12-نوفمبر-2017

يمثل متحف اللوفر أبوظبي مثالًا على القوة الناعمة لفرنسا (لودوفيك مارين/ أ.ف.ب)

قبل أيام، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة لأبوظبي، لافتتاح فرع متحف اللوفر أبوظبي. الزيارة بكافة تفاصيلها، وخصوصًا خطاب ماكرون في حفل الافتتاح، تُلقي الضوء على ما يُحاول ماكرون اللعب عليه بحرفية، إنها "القوة الناعمة". السطور التالية ترجمة بتصرف عن مقال تحليلي نشرته مجلة فورين بوليسي، يعطي مزيدًا من التفاصيل حول هذه القوة الناعمة في يد ماكرون، بالمقارنة بنظيره الأمريكي دونالد ترامب.


أُعلنت نتائج "مؤشر القوة الناعمة 30"، الذي يعدّه مركز الديمقراطية العامة التابع لجامعة جنوب كاليفورنيا، بالتعاون مع مجموعة بورتلاند الاستشارية؛ أن فرنسا بلغت درجة من الكياسة تجاوزت الولايات المتحدة، لتكون بذلك أعظم قوة ناعمة في العالم.

في حين يُركز ماكرون على استخدام الجاذبية والإقناع في التأثير على البلاد الأخرى، يلجأ ترامب إلى الضغط والإجبار

ولا ينبغي أن يتسبب هذا الخبر بمفاجأة كبيرة، إذ إن الفترة الرئاسية القصيرة لكل من دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون، قدمتا حتى الآن دراسة من التناقضات المتنافرة. فلدينا على أحد الجانبين فصاحة وبلاغة وطلاقة ثقافية يتسم بها ماكرون ويربطها بالتزامه التأثير على البلاد الأخرى عبر الجاذبية والإقناع. أما على الجانب الآخر، فثمة ازدراء واضح لليونة البلاغية لدى دونالد ترامب، وهو ما يعكس اعتقاده بأن الضغط والإجبار أفضل أشكال التأثير.

اقرأ/ي أيضًا: تقارير دولية: آثار مصر تباع بالقطعة للإمارات لتستقر في لوفر أبوظبي

لم تقتصر زيارة إيمانويل ماكرون إلى الإمارات خلال هذا الأسبوع لافتتاح أول فرعٍ لمتحف اللوفر خارج فرنسا، على التأكيد على هذه الاختلافات، بل إنها أيضًا، بالنسبة لأي شخص أنصت لحديث إيمانويل ماكرون والمناسبة الداعية لهذا الحديث؛ شوشت عليها. ويبدو ظاهريًا أن حدث افتتاح متحف اللوفر أبوظبي بمثابة احتفال بالقوة الناعمة لفرنسا، لكن المتحف نفسه يمثل رمزًا قويًا لغموض هذا المفهوم، أي القوة الناعمة.

عندما وصل إيمانويل ماكرون إلى الإمارات، وكان ذلك بعيد إلقاء ترامب كلمة في العاصمة الكورية الجنوبية سول، تضمنت تهديدًا عسكريًا مفتوحًا موجهًا إلى كوريا الشمالية، والذي تمثل في جملته التي قالها: "لا تجربونا"؛ كانت رسالة ماكرون في المقابل مختلفة جدًا لمضيفيه، إذ قال: "رجاءً جربونا! لا تجربوا فقط النبيذ الفرنسي ومظاهر الرفاهية، ولكن أيضًا جربوا ثقافتنا ومبادئنا العالمية والإنسانية الموجهة من خلالها".

