25-يونيو-2016

من تظاهرة مطالبة بمحاسبة رموز النظام القديم (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

انتهت "هيئة الحقيقة والكرامة" في تونس منتصف حزيران الجاري من قبول الشكاوى والعرائض المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي التي عرفتها البلاد طيلة 58 سنة. بلغ عدد الملفات المودعة زهاء 65 ألف ملف يجب معالجتها وفق مراحل العدالة الانتقالية وآلياتها. وهي كشف الحقيقة، وجبر الضّرر للضحايا وردّ الاعتبار لهم، ومحاسبة ومساءلة مرتكبي الانتهاكات، وإرساء ضمانات عدم التكرار وحفظ الذاكرة وصولًا إلى تحقيق المصالحة الوطنية. ويأمل التونسيون أن يحقّق مسار العدالة الانتقالية أهدافه لتستكمل البلاد عملية الانتقال الديمقراطي بنجاح وهي ترسي جمهوريتها الثانية على نهج الثورة.

بلغ عدد الملفات المودعة في هيئة "الحقيقة والكرامة" التونسية زهاء 65 ألف ملف يجب معالجتها وفق مراحل العدالة الانتقالية وآلياتها

اقرأ/ أيضًا: هل أتاكم حديث عدالة انتقالية محاصرة؟

ماهي هيئة الحقيقة والكرامة؟

تشرف هيئة الحقيقة والكرامة على مسار العدالة الانتقالية وتنفيذه في تونس، وأنشئت بموجب قانون العدالة الانتقالية الذي تمّت المصادقة عليه نهاية 2013، في أولى ثمرات الحوار الوطني بين الفرقاء السياسيين في البلاد. وتتولّى هذه الهيئة معالجة انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي وتزوير الانتخابات التي تمّت في الفترة الممتدة من حزيران/يونيو 1955 إلى نهاية 2013، أي منذ الاستقلال الدّاخلي للبلاد مرورًا بحكم الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وصولًا إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي بعد الثورة.

وتتركّب الهيئة من 15 عضوًا تمّ انتخابهم من البرلمان، وتترأسها الحقوقية سهام بن سدرين. وتتكوّن الهيئة من ستّ لجان فرعية هي لجنة البحث والتقصّي، ولجنة التحكيم والمصالحة، ولجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات، ولجنة جبر الضّرر وردّ الاعتبار، ولجنة الذاكرة الوطنية، ولجنة المرأة. وحدّد قانون العدالة الانتقالية مدّة عملها بأربع سنوات قابلة للتّمديد بسنة واحدة. وقد انطلقت في أعمالها منذ حزيران/يونيو 2014 ما يعني أنها قد قطعت نصف الطّريق لتنفيذ المهام الموكلة إليها.

وتستقبل الهيئة ملفّات من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي التي تكون الدّولة أو أعوانها طرفًا فيها. ويشمل مصطلح الضحيّة "كل منطقة تعرّضت للتّهميش والإقصاء الممنهج" حيث تلقّت الهيئة شكاوى جماعية باسم مناطق داخلية عرفت الحيف طيلة عقود.

كما أوكل القانون للهيئة مهمّة النّظر في ملفات الفساد المالي، وهو ما يجعل النموذج التونسي في مجال العدالة الانتقالية مثالًا متفرّدًا مقارنة ببقية التجارب التي عرفها العالم. حيث يمكن للدّولة أن تقدّم طلبات تحكيم ومصالحة في ملفات الفساد المالي التي تكون فيها الدّولة متضرّرة. ولم تقم الدّولة بتقديم أي مطلب في هذا الإطار طيلة سنة ونصف قبل أن تتدارك ذلك في آخر أيام قبول الملفات حيث قدّمت 685 ملفًا. وقد سبق وأن قدّم صهر بن علي ورجل الأعمال سليم شيبوب مطلبًا للتصالح مع الدّولة التي قبلت مبدأ الصلح بصفة مبدئية، في انتظار تنظيم جلسات تحكيمية بين الطرفين لحسم ملفات الفساد في إطار مسار العدالة الانتقالية.

