31-مارس-2017

تجهيز لـ سيمين فرحات/ الباكستان

أن تكون قاصًّا، يعني ألا تكتفي باستعمال حواسّك كلّها فقط، بل أن تجعلها مضاعفة أيضًا، ذلك أن القصّة، بغض النظر عن طولها أو قصرها، تتغذى على الحواس المضاعفة، أن تشوف مضاعفًا، فتصير الشوفة تشوّفًا، القصّة ليست آلة تصوير للواقع، ذاك إبداع تجاوزه الزمن، مثلما تجاوز مصباح الكاز، بل هي أن تخلق الضوء نفسه. أن تسمع مضاعفًا، فيصير الدبيب لديك، في حجم ارتطام صخرة، القصة ليست نقلَ خبرٍ/ حدثٍ صنعته مخلوقات كبيرة، ذاك دور ولّى، تمامًا كما ولى دور ساعة الرمل، بل هي أن تخلق الصوتَ نفسَه.

القصّة، بغض النظر عن طولها أو قصرها، تتغذى على الحواس المضاعفة

أن تلمس/ تشم/ تتذوق ما يُرى وما لا يُرى، فتمنحه أو يمنحك حرارة خاصة، يجدها القارئ في لغتك، فينسى أن يُشغِّل المدفأة في عز الثلج. كيف أشرح علاقة اللغة القصصية بالبياض؟ ذلك أن وعي القاص في الحقيقة، لا يتجلى فيما يعتمده من كلمات وجمل وسطور وفقرات ومشاهد، انطلاقًا من الحاجة الفنية فقط، بل في ترك ما يجب أن يُترك من كلمات وجمل وسطور وفقرات ومشاهد، انطلاقًا من عدم الحاجة الفنية إليها أيضًا، وهو بهذا يشبه العازب يدخل السوق: لا يرهق قفته/ ثلاجته خارج حاجته، فإن فعل عُدّ مبذرًا أو عدوًا لجيبه. أتصور الروائي على عكسه تمامًا، يشبه المتزوج بامرأة ولود، سيجوع عياله، إن لم يَعُدْ بالسوق كلّه.

اقرأ/ي أيضًا: "مجاز السرو" لعبد الوهاب عيساوي.. للقصّة رائحة

من هنا، فالقصة لحظة وعي بامتياز، وعي بما يُكتب/ يُصوّر، وما يترك نهائيًا أو يُترك لسياق آخر، ووعي بطبيعة اللغة التي تستوعب ما تفرضه اللحظة الفنية والإنسانية، ووعي بطبيعة المعمار الذي ينسجم مع تلك اللحظة، ووعي بالنقطة التي يجب أن يتم التوقف عندها، ووعي بالفراغات/ البياضات التي هي من حق المتلقي بصفته شريكًا، ذلك أن أي هضم لحق هذا المتلقي في تلك الفراغات، هو طعن لمصداقية الكتابة القصصية نفسها، والتحاق بمنطق رجال الكهنوت الذين يعتقدون أنهم مخولون بمنح نصوص كاملة غير قابلة للتأويل.

هذا الوعي العنقودي لدى القاص الحديث/ الحداثي، يجعل شقاءه وحظه عميقين في الوقت نفسه، فهو شقي بمتابعة كل الحركات والتحولات والأحداث، قراءة ومشاهدة وتأملًا واستشرافًا، فقد يكون مشغولًا بتفصيل صغير في اللعبة، بينما يستمتع غيره باللعبة، أو تفصيل صغير في الكأس، بينما يستمتع غيره بالدوخة، ومحظوظ لأنه يجد مادته القصصية في كل بقعة أو حركة أو حدث إنساني. هنا أتذكر ما قالته لي صديقة عميقة: "لن أرتبط بقاص أبدًا، فقد ينطلق من ابتسامة لي، أثمرها إحساس عميق به، في كتابة قصة قصيرة، ويترك فمي بلا قبلة". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

القصّة القصيرة.. سلطة الهامش

الغاية.. أو ما يشبه القصة القصيرة