22-ديسمبر-2017

سياسات ترامب في حقيقتها امتداد لأدبيات وإرث السياسة الأمريكية التقليدية (آيزاك بريكين/ Getty)

لا شيء جديد فيما تقوم به الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب. وحديث ترامب التهديدي للدول التي ستصوت لصالح القرار الرافض بإعلانه الخاص بالاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، هو انعكاس صريح لأدبيات السياسة الأمريكية التقليدية، والتي يُمكن القول إنّ تأسيسها كان مع نهايات القرن التاسع عشر، ثم تحددت ملامحها بشكل أكثر وضوحًا بعد الحرب العالمية الثانية التي استطاعت فيها الولايات المتحدة، ضمان صك السيادة بالعنوة. 

ترامب هو وريث شرعي ومخلص ربما أكثر من غيره، للأدبيات والإرث المؤسس لـ"بلطجة" الولايات المتحدة

وها هو ترامب كوريث شرعي ومُخلص، ربما أكثر من غيره، لهذه الأدبيات التي تكشف كيف تتعامل الولايات المتحدة مع العالم ومحيطها الدولي، وكيف تُموضع نفسها فيه.

اقرأ/ي أيضًا: السفارة الأمريكية إلى القدس.. متابعة إعلامية وردود دولية غاضبة

بكل ما تعنيه الكلمة من معاني دارجة ومتعارف عليها، فالولايات المتحدة تتعامل من منطلق "البلطجية"، فما لا حق لها فيه هو حقٌ مُكتسب بالنسبة لها، بأساطيلها وقواعدها العسكرية المنتشرة في بقاع الأرض، وبالمعونات.

ترامب ليس استثناءً.. إنه صريح فقط

بكل ما يتضمنه ذلك من مروق عن الإجماع الدولي، أعلن ترامب، بشجاعة أو تبجّح، فلا مشاحة في التوصيف الأخلاقي، تنفيذ قانون سفارة القدس، الذي أصدره الكونغرس الأمريكي عام 1995، والذي ينص على نقل سفارة الولايات المتحدة بإسرائيل من تل أبيب إلى القدس، اعترافًا بكامل المدينة المقدسة عاصمة للاحتلال.

منذ ذلك العام، والإدارات الأمريكية تلجأ لحقّها الذي ضمنه لها نفس القانون، بتأجيل تنفيذه ستة أشهر في ستة أشهر، مع بقاء القانون شاهدًا على اعترافٍ رسمي سباق، يُخالف الإجماع الدولي، بأنّ الذراع الاستعمارية للولايات المتحدة، لها حقٌ بحكم الأمر الواقع في كامل القدس المُحتلة.

ما فعله ترامب فقط هو التشّجع للإقدام على ما خاف منه الرؤساء السابقين "الجبناء" بتعبيره. وهكذا الحال في جُملة التصريحات التي أطلقتها سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة، بكل ما تحمله من غطرسة وتبجّح. هكذا ترى الولايات المتحدة نفسها، وتتعامل على أساسه، وتضع خططها الاستراتيجية للأمن القومي.

لا يبدو أنّ ترامب يمثل في الحقيقة استثناءً أمريكيًا، الفارق فقط في صراحته، وشفافية نيكي هيلي سفيرته بالأمم المتحدة.

زحف العلم الأمريكي المقدس!

السيناتور الأمريكي ألبيرت بيفيريدج يحكي لنا بدايات القصة، بخطابه الشهير "زحف العلم" الذي ألقاه عام 1898، والمُعبّر عن الرؤية الأمريكية التبشيرية والأبوية، لدرجة دموية. فنشر النموذج الأمريكي لـ"الحرية" واجبٌ مُقدّس، وإن كان بقوة السلاح والعنف الدامي الذي أزهق وراءه أرواح الملايين في الفلبين مثلًا، والتي تُعد نموذجًا كاشفًا في سياق قصتنا.

صورة من الأرشيف الصحفي للجيش الأمريكي، لأسرى فلبينيين أعدمهم الجنود الأمريكان ميدانيًا أثناء احتلالها للبلاد
صورة من الأرشيف الصحفي للجيش الأمريكي، لأسرى فلبينيين أعدمهم الجنود الأمريكان ميدانيًا أثناء احتلالها للبلاد

يحمل الخطاب -الذي أهّل بيفيريدج وزاد رصيده لدخول الكونغرس- عبارات شديدة الاستعلاء والهمجية، حين يقول: "المسألة ليست أمريكا وفقط، لكنها مسألة زمنٍ يُوجب علينا الزحف تحت العلم لنشر الحرية وحمل البركة والخير للجميع"، ثُمّ يُضيف: "نقول لأعدائنا، إن الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم أنفسها، أما الذين لا يستطيعون فإن واجبنا المقدس أمام الله يدعونا لقيادتهم نحو النموذج الأمريكي في الحياة"، وينتهي بـ"لذلك فإن العلم الأمريكي ينبغي أن يكون رمزًا لكل البشر".

