15-مايو-2018

من فيلم باب الشمس، إخراج يسري نصر الله

من الصعوبة بمكان القول إن السينما المصرية استطاعت تحقيق ما يقال من أن السينما هي ضمير الأمم، على الرغم من مرور حوالي 95 عامًا على ظهور الأفلام الروائية الطويلة، تم خلالها إنتاج عدة آلاف من الشرائط السينمائية – لم يتم حصر عدد الأفلام التي أنتجت خلال هذه الفترة تحديدًا- إلا أن هذا الكم الكبير لم يستطع تحقيق أبعاد تلك المقولة حتى يصبح المصدر الرئيسي الذي يحاكي ضمير الأمة، أو أن يكون معبرا عنها في أزماتها ومصدرًا للتاريخ تتوارثه الأجيال أو أداة لتعريف الشعوب بها.

من الصعوبة بمكان القول إن السينما المصرية استطاعت تحقيق ما يقال من أن السينما هي ضمير الأمم

ويرجع أسباب هذا التقاعس إلى العديد من المحاور التي هي في ذات الوقت سمات أساسية تتصف بها السينما المصرية، وأولها أن الإنتاج السينمائي المصري من الأفلام الروائية الطويلة يغلب عليه تلك النوعية التي يُطلق عليها "الفيلم الاجتماعي"، خاصة تلك الجانحة بالمشاهد نحو الميلودراما وإثارة نوازع الشجن عند المتلقي، لا سيما أن موضوعات هذه النوعية تدور أحداثها داخل جدران الحجرات المغلقة على أسرارها وعلى شخوصها أيضا، تلك الشخصيات التي لا تتجاوز في تركيبتها الاجتماعية محيط تكوين الأسرة، مضافًا إليها دخيل ما يمثل عنصر الإثارة مولدًا صراعًا ينبش داخل جوانب الموروثات العقائدية والاجتماعية، التي تتمثل عادة في الثنائي التقليدي للظالم والمظلوم، الخير والشر، وغيرها من المتضادات.

اقرأ/ي أيضًا: رضوان الكاشف.. قصة "فيلسوف" السينما المصرية

أما القليل النادر من الأفلام التي ابتعدت عن هذا القالب، فقد حمل مجمل الأحداث الملتهبة التي مرت بها الجماعة المصرية والعربية، إما من خلال رؤية ساذجة أو مفاهيم تحمل سمات الفكر الموجه أو ثقافة المتفرج اللاهي. هذا إلى جانب فقدان السينما للذاكرة حتى إنها لا تتذكر مرور الحدث إلا بعد سنوات طويلة على حدوثه. وقد يكون لصناع السينما عذر تاريخي لما لاقوه من معاناة وخسارة مادية كبيرة وصراع طويل مع السلطات، فضلاً عن عدم توافر المواد التاريخية الموثوقة، إلا أن الأمر أصبح في إطار العادة التي حافظت عليها الأجيال، وبالتالي افتقدت السينما المصرية معها أهم الركائز الأساسية التي تجعلها حاملة لضمير الأمة.

أحداث ملتهبة.. غياب سينمائي

على الرغم من الأحداث الملتهبة العديدة التي تحمل في جوهرها محور قضايا مصر المصيرية، خاصة في تلك الفترة التي شهدت دخول السينما مجال إنتاج الأفلام الروائية الطويلة، فقد مرت هذه الأحداث مرور الكرام دون أن تعايشها معايشة حقيقية أو تصوغها صياغة فنية ذات قيمة، ابتداء من الحركة الوطنية المصرية وتطورها ضد المستعمر البريطاني، إلى بداية أحداث النكبة الفلسطينية وتداعياتها 1948، ثم قيام حركة الضباط الأحرار 1952، وانتهاء الملكية وعدوان 1956، وهزيمة 1967، وقيام الجمهورية الثانية 1970، ثم اغتيال أنور السادات. وهو الأمر الذي سيتكرر بعد ذلك بسنوت طويلة مع ثورة 25 يناير، ومن بعدها استيلاء الجيش مجددا على الحكم في 30 تموز/يونيو 2013، وغيرها من الأحداث التي كان لها تأثير مباشر في تغيير الواقع. افتقدت الأفلام التي اهتمت ببعض هذه القضايا للقيم الفنية وحملت مجرد رؤى ساذجة للعديد من الأحداث الهامة التي لا تحمل إلا مجرد الذكرى. ومن كثرة بثها موسيميا على الشاشات، فقدت حتى تأثيرها الترفيهي على المشاهدين.

