05-يوليو-2017

هاني عباس/ فلسطين- سوريا

منذ ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وأخص بالذكر موقع الفيسبوك في عام 2004، تغير العالم بالكامل، ولا اقصد ذلك التغير الطفيف الذي نلاحظه داخل العالم الافتراضي، بل امتد الأمر ليصبح العالم الحقيقي مجرد مردود أو رد فعل للعالم الافتراضي، ليحل الإنترنت بعالمه الوسيع الوهمي محل العالم الإنساني الحقيقي المحدود.. كيف ذلك؟

في ظل الانفتاح الثقافي والفضاء الالكتروني الواسع، لم يعد الرأي حكرًا على أحد

تضاعفت أهمية مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن لعبت دورًا محوريًا في ثورات الربيع العربي، والتسويق لها دوليًا وفضح الأنظمة الدكتاتورية، كذلك تنامى دور صحافة المواطن بشكل كبير، فأصبح كل شخص يمتلك هاتفًا ذكيًا بكاميرا خلفية يلتقط بها الأحداث الساخنة، بإمكانه ممارسة عمل الصحفي الميداني ومراسلة الصحف ووكالات الأنباء، أو وضع ما التقطته الكاميرا مع رأيه الشخصي على مدونته الخاصة، أو صفحته الإلكترونية على موقع الفيسبوك.

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة الأدبية في المستنقع الفيسبوكي

ومن هنا بدأت الأزمة الحقيقية، فأصبح كل مواطن له المنبر الخاص به الذي يمارس من خلاله خطبه الدينية، أو الوطنية، أو التنويرية، أو العلمية، أو الإلحادية، أو حتى الخطب العنصرية المحرّضة على العنف وكراهية الآخر، الأزمة التي خلقتها مواقع التواصل الاجتماعي تتمحور حول فكرة المنابر الإعلامية، فمن المعروف أن المسارح بها عدد من الممثلين يقدمون أفكارهم من خلال العروض المسرحية على جموع المشاهدين المتلقين لتلك العروض، كذلك المنصات التلفزيونية، ومقرات السينمات والندوات التثقيفية وغيرها، ومن المعروف أن عدد أصحاب الرأي وصانعيه أقل بكثير من عدد الجمهور المتلقي، انتهى هذا الأمر بدخولنا الألفية الجديدة، فلم يعد الرأي حكرًا على أحد في ظل الانفتاح الثقافي والفضاء الإلكتروني الواسع الذي ينشر كل الأفكار وكل المعتقدات وكل الآراء وعكسها، فكل الممارسات مسموحة، وكل المعتقدات مباحة، لا رقيب ولا حسيب ولا مراجع عمّا يصدر عن الأشخاص من قول أو فعل، وهو أمر جيد بشكل نظري، حيث امتلك الأشخاص حرية أفكارهم بلا قيد، وإن كانت تلك الحرية "افتراضية" ولكن الجانب الإيجابي أنها تظل حرية مطلقة، لا يمكن لأحد أن يمسك لجامها أو يجبرها على الخضوع.

نمت القدرات الإلكترونية للأشخاص لجذب أكبر عدد من المريدين والمؤيدين لما يطرحونه من أفكار، فكل شخص أصبح في مكان الممثل بطل العرض المسرحي، الذي يلقي بأفكاره على جموع الجمهور المكوّن من أصدقاء افتراضيين له، أو متابعين يتوافقون فكريًا معه ويرغبون في معرفة المزيد، وكلما زاد عدد المتابعين كلما زاد الغرور لذلك الشخص، وكلما تربّح افتراضيًا وواقعيًا من وراء هؤلاء المتابعين، فالكثير من الأشخاص أصبح لهم برامج يتربحون ماديًا من ورائها، وقليلون منهم يستحقون ذلك، والكثير منهم بلا قيمة فعلية، بل عكسوا بشكل كبير تدنى الذوق العام وانحدار الثقافة العربية، وفضحوا اهتمامات أغلب الشباب، وتمرّس هؤلاء في اختيار العناوين البرّاقة التي تُجذب أكبر عدد من المشاهدين، وإن كان العنوان بعيدًا عن المحتوى الحقيقي للمادة المعروضة، وبدلًا من أن يلفظ المجتمع تلك المواد، وترفض المواقع الصحفية والثقافية تلك الظاهرة، انصاعوا لها وانبطحوا وقدّموا نموذجًا سيئًا لأهمية التربح المادي بغض النظر عن المحتوي المقدّم، فنرى المواقع الصحفية الكبرى تنتج برامجًا شاذة لأشخاص منعدمي الموهبة، في مقابل عدد المشاهدات الكبير، ونرى عناوين وموضوعات صحفية لا تقدم جديدًا غير تلك الفرقعة الزائفة ومجاراة الأحداث والاهتمامات الساذجة، وأصبحت مواد "الفضائح" و"المخدرات" و"الجنس" التي نطلق عليها "الصحافة الصفراء"، لا يخلو منها منبر صحفي إلا القليل.

