16-فبراير-2018

من الفيلم

منذ بدأت الأنظمة المستبدة صراعاتها السياسية المحتدمة، لم تكف الشاشات عن نقل أخبار الغرقى وضحايا الهجرة في قلب البحر المتوسط. قديمًا كان هناك الأفارقة كثابت دائم الحضور في معادلة الهجرة غير المنظّمة إلى الشمال الأوروبي، ثم تبعهم الأفغان، ثم جاء العراقيون والليبيون والمصريون والتونسيون وكافة دول الشمال الأفريقي، إلى أن أُضيف إليهم أصحاب المأساة الأكثر تراجيدية في العصر الحديث: السوريون.

"مهربو البشر" وثائقي يستكشف طريق الهجرة الشاق للوقوف على أسرار تجارة الحدود والقائمين على تلك الصناعة

ملايين السوريين أجبرهم تغول نظام الأسد وتحويله ثورتهم السلمية إلى حرب مفتوحة، إلى مغادرة وطنهم وما تبقى من أماكن ألفوها وعاشت فيها ذكرياتهم الصغيرة. لكن كما أن هناك الحرب وأهوالها على الأرض السورية، ثمة طريق شاق بانتظار من قرر الفرار من الموت واستئناف حياته في مكان جديد لا يستمع فيه إلى أزيز الطائرات الحربية كل يوم.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم المقاطعون.. من هو القاتل؟

الفيلم الوثائقي الدنماركي "مهربو البشر- Human Smugglers" الذي أنتجه التلفزيون الدنماركي "DR" اقتباسًا عن فكرة كتاب الكاتب والصحافي الألماني شتيفان بوخن، وبإخراج كل من بول إيريك هيلبوث وجورج لارسن؛ فيلم يستكشف ذلك الطريق الشاق، متراوحًا بين قارتي أوروبا وإفريقيا، للوقوف على أسرار تجارة الحدود والقائمين على تلك الصناعة التي جلبت الملايين من المهاجرين إلى أوروبا في غضون بضع سنوات، قبل أن يعبّر السياسيون الأوروبيون عن امتعاضهم من هذا التدفق "غير المنظم وغير القانوني" للاجئين إلى أراضيهم. عندما يعلن قادة أوروبا عن خططهم لوضع حدّ لهذا التدفق، فهم يعنون -ضمن ما يعنون- التصدّي لأولئك المهرّبين، لكن ثمة تناقضات حادة بين السياسات الأوروبية المعلنة وبين ما يُطبّق فعليًا على أرض الواقع، سواء تعلّق هذا بالتعامل مع المهاجرين والنازحين وتسيير شروط الوفود إلى أوروبا أم تعلّق بنجاعة وكفاءة عملية التصدّي للمهربين.

في الإقامة والرحيل

برحيل الإنسان عن بلده على غير رغبته يصير غريبًا، ومن أجل الوصول إلى مكان يستطيع فيه احتمال تلك الغرابة، وسط أجواء متربصة بالوافدين من دول الربيع الذي تحوّل خريفًا محتشدًا بجثث الثائرين الحالمين، عليه طلب المساعدة من كل مَن يستطيع تقديمها، سواء كان ذلك بطريقة قانونية أم لا. في الحقيقة، قانونية أي فعل ربما لا تشغل بال مَن غادر بلده نتيجة ظلم نظام غاشم أو فُحش دولة متحالفة مع ذلك النظام. لكن لأن العالم يصرّ على التمسك بالقوانين، وإن صوريًا، تصبح الهجرة غير المنظمة (أو غير الشرعية كما تفيد الأدبيات الرسمية) وموجات النزوح من مناطق الحروب والصراعات المسلحة، جرمًا منفلتًا يتطلب التصدي له ولمرتكبيه، سواء كانوا مهاجرين أو مهرّبين.

المهاجرون والنازحون يظهرون في الأخبار كأرقام غالبًا لا تلتفت إليهم ديباجات النشرات الإخبارية إلا كموضوعات لأحداث مأساوية وحزينة. تتوارى الأسئلة حول هؤلاء، ضحايا حروب الرؤوس الكبيرة، وحول الأسباب الأساسية لمأساتهم وحول المعايير الواجب اتخاذها من دول العالم الغني القادر النافذ تجاه الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتهم. بعيدًا عن تلك الأسئلة المختفية، يظهر المال كعامل أساسي يحدّد طريقة التهريب المتوقعة لعبور الحدود، فإذا لم تكن تملك المال فعليك انتظار موتك هناك في بلدك، أو تجد نفسك واحد من الغارقين على متن مركب مكتظ باللاجئين داخل البحر المتوسط، وكلما استطعت توفير مال كثير زادت فرصك في الحصول على طريقة تهريب آمنة ويسيرة.

