10-أكتوبر-2018

لوحة صالون مدام جيوفرين لـ غابريل لومينير

في مقالته الشهيرة "ما هو التنوير؟" التي لها عدة ترجمات عربية ويعود تاريخ كتابتها إلى أواخر القرن الثامن عشر، يورد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط تعريفه للتنوير على أنّه "انعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. إذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والإقدام لاستخدامها دون إرشاد الآخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذًا: تحلَّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك".

إنّ سلطة النصّ هي سلطة يُمارسها النصّ المقروء على ذهن قارئه بهدف تثبيت هذا الذهن وإخضاعه له

تبعًا لتعريف كانط السابق، فإنّ التنوير هو مفهوم يقوم أساسًا على حالة الانعتاق الذاتي من أية وصاية لأية سلطة مهما كانت ومهما تعددت أشكالها.

اقرأ/ي أيضًا: هل الفلسفة الغربية عنصرية وكارهة للأجانب؟

وإذا كان الحديث عن أشكال السُلطات يدفع بذهن المرء إلى أشكال السلطات التقليدية المعروفة كالسلطة الدينية والسلطة السياسية، فإنّ هناك بعض أنواع السلطات قد تُمارس على المرء سطوة خفية غير مدرَكة ولا ملاحَظة، وأبسط مثال عليها تلكَ السلطة المعرفية التي تأتي من قلبِ النصّ فيما يُعرف بـ"سلطة النصّ".

لكنّ ما هي سلطة النصّ؟ وما طبيعتها؟ وما هو الخطر الذي تُمثّله ويجعل الحديث عنها ضرورة تتطلبُها مقتضيات مناهضة هذه السلطة ومقاومتها؟

وضمن السياق السابق، يُمكن القول إنّ سلطة النصّ هي سلطة يُمارسها النصّ المقروء على ذهن قارئه بهدف تثبيت هذا الذهن وإخضاعه له، أي أنّه نصّ يطمح إلى أن يُمارس نوعًا من أنواع العربدة اللغوية على ذهن قارئه عبر إقناعه بأنّ ما جاء به هو الحقّ الوحيد والحقيقة الفريدة، وعبر قمع أي هاجس شكّي قد يدفع بالذهن إلى الشكّ في متن محتواه أو إلى محاولة القفز عن معطياته الراهنة وإعادة تأويله.

إنّ ذلك النوع من أنواع النصوص يمتلك سلطة معرفية، تريد أن تضع ذهن القارئ في إقامة جبرية مؤبدة لتفسير وتأويل واحد، لا يجوز الشكّ في صحته ولا يجب القفز عنه أو محاولة الخروج عليه.

إنّ خطر هذا النوع من النصوص يكمن في أنّه يأتي بما يُهدّد القارئ وعملية القراءة بحدّ ذاتها، فهو لا يكتفي بالعربدة على ذهن القارئ وتصوير نفسه له كما لو كان حاملًا لحقيقة تنتفي معها كل احتمالات الحقائق الأخرى، بل إنّه يريد نسف عملية القراءة بحدّ ذاتها عبر إخراجها من كونها قراءة تنويرية وتثويرية، هدفها إيقاظ ذهن القارئ وجعله يخلق تفاعلًا ما مع النصّ المقروء –سواء عبر الاعتراض عليه أو التعقيب على محتواه أو محاولة إعادة تفسيره- إلى قراءة أخرى ميتة تتمّ عبر أطر لا تفاعلية، لا ينفعل فيها القارئ معترضًا أو معقِّبًا أو مفسِّرًا، وإنما يكتفي بالبقاء صامتًا، أو إصدار إشارات التوافق والتأييد المطلق لمتن المكتوب.

تبعًا لما سبق، يُمكن التأكيد على أنّ أكبر تمثيل على هذا النوع من النصوص هو النصّ الذي يأتي في صورته الواضحة القاطعة التي لا تحتمل التأويل أو التفسير، فهذا النوع من النصوص الواضحة والمُحكَمة، بحسب ما يورده المفكّر علي حرب في كتابه "أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر": "هو من فرط وضوحه يَحجِب كونه يفترض قارئًا جاهلًا يتوجّه إليه ويُمارس عليه سلطته المعرفية، ولهذا فهو أقلّ احترامًا للقارئ مما يظنّ عادة".