لنعود مرّة أخرى ونستعرض الصفحات الشخصية للأشخاص العاديين، وأقصد "بالعاديين" الأشخاص غير العاملين بوظائف تشكيل الرأي، كالصحافة والبحث والكتابة بشكل عام، نجد هؤلاء الأشخاص طوّروا مهاراتهم الالكترونية لجذب المتابعين، وأصبحت صفحاتهم تعج بالمؤيدين لأفكارهم، وإن كانت تلك الأفكار محض هراءات وخواء فكري، ولكن تجد المتابعين بمئات الآلاف والملايين في حالات نادرة، وأصبح هذا الشخص الذي يتابعه المئات أو الآلاف أو الملايين الافتراضيين، يظن وهمًا أن هذا هو العالم الحقيقي، وأن متابعيه هم الشريحة العظمى التي تمثل الواقع الذي يعيشه، ويظن في نفسه زعيمًا لهم وقائدًا فعليًا، وتنمو بداخله أحاسيس القيادة والمسؤولية وجنون العظمى، فيشكل كل منهم جيشه الخاص من المتابعين، ويبدأ في تحليل الأحداث الجارية كافة من وجهة نظره المعتلة، وبالمقابل يجد الإقبال والتصفيق من المتابعين، ليزيد غروره وكبرياؤه، وإن ظهر صوتًا شاذًا يخالفه الرأي، تصب جيوش المتابعين غضبها عليها وتوصمّه الكترونيًا بوصمات الجهل والتضليل والغباء.

لكل شخص جيشه الخاص في الفيسبوك، فهذا جيشه بالمئات، وتلك لها الآلاف من المقاتلين!

كل شخص امتلك الجيش الخاص به، هذا له جيش من المئات، وتلك لها جيش من الآلاف، وهذا الفقير لا يتعدى جيشه عشرات الأشخاص، وكل منهم تزداد دوافعه من أجل جذب المزيد من المؤيدين ومن أجل عرض المزيد من الأفكار وانتظار التصفيق والتطبيل، انقسمت الصفحات إلى شِلل ومستعمرات فكرية مختلة، لكل مستعمرة أفكارها الخاصة وجيشها المدافع عنها، ولا حرج في كل ذلك، ولا عيب، ولكن يظهر الخلل عندما يظن كل منهم في نفسه المهدي المنتظر والمخلّص الأوحد مالك الحقيقة المطلقة، فتعاظم ذلك الشعور بالذات، أنتج نسخًا مشوهة من الكتاب وأصحاب الرأي، وظن كل واحد فيهم أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن من دونه غبي لم ينل من العلم ما يجعله ندًا له، فاليساري الراديكالي ينظر إلى الليبرالي نظرة التوحش والأنانية، والليبرالي يواجه اليساري بخلل أفكاره القديمة، واللاديني يسفّه من المتدينين كافة، وأصحاب الديانات يعلنون الحرب على بعضهم البعض، كل هذه الحروب تدور في فلك افتراضي يُنسف بالكامل بمجرد أن تضع قدمك في الشارع الواقعي وتبدأ في الحوار مع جموع الشعب، لتعرف أنك مجرد أحمق آخر، تتنازع وتتصارع على أشياء لا أحد يهتم بها سواك ومجموعة من المتابعين لك، وظننت خبلاً أن هذا هو العالم الحقيقي.

اقرأ/ي أيضًا: الـ"سوشيال ميديا" في لحظة جنونها

كما قلنا لا عيب في استعراض الأفكار من أي شخص، وتضارب الحوار والخناقات الالكترونية، ولكن لنتعامل مع بعضنا بقليل من التوتر، وقليل من التعقل، فلا أنت نبي ولا رسول، ولا أنا أعلم الغيب، وكل ما يدور في فلكنا الإلكتروني محض كلمات طائرة قد يكون لها تأثير فعلي وقد لا يكون، وقد نكون على صواب أو على خطأ، فتريث قليلاً قبل أن تسقط مغشيًا عليك على صخرة الواقع الحقيقي الذي لا يرحم، جميعنا على صواب أحيانًا، وجميعنا على خطأ في أغلب الأحيان، فلا تظن بنفسك الخبير، ولا بجيشك الافتراضي سلاحك النفّاذ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"منيو" الفيسبوك العراقي

الشتائم على الفيسبوك.. أحّا!