اقرأ/ أيضًا: تونس.. العدالة بوصفها سؤال الثورة

النتائج الأوليّة لأشغال الهيئة

أصدرت مؤخرًا هيئة الحقيقة والكرامة تقريرها السّنوي الأول الذي يكشف حصيلة نشاطها منذ تنصيبها منتصف حزيران/يونيو 2014 إلى نهاية سنة 2015. وبيّنت الهيئة هيكلتها وطرق عملها وعرضت النتائج الأوليّة منذ الانطلاق في أشغالها.

في هذا السياق، شددت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين على "ضرورة انخراط مختلف الجهات في تنفيذ مسار العدالة الانتقالية"، مشيرة إلى أن "نجاحه هو مسؤولية الجميع أولها أجهزة الدّولة". وحذّرت رئيسة الهيئة من وجود أي تردّد في الإرادة السياسية معتبرة أنه إرباك للمسار وتهديد للانتقال الديمقراطي في تونس. وأضافت أنه "لا يمكن تحقيق تحوّل فعلي للجمهورية الثانية دون تحقيق العدالة الانتقالية".

وبيّن التقرير أن الهيئة استقبلت 23727 ملفّا إلى حدود سنة 2015 بيد أن هذا الرقم شهد ارتفاعًا بانتهاء أجل قبول الملفات منتصف الشهر الجاري ليبلغ حاليًا زهاء 65 ألف ملفًا ما يعني أن الملفات المودعة في آخر 6 أشهر هي أكثر من الملفات المودعة طيلة زهاء سنة كاملة. وقد شملت الملفات المودعة حول انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي مختلف الحقب الزمنية طيلة 58 سنة، والتي تتعلق بمختلف العائلات الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية لفئات الضحايا من قوميين ويساريين وإسلاميين ونقابيين.

واعتمادًا على قراءة أولية في الملفات أثناء فرزها، كشف التقرير أنه يمكن ملاحظة وجود ترابط بين الإيقاف التعسفي من جهة أولى والتعذيب والرقابة الإدارية من جهة ثانية كانتهاكات متلازمة. ففي 75% من حالات الإيقاف التعسّفي، توجد حالات تعذيب. وفي 51% من حالات الإيقاف التعسّفي، تكون الرّقابة الإدارية شكلًا لاحقًا من الانتهاكات.

وبيّنت الهيئة أنها انطلقت في جلسات الاستماع السريّة للضحايا. وقد بلغت هذه الجلسات إلى حدّ الآن زهاء 6000 جلسة، وتسعى الهيئة لتعزيز فرق الاستماع بمختلف المحافظات للانتهاء من حصص الاستماع لجميع أصحاب الملفات المودعة. كما كشفت أنها انطلقت في الإعداد لجلسات الاستماع العلنية مشيرة إلى أن التأخر في تنظيمها يعود إلى وجود شرط الانتهاء من أشغال البحث والتقصي في الحالة التي سيتمّ عرضها. ومن المنتظر أن ينطلق تنظيم هذه الجلسات في خريف السّنة الجارية.

وأشارت الهيئة إلى أنها وضعت خطّة لجبر الضرر العاجل للضحايا من أصحاب الحالات الحرجة، مشيرة إلى أنها انطلقت في إعداد برنامج شامل لجبر الضرر. وفي جانب آخر، بيّنت أن أغلب طالبي التحكيم والمصالحة هم من الضحايا، وأضافت أن البنوك رفضت هذه الآلية بخصوص الملفات التي تمّت دراستها.

وأشار التقرير إلى أن الدوائر القضائية المتخصّصة ستنطلق خلال السنة الجارية في معالجة الملفات المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فيما ستشهد الهيئة تقدمًا في تكوين السّجل الوطني لضحايا الاستبداد، وذلك مع استمرار تحليل الملفّات والتحرّي فيها.