وحين حطّ العلم الأمريكي على الفلبين، بعد الخطاب بنحو عام، "قتل الجنود الأمريكان كل رجل وامرأة وطفل، وكل سجين أو أسير. لقد كانت أوامر قائد الحملة الأمريكية واضحة: لا أريد أسرى ولا أريد سجلات مكتوبة. لقد قتلوا كل مُشتبه فيه بدءًا من سن العاشرة"، كما قال ستانلي كارنو في كتابه "الإمبراطورية الأمريكية في الفلبين"، الذي حاز جائزة بوليتزر.

استعادة مكانة أمريكا هي "المهمة المقدسة" لترامب الذي لا يعبأ كثيرًا بالديمقراطية، فالديكتاتوريين الآن هم أصدقاؤه الأكثر قربًا

الحرية في خطاب بيفيردج، هي ببساطة كما قال: "النموذج الأمريكي"، والذي يعني أيضًا السيادة الأمريكية، أو أن يكون "العلم الأمريكي رمزًا لكل البشر". وانطلاقًا من هنا قد تختلف الأدوات كـ"دعم الديمقراطية والقضاء على الديكتاتورية"، كما قال جورج بوش الابن نصًا في خطاب تنصيبه لولاية ثانية، في 2005، أي بعد عامين من مقتلته العظيمة في العراق، ونحو أربعة أعوام من قضائه على الحياة المدنية في أفغانستان، فـ"دعم الديمقراطية" مُستساغةٌ أكثر من القضاء على أسلحة دمار شاملة غير موجودة، ومن مكافحة إرهاب يتصادف أنه نفسه صناعة الأيدي الأمريكية لتطويق نفوذ الاتحاد السوفيتي!

اقرأ/ي أيضًا: أمريكا أولًا.. ما أهم ملامح إستراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب؟

ترامب في المقابل كان واضحًا حين تعهد في وثيقة إستراتيجيته للأمن القومي للولايات المتحدة بـ"تعزيز التأثير الأمريكي"، شارحًا بمزيدٍ من الشفافية: "لأنّ عالمًا يدعم المصالح الأمريكية ويعكس مبادئنا، يجعل أمريكا أكثر أمنًا وازدهارًا"، لذلك فقد انطلقت الوثيقة من شعار حملته: "أمريكا أوّلًا"، وهو شعار بوضوحه الجميل، يعكس الفاشية الأمريكية بعموميته، القاسية أحيانًا، وربما الدافعة نحو عزلةٍ نظرية، لكن الأساطيل الأمريكية، ومعوناتها، تُقوّض بحكم الأمر الواقع أي عُزلة مُحتملة، وعلى هذا الوجه يلعب ترامب بأدواته الخاصة، من قلب المؤسسة/النظام الأمريكي بأدبياته المؤسسة وإرثه القائم على جمع الشتات. إسرائيل هي بشكل أو بآخر انعكاس للصورة الأمريكية الكُبرى، ولعل هذا يُفسّر الكثير ويُجلّي صفاء الخطاب الترامبي.

الحلم الأمريكي والتنمية وغطرسة ترامب.. ثالوث الأقنوم الواحد

إن شئت، فبالإمكان القول، مع حذرٍ شديد، إن باراك أوباما كان الاستثناء، وليس ترامب كما يتردد. ليس فقط لأنه أول رئيس أسود للولايات المتحدة، وربما سيكون الأخير، ولكن أيضًا من جهة سياساته الانسحابية، خاصة في أواخر ولايته الثانية.

استعادة مكانة الولايات المتحدة هي المهمة المقدسة التي انتُخب لأجلها ترامب الذي لا يعبأ كثيرًا بأقنعة نشر الديمقراطية والقضاء على الديكتاتورية. فالديكتاتوريون الآن هم الأصدقاء الأكثر قربًا لترامب. "أمريكا أولًا" هي الهدف والغاية، مع ترامب وغير ترامب، ولكانت كذلك مع هيلاري كلينتون، لولًا أن كلينتون أكثر لؤمًا من ترامب، وأكثر محافظةً منه، لو شئت القول.