يقدم فيلم "Human Smugglers" نظرةً مدهشةً على تفاصيل عمل واحدة من أكبر وكالات السفر عبر العالم، مهربو البشر، نتعرّف فيها على نوع من التراتبية ينظم الطرق المختلفة وترتيبات السفر المخصصة للأفراد وفقًا لقدراتهم المادية، ونقترب من عمليات إنتاج الوثائق المزيّفة ورحلات المهاجرين للعبور إلى الشواطئ الأووربية بمساعدة القائمين على مراقبة الحدود وأمن المطارات. كما يوضح فيلم "Human Smugglers" كيف يعمل المهرّبون معًا ويتنافسون ويتشاركون وتتقاطع سبلهم كما هو الحال في الأعمال الأخرى، غير أن الضغط يزداد هنا لعدم قانونية العمل نفسه وتعرّض المهربين لملاحقات دورية من طرف الأجهزة الأمنية التي تعتبر عملهم جريمة كبرى تستلزم وقفة حاسمة لصدها. لكن فيلم "Human Smugglers" يشير في أكثر من مشهد إلى أن ثمة تواطؤ ضمني يقوم به أفراد الأمن على النقاط الحدودية (أمن المطارات وحرس السواحل)، أسبابه في الغالب مادية بحتة، نظرًا للمردود المالي الجيد الذي يتلقاه أفراد الأمن لقاء إمدادهم المهربين وعملائهم بالمعلومات حول أماكن الدوريات الشرطية والرادارات وأجهزة المراقبة.

إنسانيات

يظهر فيلم "Human Smugglers" أحد المهربين العاملين في تركيا، ليقدّم بلهجة عربية واضحة تشي بأصوله، في إطار تعليله لموافقته على الظهور في الفيلم، تبريره لعمله باعتباره مساعدة وخدمة إنسانية يقدّمها للناس، مصرًّا على أن هدفه مساعدة كلّ مَن يطلب المساعدة وعلى أن ظهوره في الفيلم هو تصحيح صورة المهرّب المشوهة لدى الناس. فالمهرّب، وفقًا لقوله، لا يضر أحدًا ولا يقتل أحدًا. لكن هذا الكلام لا قيمة له لدى كاليجورو فيرارا، المدعي العام الإيطالي، المولود في باليرمو الموبوءة بالمافيا، فهؤلاء المهربون ليسوا سوى شبكة مافياوية لا تهتم بالمصير النهائي لضحاياها من المهاجرين، مثلما يرى. لذا يكون الحال هو ملاحقة هؤلاء المهربين من قبل السلطات وجهات التحقيق الأوروبية من أجل إيداعهم السجون.

يؤكد أحد المهربين في فيلم "مهربو البشر" أن عمله خدمة إنسانية، وأنه يظهر في الفيلم لتصحيح صورة المهربين

نجاح المهربين في تركيا لفت إليهم أنظار الاتحاد الأوروبي وكان لا بد من تدخل عاجل يُوقف المدّ الوافد إلى شواطئ أوروبا الجنوبية. "لا يمكن أن يكون وضعًا صحيحًا هذا الذي نجد أنفسنا فيه، وقد امتلك المهربون السيطرة على زمام الأمور بدلًا من شرطة الحدود"، كلمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تُرجمت إلى 6 مليارات يورو تلقتها تركيا نظير موافقتها على ثلاثة بنود: وقف الهجرة بالقوارب انطلاقًا منها، ومواجهة شبكات التهريب والقبض على أفرادها وتقديمهم للمحاكمة، أما البند الأكثر إشكالًا فهو ذاك الذي ينصّ على إعادة أي مهاجر يقع في يدّ السلطات الأووربية إلى تركيا من جديد، وهو اتفاق يشابه إلى حد كبير ما تداولته التقارير الصحفية العام الماضي، خلال زيارة ميركل نفسها لكل من مصر وتونس والجزائر، عن التوصل إلى اتفاق بين الاتحاد الأووربي وهذه الدول يتيح للأخيرة الحصول على مساعدات مالية ضخمة للتقليل من وتيرة نزوح المهاجرين من شواطئ جنوب المتوسط إلى الجنوب الأوروبي. معادلة تحضر فيها الكُلفات الاقتصادية والصفقات السياسية، ويغيب عنها المهاجرون واللاجئون تمامًا إلا بوصفهم "عنصر غير مرغوب به".