يُضيف حرب ضمن إطار حديثه عن هذا النوع من أنواع النصوص القطعية الجازمة والمحكَمة "إنّ العمل المحكم يَحتاج إلى قارئ يُحكم سيطرته عليه بإفحامه وإسكاته وإزالة أي إمكان عنده للمساءلة والاعتراض. ومثل هذا العمل يُمارس ضربًا من الخداع حيال قارئه: فهو لكونه يتوسّل بلغة مفهومة معقولة ويقدّم نفسه على نحو واضح محكم، يوهِم القارئ بأنّه يَعرِف وبأنّه لا يُقدِّم له إلا ما هو صحيح وحقيقي. ولكنّ ما لا يقوله هذا العمل، هو أنّ صراحته وإحكامه وجاهزيته وأحاديته، كلّ ذلك ينبني على جهل القارئ، فضلًا عن كونه يحجب واقع الخداع الذي يُمارسه".

وعلى النقيض من هذا النوع من أنواع النصوص السلطوية الواضحة، يقع النصّ الغامض، هذا النصّ الذي يتعاطى مع قارئه بنوع من الاحترام عندما يخاطب ذهنه طالباً منه أن يمتطي صهوة الشكّ فيه غير ممانعٍ أو ممتنعٍ عن محاولات فكّ ترميزاته أو القفز على محتوياته أو إعادة خلقه عبر تأويلاته.

علي حرب: العمل المحكم يحتاج إلى قارئ يُحكم سيطرته عليه بإفحامه وإسكاته وإزالة أي إمكان عنده للمساءلة والاعتراض

وعن هذا النوع الثاني من النصوص اللاسلطوية الغامضة، يتحدّث حرب في كتابه السابق، ويوضّح سبب اعتباره لهذا النوع من النصوص نصوصًا إبداعية في الأساس، حيثُ يقول: "إنّ النصّ الذي يصدر عن إبداع لا ينصُّ على مراده مباشَرَة ولا يدلّ على مدلوله دلالة تستغرقه، بل هو نصّ يسكت بقدر ما ينطق، ويستبعد بقدر ما يُرجّح، ولا يكتمل فيما هو يفيض، إنّه فضاء تأويلي يجعل منه مجرَّد قابلية لأنْ يُقرأ، وكلّ قراءة له تعيد إنتاجه بمعنى ما وتغايره مغايرة ما. ولا يمكن أن تتطابق معه إلا القراءة الحَرْفية التي تعادل الصمت، أيْ اللاقراءة".

اقرأ/ي أيضًا: الحياة الجيدة كما تصورها فلاسفة الإغريق

أخيرًا، وإذا كان التنوير بحسب حرب يعني "أنْ يفعَل المرء بقدر ما ينفعل، ويرُدّ بقدر ما يتلقى، ويُسائل بقدر ما يَسأل، ويُعرّف بقدر ما يَعرف"، فما أحوجنا اليوم إلى ذلك القارئ المتنوّر الذي يُمارس قراءته التنويرية للنصوص التي تقع بين يديه غاضًا الطرف عن أحوال وضوحها وغموضها، ما أحوجنا إلى ذلك القارئ الذي ما أن تقع عينه على نصٍّ ما حتى ينفي عنه حالة عجزه الذاتيّ أمامه، فيُقبِل عليه بنَفَسٍ منفَعِل؛ يعارضه ويحاججه، يسأله ويُسائله، يَأخذ منه وبضيف عليه، يُلقي إليه ويتلقى منه، وذلك كلّه ضمن عملية قراءة تنويرية تفاعلية لا تخضع لسلطته المعرفية وإنّما تأتي هيَ لتكون مساهِمة كبُرى في تحريره منها!

 

اقرأ/ي أيضًا:

النزعة الإنسانية عند وليام جيمس

"دعونا نتفلسفْ".. كيف سار عظماء الفكر عكس التيار