مدخل اللوفر أبوظبي. والمتحف من تصميم المعماري الفرنسي جان نوفيل (أ.ف.ب)
مدخل اللوفر أبوظبي. والمتحف من تصميم المعماري الفرنسي جان نوفيل (أ.ف.ب)

ووفقًا لما عرضه الخطاب الرسمي لافتتاح متحف اللوفر أبوظبي، الذي صممه المعماري الفرنسي المعروف جان نوفيل، وهو أيضًا صاحب تصميم معهد العالم العربي في باريس؛ فـ"لدى هذا المتحف القدرة على التغيير الناعم للتاريخ المستقبلي للبلد المستضيف والمنطقة بأكملها". وحملت هذه الفكرة إشارة ضمنية إلى أن الثقافة الفرنسية تستحق أن يكون لها المجد للاضطلاع بأي تحول من هذا القبيل.

ولعل دوافع فرنسا للسعي وراء المشروع هي في الأساس أكثر ابتذالًا من هذا. فعندما أُعلن عن مشروع متحف اللوفر أبوظبي للمرة الأولى في عام 2007، في السنوات الأخيرة لحقبة جاك شيراك الرئاسية، كان ماكرون لا يزال مفتشًا ماليًا مغمورًا في الحكومة. ولعل أحدهم يتساءل عمّا اعتقده ماكرون آنذاك، بصفته المهنية، بشأن الشروط المالية للاتفاقية المربحة لفرنسا، فبالإضافة إلى تحمل تكاليف البناء، على الإمارات دفع 750 مليون دولار مقابل حق استخدام اسم اللوفر لثلاثين عامًا، واستعارة القطع الفنية الأصلية والمعارض والمؤقتة والنصائح التنظيمية.

كان عرضًا لا يمكن لمتحف اللوفر الذي يمر بضائقة مالية كبيرة، أن يرفضه على أي حال. حتى أن هذا الترتيب كان إلزاميًا عندما انخفض عدد زوار المتحف بنسبة 15% في عام 2016، أي بعد عام من الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس، وهو ما أدى إلى نقص في الموارد بحوالي عشرة ملايين يورو.

ومع هذا، ينتقد كثير من النقاد العلاقة النقدية التي تحكم هذا التبادل. فبعد توقيع الاتفاقية بفترة قصيرة، وقّع أكثر من خمسة آلاف من خبراء ومنظمي المتاحف، على بيان رسمي بعنوان "المتاحف ليست للبيع"، استنكروا فيه ما أسموه بـ"تسليع التراث القومي لفرنسا". وبمزيد من الإلحاح، استنكرت عدد من منظمات حقوق الإنسان الأجور البائسة (أو الغياب الكامل للأجور) والظروف الصادمة التي يواجهها العمال الأجانب، وأغلبهم من جنوب آسيا، الذين يعملون في موقع بناء المتحف الجديد بأبوظبي الشهيرة بالانتهاكات ضد العمالة الأجنبية.

ونظرًا لهذا الجانب المظلم في مسألة بناء متحف اللوفر أبوظبي، استخدم إيمانويل ماكرون لغة فظّة بشكل لافت، عندما مازح في بداية حديثه، قائلًا: "ليس حقيقيًا أن يتخلى بلد مثل فرنسا عن بعض من أجمل أعماله الفنية، حتى وإن كانت على سبيل الاقتراض. ففي الواقع، يعد ذلك تعذيبًا".

وبغض النظر عن هذا الخطأ، تحدث إيمانويل ماكرون ببلاغة عن استخدام المتحف باعتباره أداة -أو في الواقع باعتباره مصدر- للقوة الناعمة. ومن خلال جمع القطع الفنية القادمة من القرون الماضية والقارات العديدة، صرّح، مُذكّرًا الجميع بأن الجمال مطلبٌ وإلهام عالمي، قائلًا: "إنه يكشف عن رابط خاص بيننا جميعًا، ويشكل جسرًا بين القارات التي يرغب البعض في تقسيمها". إلا أن هذا الجسر يتعرض للتهديد. فقد ذكّر ماكرون مضيفيه بأنهم يجدون أنفسهم "في قلب التوترات الجيوسياسية التي تهز العالم، والتحديات المعقدة التي ليست حضارية ودينية فحسب، بل أيضًا مناخية".