القضية الفلسطينية بكل أبعادها كانت المحور الرئيسي للقضايا العربية -ظاهريًا على الأقل- سواء على المستوى القطري أو على المستوى الدولي. والحق أنها نالت الاهتمام السينمائي من حيث عدد الأفلام المصرية التي تناولتها بكافة سبل المعالجات المباشرة وغير المباشرة. فقد تجاوز عدد الأفلام التي تناولتها 27 فيلما، بينما حدث مثل قيام ثورة يوليو 1952 لم يتناوله إلا فيلم واحد هو فيلم "الله معنا" (1955، إخراج أحمد بدرخان). وهناك أربعة أفلام أخرى أشارت إلى هذا الحدث الكبير أو جعلته خلفية لأحداثها مثل فيلم "رد قلبي" (1957، إخراج عز الدين ذو الفقار)، وفيلم "غروب وشروق" (1970، كمال الشيخ).

على الجانب الآخر نجد أن حدثًا هامًا أيضًا عايشته مصر بكل وجدانها وشارك فيه كل شرائح الشعب المصري على كافة المستويات وهو العدوان الثلاثي عام 1956، لم تتناوله السينما إلا في فيلم وحيد هو فيلم "بورسعيد" (1957، إخراج عز الدين ذو الفقار)، والذي أُنجز بتكليف مباشر من جمال عبد الناصر لفريد شوقي، بما يوحي بطبيعته الدعائية، إضافة إلى ثلاثة أفلام أخرى أشارت للحدث، في مقدمتها فيلم "سجين أبو زعبل" (1957، إخراج نيازي مصطفى) وآخرها فيلم "ليلة القبض على فاطمة" (1984، إخراج هنري بركات).

تنويعات فيلمية

تعددت مستويات قراءة أبعاد القضية الفلسطينية سينمائيًا عند صناع السينما، فقد تناول كل منهم زاوية خاصة أحادية، فمنهم من رأى أنها رد فعل لاندلاع الصراع حول بعض القضايا المحلية، مثل قضية الأسلحة الفاسدة التي استخدمتها الجيوش العربية في حرب 1948، ومنهم من رأى هزيمة العرب في الحرب سببًا رئيسيًا لقيام ضباط الجيش بإزاحة الملك فاروق عن حكم مصر. وعلى الجانب الآخر، حقق البعض مستوى آخر من القراءة حين تناول النتائج التي خلفتها الحرب على الصعيد الاجتماعى، ولكن تطبيق ذلك كان دائما محصورا في إطار رومانسي تصبح فيه القضية مجرد خلفية يتم تركيب أحداث الفيلم العاطفية من خلالها. بعض هذه الأفلام أُخذ من نصوص أدبية عالمية مثل "آنا كارنينا" و"ذهب مع الريح" و"الحداد يليق بإلكترا" بعد أن اُستبدلت أحداث هذه الروايات بالحرب العربية الإسرائيلية. أما القراءة الأخيرة فقد تناولت تطورات مراحل القضية من خلال الصراع بين أجهزة المخابرات، فكانت أفلام مثل "مهمة في تل أبيب" و"48 ساعة في إسرائيل" وغيرها من أفلام الجاسوسية التي اشتهرت بها السينما المصرية في فترة التسعينات بعد النجاح الذي حققه الفيلم الأول في هذه السلسلة وهو فيلم "الصعود إلى الهاوية" (1978، إخراج كمال الشيخ).

يقف الفيلم الملحمي "باب الشمس" في منطقة تخصّه وحده لا ينازعه فيها أي فيلم تناول القضية الفلسلطينية من قريب أو بعيد

بعيدًا عن كل ما سبق، يقف الفيلم الملحمي "باب الشمس" بجزأيه (2004، إخراج يسري نصر الله) في منطقة تخصّه وحده لا ينازعه فيها أي فيلم تناول القضية الفلسلطينية من قريب أو بعيد.