اقرأ/ي أيضًا: 5 أفلام وثائقية عن شخصيات منسية في تاريخ الصراعات العسكرية

تيوزداي ريتانو، خبيرة في شؤون الجريمة المنظمة ومستشارة لدى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، تظهر في فيلم "Human Smugglers" لتقدم طوال مدته مداخلات تخبر عن رؤية تحليلية لا تغفل الجانب الإنساني والنفسي لقضية الهجرة والنزوح. فتشير إلى حضور قضية اللاجئين كورقة يلعب بها الجميع خلال الانتخابات الأوروبية، كما تشير إلى أن المواجهة المعلنة من قادة أوروبا ضد المهربين ليست سوى مواجهة بالوكالة كي لا يعلنوا رفضهم علانية لهؤلاء القادمين إليهم، أو على الأقل ليتركوا ذلك الرفض العنصري للأحزاب اليمينية ذات النزعات القومية المتطرفة، وهذه الأخيرة أسهمها في تصاعد مستمر في الفترة الأخيرة. وفي تعليلها لإقدام المهاجرين على خوض طرق صعبة ومكلفة للعبور إلى أوروبا، تقول إنهم يعلمون جيدًا مى صعوبة الرحلة وخطورتها، لكن الوعد بالمكافأة التي تنتظرهم، هناك في أوروبا، حيث تستطيع أحلامهم صلب عودها، هو ما يجعل سؤال المخاطرة بعيد عن الورود في خاطرهم. "المسألة هنا ليست عن المخاطر، لكن الأهم هو الفرصة المنتظرة"، تقول ريناتو.

مصائر سوداء

في واحد من أكثر فصول فيلم "Human Smugglers" سوداوية، ينتقل الفيلم إلى تونس، حيث قرّر مدرس تونسي بناء مقبرة للغرقى الذين يجرفهم البحر إلى الشاطئ، ولديه جثث كل يوم. في الشهور التسعة الأولى من عام 2016، أكثر من 30 ألف شخص غرقوا أو اختفوا أثناء عبورهم من شمال إفريقيا إلى جنوب إيطاليا، وفي الفترة ذاتها نجح المهربون في تهريب 300 ألف شخص إلى أوروبا. المهاجرون الذين يفشلون في الوصل إلى أوروبا يواجهون مصيرًا أسود، حيث يُباع الرجال عبيدًا للخدمة في الأعمال الشاقة بينما تتحول النساء إلى رقيق جنسي. سوق نخاسة حديث لا قيمة للإنسان فيه إلا في إطار تنفيذ ما يطلبه منه "مالكه". القسوة والضرب والحرمان من الأكل هي طرق المهربين المعتادة في تأديب مَن لا تطعن الأوامر. يقول المهرب في تبريره لذلك: "أنا دافع فلوس، ما آنيش جايبها كي ترقد وتاكل". هذا الرجل هو جزء مما يجب أن تواجهه السلطات الأوروبية، وهو ما ينقلنا إلى واحد من القصص المثيرة للاهتمام في هذا الصدد تتعلّق بواحد من أخطر المهربين المطلوبين أمنيًا.

لقبه "الجنرال"، ويُعتقد أنه المسؤول عن كارثة جزيرة لامبيدوزا (أكتوبر/تشرين الأول 2013، حين غرق قارب قادم من ليبيا على متنه أكثر من 500 مهاجر، بعد احتراقه عقب محاولة قائده لفت أنظار خفر السواحل، ولم ينج سوى 155 فردًا). ألقت السلطات البريطانية القبض عليه، واعتبرت هذه الخطوة نجاحًا عظيمًا لجهود السلطات الأوروبية في مكافحة عمليات التهريب، لكن الصحافة تساءلت حول حقيقة هوية الشخص الذي يتلقى المحاكمة. اتجهت نظريات عدة للاعتقاد بأن الرجل الذي يتلقى المحاكمة باعتباره "الجنرال" ليس سوى مهاجر آخر تسبب تشابه اسمه الأول مع اسم المهرّب المطلوب في وقوعه في ورطته الحالية. وبين إصرار المدعي العام الإيطالي على الاعتراف بخطأ الإجراءات المتخذة بحق الرجل الخاطئ، وتعلّله بعدم تعاون دول مثل السودان وإريتريا وليبيا بما لا يسمح بتكوين معرفة واضحة بدواخل  منظمات التهريب العاملة هناك؛ ينتظر إنسان آخر مصيرًا أسود، ولكن على الجانب الآخر الذي يدّعي مكافحة المهربين المجرمين.