 ولعل إشارة ماكرون إلى الاحتباس الحراري كانت تستهدف ترامب، الذي لم تتضمنه بكل وضوح قائمة الدعوات المرسلة إلى 100 من قادة العالم لحضور قمة المناخ في باريس خلال الشهر القادم، فقد سبق له أن أعلن انسحاب بلاده من اتفاق باريس للمناخ.

دوافع فرنسا الحقيقية من وراء مشروع اللوفر بأبوظبي، هو الحصول على 750 مليون دولار من الإمارات في ظل أزمة اقتصادية تعرفها باريس

كما لم يغض إيمانويل ماكرون الطرف عن التأكيد على اللحمة الدينية والعقائدية، فقد قال: "ترتبط دياناتنا ببعضها البعض بأسلوب جوهري وغير قابل للمحو"، مُستنكرًا "ما يقوله هؤلاء الذين يدعون أن الإسلام اُسس على تدمير الديانات التوحيدية الأخرى"، مُؤكدًا أن فرنسا "تقف بثبات في الكفاح ضد جميع أشكال الظلامية". يبدو إذن أن المرء لا يحتاج لأن يكون خبيرًا أو مُؤرخًا للاحتفاء بكياسة ماكرون ولباقته في الربط بين الإرث الثقافي والفكري لفرنسا وبين الأحداث الحالية.

اقرأ/ي أيضًا: العبودية الحديثة.. تجدد الدماء في عروق أسواق النخاسة الإماراتية

ومن أجل استحضار النور الذي ينعكس في الصحراء والبحار المحيطة، وهو النور المنعكس عبر السقف المزركش للمتحف، ارتكز إيمانويل ماكرون على عصر التنوير ونور العقل. وبوقاحة بديعة، ألقى ماكرون بالكرة في ملعب التدريس باللغة الفرنسية في المدارس الإماراتية، وذلك من خلال اعتبار أن الفرنسية "ليست لغة العقل وحسب، بل وأيضًا لغة الأنوار"!

ومن المفارقة أن حديث إيمانويل ماكرون المتحمس، يمكن تفسيره بأوجه عدة، لا تقتصر على انتقاد القوة الصلبة المُجسدة في السياسة الخارجية لترامب، بل أيضًا عودة إلى الطريقة التي تساعد بها القوةُ الناعمة القوةَ الصلبةَ وتحرض عليها. بدا هذا بوضوح في زيارته في اليوم التالي إلى القاعدة البحرية الفرنسية في أبوظبي، وهي القاعدة التي افتتحت عام 2009 لتكون المشروع الأول من نوعه لأي حكومة فرنسية منذ 50 عامًا، وهي إحدى إنجازات الرئيس الفرنسي المحافظ نيكولا ساركوزي الذي كان مهتمًا ببناء القواعد العسكرية أكثر من المتاحف. 

ونظرًا لأن إيمانويل ماكرون وصف نفسه برئيس تشبه سلطته سلطة جوبيتر، ملك الآلهة الرومانية وإله السماء والبرق في الميثولوجيا الرومانية، فلم يخجل بتعريف نفسه بأنه القوة الصلبة للجيش الفرنسي. ذكّر إيمانويل ماكرون أفراد الجيش المجتمعين قائلًا، إن "حضورنا هنا، وبالتأكيد حضوركم هنا، هو علامة على أن فرنسا تضطلع بمسؤولياتها، سواء كان ذلك من خلال الدبلوماسية، وإذا تطلب الأمر، فمن خلال الإجراءات العسكرية". وبنبرة ديغولية، أعلن إيمانويل ماكرون: "إنها إشارة على أن فرنسا تحافظ على مكانتها في عالم متقلب".

