصل على تصريح كتابي مسبق من الجهات المعنية، التي تأخذ الأذن بالتأكيد من الأمن الوطني، ليضع هذا القانون منظمات المجتمع المدني بشكل كامل في قبضة الأمن الوطني والجهاز الأمني، فإما أن تخضع لما تريده السلطة أو لن تجد لك مكانًا في مصر، إما بحل الجمعية أو بالحبس والغرامة في أحيان أخرى.

3. كيف يرى الفاعلون في المجتمع المدني القانون الجديد؟

تحدث "ألترا صوت" مع المحامي الحقوقي أحمد عبدالنبي، لرصد صدى القانون في الأوساط الحقوقية، ومدى تأثيره المحتمل على نشاط الجمعيات الأهلية، ليوضّح عبدالنبي أن القانون جعل للجهات الأمنية يدًا عليا وحريةً مطلقة في التحكم بالعمل الأهلي في مصر، بخاصة مع المادة التي تنص على إنشاء الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية. 

وتتعدى صلاحيات هذا الجهاز المزمع إنشاؤه وفقًا للقانون، منح تراخيص عمل المنظمات الأجنبية، إلى التحكم في طبيعة عمل المنظمات، والتحكم في مصادر التمويل، فهذا الجهاز له سلطة الموافقة أو الرفض على منح التراخيص لتكوين الجمعيات، كما أن له سلطة الموافقة أو رفض الحصول على التمويلات، والجميع يعلم أن الجمعيات الأهلية تقوم بالأساس على فكرة التمويل.

كما يعطي قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الجديد لهذا الجهاز الحق في التدخل في طبيعة عمل الجمعيات من الداخل، عبر تجريم القانون إجراء الجمعيات والمنظمات للأبحاث ولاستطلاعات الرأي دون الرجوع إلى الجهاز، وأخذ الإذن والتصريح الأمني، ولا يمكن نشر نتائج الأبحاث واستطلاعات الرأي بدون المرور أيضًا على الجهاز والبت في مدى مصداقيتها وحياديتها وموائمتها لمتطلبات المواطن المصري، وجميع هذه الشروط وحده الجهاز الذي يُقررها! 

وعليه يُصبح أي بحث أو استطلاع رأي، نتيجته تخالف هوى الجهات الأمنية، فاقدًا للمصداقية والحيادية وغير موائم لمتطلبات المواطن المصري، وبالتالي لن يُنشر، وإلا تعرض القائمون عليه للحبس أو الغرامة. 

فعلى سبيل المثال لو أجرت جمعية ما بحثًا عن مدى تفشي الفساد في الجهاز الإداري للدولة، فالجهاز الأمني الممثل للدولة هو موضع التقييم ومالك الصلاحية بمنح جواز مرور البحث ونشره أو منعه، فصار الجهاز بمثابة الخصم والحكم في الوقت نفسه، ما يهدد شفافية الأبحاث ويسمح بالتحكم الأمني الفج في طبيعة عمل المنظمات، والتصريح فقط بالأبحاث والإجراءات التي يراها الجهاز مناسبة، كما سبق توضيحه.

بسبب القانون تتحول الأجهزة الأمنية من مراقبة العمل المدني، إلى حالة سيطرة عليه بالموافقة والمنع وتنفيذ العقوبات

وأضاف المحامي الحقوقي عبد النبي أن القانون حصر عمل الجمعيات في نطاق جغرافي محدد، فللجهاز الصلاحية لمنح ترخيص مقر الجمعية أو سحبه، ولا تستطيع الجمعية نقل مقرها دون إذن الجهاز، ويقيد حريتها في الانتقال أوالتوسع الجغرافي. ويرى عبد النبي أن القانون ينص على عقوبات "سالبة للحرية، لا تتناسب مع الفعل الذي دخل حيز التجريم"، مُوضحًا أنّ ذلك يتمثل في جعله العمل الأهلي جرمًا يتوجب عليه السجن وسلب الحرية، وهو أمر مناقض لما التزمت به مصر من المعاهدات والمواثيق الدولية بإتاحة العمل الأهلي وتكوين النقابات والجمعيات بالإخطار، وفقًا لعبد النبي.

اقرأ/ي أيضًا: تجدد موسم الانتقام من الحقوقيين في مصر

وأشار عبد النبي إلى ما أسماه قصورًا في القانون، وذلك لعدم ذكره طبيعة التظلمات في حالة العقوبات المتمثلة في السجن والغرامة أو حل الجمعيات، كما أنه لم يحدد محكمة ما للنظر في التظلمات المقدمة، لذا فإن عبد النبي يرى باختصار أن "هذا القانون يقضي على العمل الأهلي في مصر، ناهيك عن القصور الموجود فيه، ومخالفته للمواثيق والمعاهدات الدولية".

من جانبها قالت مزن حسن، المدير التنفيذي لمؤسسة نظرة للدراسات النسوية، في لقاء صحفي سابق لها، إن هذا القانون يقيد العمل الأهلي والخيري والتنموي وليس فقط العمل الحقوقي أو النسوي، فيما عقّبت الناشطة السياسية إسراء عبدالفتاح على القانون، بقولها إنّ "الأجهزة الأمنية تحولت من دورها لكي تراقب على النشاط، لأن تمتلك الحق في أن توافق أو تمنع النشاط، وبالتالي فإن قانون الجمعيات الأهلية الجديد، يمنع العمل الأهلي، ويضع الجمعيات الأهلية في مصر تحت السيطرة الأمنية"، على حد تعبيرها. بينما أضاف المحامي الحقوقي مالك عدلي بأن قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الجديد، "ليس فقط يقتل العمل العام والنشاط الحقوقي ونشاطات الدفاع عن حقوق الإنسان، بل يقتل أيضًا الأنشطة التنموية وحب الخير في البشر"، على حد تعبيره.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

3 قوانين مصرية لانتهاك المواطنة والحقوق

استراتيجيات الأمن المصري لمحاصرة الجمعيات الحقوقية