زوّادة أسى تكفي الجميع

تسعة من كل عشرة مهاجرين يستخدمون مهربي البشر لمساعدتهم في عبور الحدود. بشر تركوا أوطانهم كارهين ومرغمين يسعون لاستئناف حياتهم الطبيعية في مكان غريب وغير مألوف، لكن الحدود تظل عائقًا أمام إكمال السعي. هنا يأتي دور المهرّبين، إنهم أشبه بوكلاء السفر الذين يقدّمون المساعدات اللوجستية وينهون الأعمال الورقية اللازمة لنجاح رحلة العبور. في إحدى رحلات العبور، نقابل أسرة سورية كاملة من 7 أفراد، أب وأم وأطفالهما، تدور عليها الكاميرا ليقول كل فرد كلمة قبل النزول إلى البحر في رحلة غير مأمونة النتائج والعواقب. واحدة من الأطفال، اسمها هالا، تقول للكاميرا في فيلم "Human Smugglers": "كنا قاعدين مبسوطين في بيتنا. شتّتونا وباعونا الكلاب. رايحة ع بلاد الله الواسعة.. الحلوة. ع طول بدّي ضل هناك".

تسعة من كل عشرة مهاجرين يستخدمون مهربي البشر لمساعدتهم في عبور الحدود

هنا، تبدو الحياة مجرد مشهد مأساوي قاتم ومتكرر، مشهد يعيد استنساخ نفسه بالصورة نفسها، لأن صورة ذلك الماضي المدمر ستظل حاضرة بقوة مهما اختلفت التفاصيل وزوايا الالتقاط، يصحبها حاضر مأزوم وبحثه اليائس عن مخرج للنجاة أو لتنفس هواء جديد. في هذه المعضلة المربكة يعيش الباحثون عن عبور الحدود سرّا واحتيالًا، وفي المقابل ليس من الوارد أن تلتفت السلطات الأوروبية إلى تفاصيل وتعقيدات معاناتهم إلا من منظور أمني بحت تنتفي فيه عدالة الإنصاف. لذلك سيظل المشهد مأسويًا وقاتمًا حتى في لحظات الهزل والكوميديا، التي يخلو منها فيلم "Human Smugglers" تقريبًا. ولذلك تتحول فكرة الخلاص نفسها إلى مأزق نفسي وقانوني غامض الأبعاد.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الاعتراف".. الخلطة التي يفضلها النظام السوري

وإذا لم يكن هناك سلطة يخلقها الموت سوى محاولة الهروب المستمر منه، والوعي بأنه كينونة تسكننا وتهدد وجودنا في أية لحظة؛ فإن تكرار مشاهد الموت الجماعي في قلب البحر، وكذلك الموت اليومي في الحروب المفتوحة والممولة عبر القارات، لا يسهم إلى في ترسيب مشاعر التعاطف ودفنها عميقًا لحساب تبلد الأحاسيس تحت وطأة التكرار الباعث على اليأس في تغيير أي شيء، تبدو فيه لذات مجرد ديكور فارغ لمأساة تتكرر يوميًا. وهو ما يمثله ببراعة القطع المونتاجي للفيلم في ثلثه الأخير بين معاناة الشاب السوري آراس، الذي فشل أكثر من مرة في السفر عبر تركيا إلى ألمانيا، وبين صورة المهرّب الذي يرفّه عن نفسه في إحدى الحانات. هي صورة ربما تكون اختزالية لكنها تظلّ صحيحة وواقعية بصورة كبيرة، فهناك شخص يكسب عيشه من تهريب البشر عبر وسائل ينتظر بعضهم في آخرها مصير كارثي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "البداية".. مجتمع صغير وإسقاطات كبيرة

5 أشرس سفاحين ظهرت قصصهم على شاشة السينما