بيد أن العلاقة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة تنجح عبر مزيد من الطرق الأكثر مكرًا. ففي حديثه المتكرر الذي ربط خلاله بين نور الطبيعة ونور الفكر -من خلال الإشارة إلى أن إشراق نور الصحراء يمكن أن يُحتفى به عبر نور المعمار الفرنسي واللغة الفرنسية- خشي إيمانويل ماكرون من أن يجازف بالانزلاق نحو نوع من الاستشراق.

لوحة "نابليون عابرًا جبال الألب"
لوحة "نابليون عابرًا جبال الألب"

فعلى الرغم من أن اللوحة الشهيرة لجاك لوي دافيد، التي صور فيها نابليون وهو يعبر الألب ممتطيًا جوادًا أبيض اللون (وفي نسخ اُخرى بألوان مختلفة)، كانت حاضرة ضمن المجموعة التي أُعيرت إلى المتحف، فقد برز غياب الأعمال الاستشراقية لأوجين ديلاكروا، وهي اللوحات التي صورت الطرق التي أثار من خلالها عديد من الفنانين التأييد الشعبي للقوة الصلبة بلا تردد في الغزو العسكري والاحتلال، ويتضمن هذا أشهر أعمال أوجين ديلاكورا الفنية، وهي "الحرية تقود الشعوب"، إحياءً لذكرى ثورة تموز/يوليو الفرنسية عام 1830، التي اختفى فيها الملك لويس فيليب عن الأنظار بعد توليه السلطة في هذا العام.

لوحة "الحرية تقود الشعوب"
لوحة "الحرية تقود الشعوب"

وفي نهاية المطاف، تعتبر القوة الناعمة أداة ضمن أدوات أخرى. فمن خلال استحداث مجتمع مدني، يمكن للجهات الفاعلة من الدول أن تستخدمها استخدامات تكتيكية -وبالفعل تقوم هذه الجهات بذلك- يمكن أن نعترف من خلالها بأنها أخلاقية. لكن القوة الناعمة ليس مفهومًا معياريًا، وهي شيء تمارسه الجهات الفاعلة السيئة.

وأشار جوزيف ناي، الذي صاغ المصطلح منذ أكثر من ربع قرن، إلى أن هذا الالتباس يُضرب له مثل من خلال إساءة القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى الإسلام. إلا أن هذه أيضًا هي المسألة مع الحركات العرقية والقومية الأخرى، سواء كان ذلك مع حالة تسليح الجبهة الوطنية لمارين لوبان، التي شُبهت بالقديسة جان دارك، أو القضية الخاسرة للعنصريين البيض من الأمريكيين.

"القوة الناعمة" ليست مفهومًا معياريًا، فهي شيء قد تمارسه الجهات الفاعلة السيئة أو "غير الأخلاقية"

وفي نهاية المطاف، يطالبنا بيان إيمانويل ماكرون بالنظر إلى الزوايا الأفضل للقوة الناعمة، وذلك من خلال التشديد على ما يتشارك فيه الشرق والغرب، وذلك عبر استدعائه للروابط الثقافية والدينية التي تربط ولا تفرّق، وتكراره للمبادئ الثورية المتمثلة في الأخوة والمساواة (من الواضح أن الحرية لم تحظى بمكان في حديثه). وعلى أقل تقدير، ضَمَن إيمانويل ماكرون لفرنسا مكانًا على رأس قائمة "مؤشر القوة الناعمة 30". وسواء استطاع ماكرون، أم لم يستطع، أن يضمن مرونة واستمرار القوة الناعمة البحتة في عصر تتصاعد خلاله وتيرة القومية العرقية، فربما لن يُعرف هذا قبل تجديد عقد متحف اللوفر أبوظبي بعد ثلاثين عامًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماكرون والشرق الأوسط.. ماذا ترَك رجل الوسط لأهل اليمين؟

كيف خلقت الإمارات مجتمعًا ثقافيًا مواليًا لأجندتها؟