اقرأ/ي أيضًا: جان شمعون.. طاقة حب توثق الحرب

ومن المفارقات الغريبة أن يحمل أول فيلم تناول القضية الفلسطينية عنوان "فتاة من فلسطين" (1948، إخراج عز الدين ذو الفقار) ويُعرض في أعقاب إعلان قيامة دولة إسرائيل ودخول الجيوش العربية على خط المواجهة، وأن يأتي بعد خمسين عامًا من هذا التاريخ فيلم بعنوان "فتاة من إسرائيل" (1999، إخراج إيهاب راضي). والمفارقة تكمن في أن كلا الفيلمين يروي حكاية فتاتين، الأولى أتت من فلسطين وأنقذت الطيار المصري المشارك في الحرب ثم نشأت بينهما قصة حب ستنتهي بالزواج، خصوصًا بعد اكتشاف الطيار أن الفتاة هي ابنة عمه المقيم في فلسطين! أما الفتاة الأخرى الآتية من إسرائيل ابنة واحد من الجيل الأول للمستوطنين اليهود، فهى تعمل على الإيقاع بالفتى المصري في حبائلها حتى يصاب بالإيدز. ونلاحظ هنا الهوة بين طريقتي العرض والاشتراك في سذاجة التناول السينمائي والفكر الحاكم لأبعاده في السينما المصرية، فضلًا عن الحقيقة السيئة التي تبيّنها عناوين الأفلام، فلم تعد فلسطين موجودة بل صار الشباب المصري يتعثّر بالإسرائيليات القادمات إلى شواطئ سيناء للاستجمام واختبار الفحولة المصرية بهدف إضعافها.

لكن يبقى أنه رغم اختلاف وتعدد تناول القضية الفلسطينية، إلا أن السينما المصرية لم تقترب كثيرا من بؤرة الصراع، بل اقتصرت على النتائج التي ترتبت عليها. بعض الأفلام تناولت الجانب الاجتماعي للمصابين أثناء الحرب، بوجه خاص، وكانت البداية مع فيلم "فتاة من فلسطين". ثم ظهر الفيلم الثاني "نادية" (1949، إخراج فطين عبد الوهاب) وهو يتناول أيضا أحوال فتاة يحمل الفيلم اسمها كرست حياتها للاعتناء بأخيها الأصغر حتى تخرّج ضابطا من الكلية الحربية وذهب إلى ميدان المعركة في فلسطين ثم استشهد هناك. وفي عام 1957 قدّم كمال الشيخ فيلم "أرض السلام" الذي يتناول أيضًا المقاومة الفدائية بعد انكسار الجيوش العربية في حرب فلسطين من خلال قصة حب بين فدائي مصري وفتاة فلسطينية.

في جانب آخر، كانت الرؤية أكثر وضوحًا في تناول السينما لقضية الأسلحة الفاسدة واعتبارها السبب الرئيسي وراء الهزيمة، لناحية ارتباطها بفساد الملك فاروق المسؤول عن توريد هذه الأسلحة للجيش، رغم أن التاريخ يبرّئ هذه الأسلحة من هزيمة جيش مصر في حرب 48. لكن اعتبارات المرحلة الجديدة التي دخلتها مصر بعد وصول ضباط الجيش إلى الحكم قضت أن تربط الأفلام بين الأسلحة الفاسدة وهزيمة فلسطين وقيام ثورة يوليو. أول هذه الأفلام كان "الله معنا"، وعلى منواله سارت أفلام "رد قلبي" و"من أحب" (1966، إخراج ماجدة الصباحي)، و"غروب وشروق"، وأخيرًا فيلم "الأقدار الدامية" (1982، إخراج خيري بشارة).

