20-يونيو-2018

رالف كرين، مترو نيويورك 1969

لستُ من الذين يشعرون بالراحة أو بخفةِ القلب لحمْلِ الكتاب الذي أقرأهُ في المترو أو في الشارع لتراه بقية الناس، لأشعر بأنني أفرِدُ ما هو أكثر من خصوصياتي أمام الملأ.

عرضٌ لا حوار متبادل فيه ولا نقاش يبني أو يهدم.

لم أفكر بالموضوع من قبل، لكنني شعرتُ فجأة بأنني أحملُ كالمفضوح جزءًا من دماغي وأعبُرُ فيه الشوارع، أنثرُ خلفي أجزاء صغيرة منه ليتمكن الغرباء من تلمس ردة فعلي لحظة قراءتي لقصة ما، كأنْ يشهدوا عدم تعاطفي مع الأبطال الوحيدين مثلي، أو أنْ يسجّلوا رغبتي بالتبليغ عن المجرم بعد الصفحة الثالثة.

شعرتُ أيضًا بعدم رغبتي بأن يقرأ العابرون من أمامي المفاجأةَ على وجهي لحظة اكتشافي التخاطر غير المخطط له مع الكاتب، ذلك الكاتب الذي تلصص على حياتي ونسخني في كتابه، فيعرف الجميع أي شخصية تشبهني في الكتاب، وما هي نقاط الضعف المشتركة واستنتاج كيف تراكمتْ وتشكلت هزائمي.

سيستشفُ الواقفون في المترو والجالسون على عشب الحدائق العامة من انعكاس الصفحات على عينيّ، بأني أعيد قراءة الصفحة مرتين على الأقل، وأنني أقلّبُ الصفحات ببطء شديد لأنني أسرح بأفكاري كثيرًا بين جملة وأخرى، سيُميّزونني من الخلف والكتاب في يدي، ويتمكنون من اللحاق بي ومعرفة لون باب بيتي ورؤيتي والتلصص عليّ وأنا أخبئ علبة السجائر خلف النبتة الكبيرة المركونة علـى كتف النافذة في الطابق الأرضي. وأنني أسكن في الطابق الثالث وأنني لا أجيد صعود السلالم برشاقة. لا أريد أن يعرف الناس بأنني من الذين ينقطع نفسهم وهو سبب كافٍ لرجل دخل مؤخرا ذروة شبابه من بابها الضيق.

لا أخاف من التكنولوجيا إنما أخاف من تطورها، وإذا راقبتني ستشاهد عدم ترددي برمي اسمي في كل تطبيق على الفيسبوك أو خلال عمليات التسجيل في المواقع، لأن اسمي لا يفضحني كما يفعل الكتاب الذي أحمله، كأن يُقرَأ وجهي أثناء قراءته، ولا يصرّح تاريخ ميلادي بحالة الشيزوفرانيا التي أعيشها، بين رغبتي بالكلام وواجبي الذي يقضي بالاستماع أيضًا وفقًا للمعايير الأوروبية الجديدة. قراءة الكتب في الأماكن المكشوفة هي بيان صامت يتفجر في وجه كل من تقابله، ولا يَغفلُ عنكَ أنّ محتواكَ المكشوف أمام الكتاب يمثل محركاً ديناميكياً خفياً للمحادثات بعيداً عن نواياك ورغباتك.

تعلمتُ منذ قرأتُ "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل وأنا في المدرسة الاعدادية، أنّ القراءة متعة عارمة ومغامرة عميقة لا يجب أن يُحرم منها أحد، حتى الذبابة، الذبابة التي تهبط على الكتاب المفتوح لا يجوز حرمانها من متعة التنقل من كلمة إلى أخرى، وتحريك أيديها بـ"يوفوريا" كبيرة كأنّ الكلمات سكر نقي لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم. ولكن، في اللحظة التي تحط هذه الذبابة على الكتاب عليكَ أن تشيحَ بنظرك بعيدًا عنها بدلاً من مراقبتها وترك المجال، وإن كان صغيرًا مثلها، لتأخذَ ما تريد من حُرِّ الأفكار قبل أنْ تطير بعيدًا.

لا أعرف بالتأكيد إذا كانت الذبابة تقرأ بالفعل، ولكنني حتمًا لن أقطع عليها خلوتها وأتلصص عليها وأنكز دماغها، ذي الخلية أو الخليتين، لأعرفَ ما تفكر فيه عندما تقرأ هيمنجواي: "لم أعد شجاعًا يا عزيزتي، أنا مكسور بالكامل، لقد كسروني. هذا العالم نشيِّده فينهار، ثم نشيده ثانيةً فننهار نحن!".

دع الذبابة تقرأ ما تريد وتطير وتشيّد عالمها وتنهار، إذا كان لها ذلك، دون تصويرها وتحليلها وعرضها في متحف قومي مع شرح قصير لانتماءاتها ورقمها الوطني بجانب عبارة تقول: "كانتْ تحبُ القراءة عارية، ترفرف بأجنحتها في غرفة درجة حرارتها 32".

في المستقبل القريب لن ينقطع العالم عن الكتابة والقراءة ولكن الفارق سيكون في أنّ بشرًا ستقرأ بشرًا بدلًا من أن يقرؤوا الكتب، وسيجيبك أحدهم عند سؤالك عن هوياته: "أفضل قراءة البشر في الحمّامات العامة وأحيانًا أقرأ بعض المراهقين على مواقع التواصل الاجتماعي".

من الأفضل على كل حال أن تقرأ كتابكَ لوحدك في عتمة المكتبة أو في غرفتك بعيداً عن العيون أو الكاميرات، التي تراقب وتحلل ارتعاشاتك وارتفاع درجة حرارة وجهك إثر كل جملة أو حكاية، لتُسقطك في بؤرة التأويل والتسويق التي لا تريدها.

بالحديث عن خصوصية دماغ الذبابة، أنتَ تعرفُ بأن الخصوصية هي أمر أزلي لا بداية له ولا نهاية وليس موضة جديدة انتشرتْ بعد الثورة الصناعية؟! بالتأكيد تعرفُ ذلك..

لم يُكتبْ القدَر في كتابٍ معلوم يحمله المعنيون به أينما ذهبوا وأينما استقروا، ليراه الناس ويعرِفوا ما خُطِّطَ لهم وما سيكون وما لن يكون. لم يحمل ذاك الكتاب المحفوظ عنوانًا تتخيل من خلاله كيف ستنتهي القصة، أو إذا ما سيكون هناك حبكة في النهاية، أو قبلها بقليل.

"القدر مكتوب في كتاب محفوظ" هذا كل ما سمعته وما تعلمته، وكنتُ أتخيل دائماً لو قُدّر لكتاب القدَر أن يحمل عنوانًا، هل سيكون "عبادة حب صلاة" أو "أزمنة مختلفة لمصيبة إنسانية ممتدة!".

لا أحد يعرف العنوان لأن كاتبه لم يحمله في المترو ليقرأ منه أسماء وتواريخ ونعوات وشهادات ميلاد وحبكات تحصلُ في اللحظة والمكان المناسبين.

اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ، ولكن بعيدًا، في خلوتكَ الجميلة وفي معزل عن ماكينات الأحكام المبرمجة والتسويق التحليلي الإلكتروني، وبعيدًا عن القَدَرْ الذي يجب عليه البقاء مبهماً إلى حين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لحية بالمجان بكامل تبعاتها

لجوء عكسي إلى الوطن