اقرأ/ أيضًا: تونس.. حكم السرّاق

مسار انطلق "رغم الرياح المعادية"

يواجه مسار العدالة الانتقالية في تونس تحديّات متعدّدة عكستها الصعوبات والمطبّات التي تواجهها هيئة الحقيقة والكرامة منذ تنصيبها قبل سنتين

يواجه مسار العدالة الانتقالية في تونس تحديّات متعدّدة عكستها الصعوبات والمطبّات التي تواجهها هيئة الحقيقة والكرامة منذ تنصيبها قبل سنتين. حيث يتمثّل التحدّي الأساسي في وجود تردّد غير خاف من السلطة السياسية في دعم هذا المسار. وهو ما تمظهر منذ مشروع قانون سبق وتقدّمت به رئاسة الجمهورية في السنة الفارطة حول المصالحة في ملفات الفساد المالي، يسحب من الهيئة صلاحياتها في هذا المجال. وقد جوبه المشروع برفض حادّ من المعارضة والمجتمع المدني، التي اتهمت رئيس الجمهورية بسعيه لتبييض الفساد ومنح عفو لرجال الأعمال المتورّطين فيه. وتأجلت مناقشة المشروع في البرلمان على ضوء الجدل الحاد الذي أثاره.

وبينما كان الظنّ أن رئاسة الجمهورية قد سحبت مشروعها، أعلن البرلمان مؤخرًا الشروع في مناقشة نسخة معدّلة منه تحظى بدعم الائتلاف الحكومي. وبذلك من المنتظر أن يعيد طرح هذا المشروع للطّاولة التساؤل حول مدى دعم السلطة الحالية لمسار العدالة الانتقالية، في ظلّ خشية من الارتداد عليه.

من جانب آخر، تواجه الهيئة تحفّظًا وصدًّا من بعض المؤسسات العمومية خاصّة فيما يتعلّق بالنّفاذ إلى الأرشيف. حيث عرفت الهيئة حادثة شهيرة نهاية سنة 2014 تمثّلت في منع نقابة الأمن الرئاسي للهيئة من الحصول على أرشيف القصر الرّئاسي رغم وجود موافقة من رئيس الجمهورية حينها المنصف المرزوقي. وقد برّرت النقابة حادثة المنع برفضها القيام بنقل الأرشيف في فترة الاستعداد للتسلّم والتسليم لمنصب رئيس الجمهورية. وتقول الهيئة إنها تجاوزت هذه الحادثة بعد عقد اتفاق لاحق مع الطاقم الجديد لرئاسة الجمهورية.

لكن تتواصل العراقيل مع غياب التعاون من وزارة الداخلية التي تمثّل الصّندوق الأسود لعقود الاستبداد. وقد أشارت الهيئة في تقريرها السّنوي إلى عدم تجاوب هذه الوزارة مع مراسلات القضاة الذين يتولّون التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي يكون أعوان الداخلية طرفًا فيها.

وعمومًا مثّل الارتفاع المطرّد للملفات المودعة في الفترة الأخيرة دفعًا كبيرًا للهيئة لمواصلة أشغالها طيلة الفترة المتبقيّة، وهي التي تأمل في انخراط تامّ للسلطة السياسية الحالية وأجهزة الدّولة في تنفيذ مسار العدالة الانتقالية. وهو مسار انطلق "رغم الرياح المعادية" كما قالت رئيسة الهيئة، ليظلّ التونسيون عمومًا والضحايا خصوصًا ينتظرون بالخصوص كشف الحقيقة ومساءلة مرتكبي الانتهاكات كشرطين لازمين قبل تحقيق المصالحة الوطنية.

اقرأ/ أيضًا: 

تونس.. رؤية في قانون المصالحة