كل هذه التنويعات تناغمت على إيقاع البعد الرمزي للقضية ولم يكن هناك اقتراب منها بالمعنى الموضوعي المادي، الذي يمكن أن يحقق تجسيدًا سياسيًا أو تاريخيًا، أو حتى دينيًا، يستطيع من خلاله الإجابة على تساؤل بسيط: لماذا فلسطين تحديدًا؟

فيلم وحيد

الفيلم الوحيد الذي حاول الإجابة عن هذا التساؤل هو فيلم "الدخيل" (1967، إخراج نور الدمرداش)، وقد عُرض قبل هزيمة الخامس من حزيران/يونيو بأسابيع قليلة. يتناول الفيلم المأساة الفلسطينية من زاوية تاريخية تصطبغ بصبغة اجتماعية تعليمية، من خلال إسقاط حكايته بشكل واضح على قصة الاحتلال اليهودي لفلسطين، بدءًا من الفترة التي تلت وعد بلفور وبدء المخطط الصهيوني للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية.

لم تقترب السينما المصرية من بؤرة الصراع العربي الإسرائيلي، بل اقتصرت على النتائج التي ترتبت عليها

تدور أحداث "الدخيل" حول قرية مصرية صغيرة يتردد عليها بائع متجول للأقمشة الملونة (محمود المليجي) التي ترتديها فلاحات القرية، وهو أجنبي مستعرب/خواجة له ابنة جميلة (ليلى فوزي) يضعها في طريق ابن العمدة الشاب عبد العليم (حمدي غيث). تنجح الفتاة في الإيقاع بابن العمدة في شباكها وتبدأ الخطوة الأولى من المخطط، فيقوم الشاب ببيع مخزن للقطن على أطراف القرية لوالدها لتحويله إلى محل يباشر فيه الخواجه تجارته بدلًا من التنقل على ظهر عربته بين البلاد، وحتى تبقى الفتاة الجميلة أمام ناظري الشاب الريفي الذي أهمل خطيبته الطبيبة الجميلة أيضًا (زيزي البدراوي). وينجح الخواجة وابنته اللعوب في جذب العديد من شباب القرية إلى تجارته حيث يفتتح لهم مقهى سرعان ما سيتحول إلى وكر لتناول الخمور ولعب القمار، تقوم فيه ابنته بكل أنواع الإغراء للشباب الريفي الساذج. يتوالى شراء الخواجة لأراضي الفلاحين، تحت وطأة حاجتهم إلى المال، أو بفعل مكر الخواجة وإغراء ابنته. تتسع مساحة الأرض التي يمتلكها الخواجة، ثم يأتي بعدد كبير من المسلحين يدعي أنهم أقاربه، طردوا الفلاحين من أراضيهم واحتلوها.

اقرأ/ي أيضًا: بشار إبراهيم.. صندوق الذاكرة السينمائية

في الأثناء تفسخ الطبيبة خطبتها من عبد العليم، ويعترض شقيقها على وجود الخواجه وعشيرته في القرية، فتدبر ابنة الخواجة مكيدة لقتل شقيق خطيبة ابن العمدة (وهو أيضًا ابن عمدة قرية مجاورة) وإلصاق التهمة بعبد العليم. هنا يشعر الأهالي بالخديعة التي أوقعهم فيها الخواجة وابنته، فيتحدون مع أهالي القرى المجاورة، وتنشب معركة حامية بينهم وبين الخواجة وعشيرته، تنتهي بقتله وإصابة ابن العمدة برصاصة على يد الفتاة، لكن ابن العمدة يقتلها قبل أن يموت.

ولا أدري تحديدًا لماذا عالج الفيلم المسألة الفلسطينية من خلال هذا الأسلوب الرمزي، إلا رغبة في تفادي المباشرة، مثلًا، لكنه على أي حال يكفي أن يكون هذا الفيلم هو الفيلم المصري الوحيد (إذا استثنينا "باب الشمس" باعتبار جنسية مخرجه) الذي حقق بعدًا موضوعيًا في تناوله للقضية الفلسطينية ويصلح، على الأقل، مدخلًا سينمائيًا مناسبًا للمشاهدين الصغار للتعرف على قصة احتلال فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا:

القضية الفلسطينية في السينما المصرية..سؤال التطبيع والالتزام

إيليا سليمان.. كيف تصل العالمية بثلاثة أفلام فقط