يتحدث ترامب من موقف المُستحِق، ويتعامل من نفس الموقف. لذا فهو سيصف السعوديين بأنهم "كريهيين"، لكنه في نفس الوقت، إبان الحملة الانتخابية، سيقول بمنتهى الوضوح: "أُحب السعوديين لأنهم يشترون الكثير من الشقق التي أبنيها". هل ثمة وضوحًا أكثر من أن يعود من أولى زياراته الخارجية بنحو 400 مليار دولار، من السعودية؟! في خطاب جماهيري له، أثناء الحملة الانتخابية أيضًا، قال: "أحب السعوديين. إنهم يدفعون لنا ما نحتاج إليه"، قبل أن يستدرك بقوله: "أنا غيور. إنهم يكسبون المليارات يوميًا ونحن نحمي عرشهم ونحفظ أمنهم، مقابل لا شيء". الآن هل يسعنا القول: شكرًا يا ترامب على صراحتك؟!

تمثل مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية نموذجًا مُفسّرًا، وما استتبع هذه الحرب. ضربت الولايات المتحدة ضربتها القاضية بالقنبلتين النوويتين على اليابان، لتقول: أنا هنا ولوحدي. وقد كان لها هذا، وهيأت لها الظروف بخروج الإمبراطوريات الأوروبية منهكة اقتصاديًا، أو بالأحرى منهارة، في حين خرجت الولايات المتحدة أكثر قوة ونفوذًا، من جهة لبعدها الجغرافي على عكس أوروبا التي كانت في قلب الحرب، ومن اُخرى لاعتمادها خلق اقتصاد حربي موازٍ لاقتصادها المدني لتمول وتدعم بها مشاركتها في الحرب.

بالإضافة إلى بطشها العسكري، باتت الولايات المتحدة سيدة العالم اقتصاديًا، واضطرت دول أوروبا المنهكة الانصياع للشروط الأمريكية لصياغة اقتصاد عالمي جديد يسوده الدولار، أو ما عُرف بنظام "بريتون وودز". وكان المقابل دعم الولايات المتحدة اقتصاديات هذه الدول (44 دولة) بالمنح والعطايا للخروج من أزمتها. بتعبير الاقتصادي البريطاني جون كينز، كانت المنح والقروض، فرصة استخدمتها الولايات المتحدة لفرض تصوراها للنظام الاقتصادي العالمي.

بعد ذلك جاء دور "التنمية". كان بريتون وودز، وكانت الحرب العالمية الثانية بكل تداعياتها، فرصةً مواتية، وقد استغلها الرئيس الأمريكي آنذاك، هاري ترومان، الذي أسس لمطيّة أُخرى للولايات المتحدة، فالتنمية وفقًا لترومان في خطاب تنصيبه لولاية ثانية عام 1949، هي "الحل الوحيد لمشكلات الأرض، والسبيل للحاق الأمم الجديد بالأمم المتقدمة".

مآلات تنمية ترومان هذه، يُمكن استبصارها بآثاره الماضوية. نظرة على الحرب العالمية الثانية وسحق مدينتين بالحياة فيهما بقنبلتين نوويتين، بعد شهور قليلة من وصوله للبيت الأبيض، قد تكشف كُل شيء. وما يلي خطاب التنمية يُعزز الافتراض، وخطاب التنمية في ذاته يُبلور الخطاب الأمريكي المتغطرس. إنه وجهٌ آخر لخطاب "زحف العلم" السابق عليه بأكثر من نصف قرن، فلا آخر، وهناك نموذج واحد فقط للصحيح، إنه النموذج الأمريكي بالطبع! وهكذا تتحقق الهيمنة الأمريكية أو "يكون العلم الأمريكي رمزًا لكل البشر" أو "عالمٌ يعكس مبادئنا يجعل أمريكا أكثر أمنًا وازدهارًا".

لا يقوم ترامب بشيء جديد في السياسة الأمريكية، فهو من قلب كل ما أسس للولايات المتحدة، لولا أنه أكثر صراحةً وربما تبجحًا من غيره

بعبارة أوضح، لا يبدو أنّ ما يقوم به ترامب شيئًا جديدًا أو فريدًا في السياسة الأمريكية، إنه من قلبها، ومن قلب كل ما أسس لولايات الشتات الأمريكية، لولا أنّ ترامب هو الأكثر وضوحًا وشفافية وربما شجاعة وتبجحًا، من غيره، ولعل ذلك ملائمٌ أكثر لطبيعة ما تجري به الأحداث في العالم الآن. وعلى كل، الوضوح مُفيد من جهة رؤية الأشياء كما هي، لو أنّ هناك نية للرؤية أصلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إستراتيجية ترامب للأمن القومي.. صورةٌ جديدة للغطرسة الأمريكية القديمة

هل صممت المنظومة الأمريكية لتحمّل رئيس مثل ترامب؟