14-فبراير-2017

بائع برتقال في مصر (Getty)

في روايته القاسية "يوم غائم في البر الغربي" التي كتبها محمد المنسي قنديل عام 2009، كان هناك مشهد من أكثر المشاهد تفردًا في القسوة من وجهة نظري، وهي مشهد "العم" المغتصب بعد أن احتجز ابنة أخيه ليغتصبها. ظل يجوعها أيامًا وليال طويلة حتى استسلمت له، بل وتحولت حيوانًا شهوانيًا جائعًا، ينتظر اللقاء، ويفيض شهوة جياشة في لقاءاته الحميمة، أذهلت العم الفاجر، فكان يعلق قائلًا: جوع الكلب يطيع سيده.

هل يغير الجوع الضمير والسلوك والمنظور ويعدل المنطلقات؟ لا شك في ذلك.

إن الدولة الأفريقية التي اشتهرت خلال آلاف الأعوام بأنها "سلة طعام البحر المتوسط"، تواجه نقصًا غذائيًا ينذر بالخطر

قبل سبعة أيام هاجم عدد من أهالي مدينة "القرين"، التابعة لمركز "أبو حماد" بمحافظة الشرقية، مخزن أحد بقالي التموين، وتمكنوا من الاستيلاء على كميات كبيرة من السلع التموينية. خرج الناس في مشهد المنتصر يحملون على رؤوسهم أطنانًا من أكياس السكر "النادر" وعلب السمن، والصابون، بلذة المنتصر الذي حاز أخيرًا ما كان يطمح إليه.

اقرأ/ي أيضًا: بالانتحار والاكتئاب.. نفسية المصريين تنهار

في سلسلة "The Hunger games" أو "مباريات الجوع" يتحول الساعي وراء النجاح، إلى "حيوان" كلما استطاع تنمية شعوره بالخصم، واستبق مهاجمته له قبل أن يهاجمه، وتقدم خطوة تجاه مشروع انتمائه للنخبة، التي هي السلطة بكل تمثلاتها في الفرادنية والانفصال عن الشعب، والأمان المادي من الجوع ومظاهره.

اللعبة التي يجب على البطل فيها ليعيش وينجح، أن يقتل خصومه، وأن يتحمل الألم والمعاناة، والسباحة في المستنقعات، ومهاجمة حيوانات قبيحة ومتوحشة له. في النهاية يتحول إلى آلة عملية لا تبالي!

تحت عنوان "الجوع يزمجر في مصر" نشرت صحيفة "واشنطن تايمز" في تقرير للمؤرخ والمحلل السياسي الأمريكي دانيال بايبس، أن الدولة الأفريقية التي اشتهرت خلال آلاف الأعوام بأنها "سلة طعام البحر المتوسط"، تواجه نقصًا غذائيًا ينذر بالخطر"، وفي معرض الحديث عن المقال ذكر "البرنامج العالمي للغذاء" التابع للأمم المتحدة، أن 31% من أطفال مصر في الحقبة العمرية بين ستة شهور إلى خمس سنوات يعانون من سوء التغذية، وذلك من أكبر المعدلات العالمية. وكشف البرنامج عام 2009، أن سوء التغذية يقلص الناتج الإجمالي المحلي في مصر بنحو 2%.

ووفقًا لمؤسسة "فيوتشر دايريكشنز إنترناشونال" الأسترالية، فإن شخصًا من كل خمسة مصريين يواجهون عدم الأمان الغذائي، وتابع التقرير: "لملء معداتهم، يعتمد فقراء مصر على أطعمة فقيرة غذائيًا، عالية السعرات الحرارية مثل الكشري، ما يسبب إصابتهم بالبدانة والقصور الغذائي".

في فيلمه المهم "البيضة والحجر" يعيش المثقف الملتزم أحمد زكي أستاذ مادة الفلسفة، الذي يلقن تلاميذه القيم والمبادئ التي تمكنهم من خلق مواءمة بين متطلبات النفس البشرية، وبين شروط العيش الغالية القاسية، متذرعًا بحكمة شخصية يكررها على مسامع كل من ينتقد تقشفه في العيش، ولجوءه إلى الرضا باليسير من الضروريات: "أنا إذا غلا علي شيء تركته".

اقرأ/ي أيضًا: 25 يناير: حماية الارتجال.. بعيدًا عن العاطفية

لكن تظل هذه المبادىء التي يعتنقها "مستطاع" أستاذ الفلسفة، بغير امتحان حقيقي لها، محصورة دومًا بقدراته الاستغنائية اليسيرة، التي تمكنه في أغلب الأحيان من الاستغناء وتثير حفيظة زملائه من المستغلين، وتغنيه عن استغلال الطلبة مثلهم، حتى توقعه صدفة قدرية في فك "النحس الجنسي" لابن إحدى العجائز الريفيات، معتقدة أنه الرجل الذي كان يسبقه في السكن، وهو رجل مشعوذ عجوز، اتخذ من الشعوذة والدجل حرفة، فيتحول هو بنفسه إلى مشعوذ.

لملء معداتهم، يعتمد فقراء مصر على أطعمة فقيرة، عالية السعرات الحرارية مثل الكشري، ما يسبب إصابتهم بالبدانة والقصور الغذائي

إن الحاجة الإنسانية الملحة، في سياق اجتماعي ضاغط، أكبر بكثير من المثاليات التي يتشدق بها الإنسان أحيانًا دون أن يختبرها. تحول الحاجة الإنسان، تحت وطأتها، إلى كائن غريب يتقبل الفكرة ذاتها التي كان يرفضها منذ عهد قريب، وهذا تحديدًا ما حول المثقف "مستطاع" إلى مشعوذ لكبار رجال الأعمال ورجال الدولة مستفيدًا من أموال الشعوذة.

إذًا من وجهة نظري، فإن الجوع هو أحد أغلظ عوامل التغيير في البر المصري والإنساني عامة، لكنه من العوامل التي لا يمكن استشراف نتائجها، لاعلى المدى القريب ولاعلى المدى البعيد. وهو قادر على تحويل المنظور والمنطلقات والصور الذهنية، وقادر على توليف النفس على أضدادها بسهولة.

منذ عدة أعوام كنت أعمل في إحدى الشركات التي تتطلب طبيعة عملي فيها، أن أحصل على بيانات بنكية سرية خاصة بالعملاء، كان من المعتاد وقتها أن نسمع احتجاجات الموظفين المتكررة على قلة المقابل المادي، لكن الجديد المفجع بالنسبة لي هو أحد حوادث السرقة غير المباشرة، التي حدثت من قبل موظفين اثنين استغلا بعض بيانات العملاء لـ"بيزنس" خاص بهما. كان الموظف هادئًا، وليس له سوابق في "الغش" أو الاستغلال، لكن ما فعله أخيرًا أكسبه ثروة محترمة، لم يكن ليحصل عليها لو أنه التزم بالسرية التي تفرضها طبيعة العمل.

تغيرت أشياء كثيرة في طبيعة العمل بعد تلك الحادثة، وتم تسريح الكثير من الزملاء الآخرين، فقط لأنه استغل أسماءهم في التحقيقات. شعرت وقتها أن الصلاة في وقتها وكل المظاهر الدينية التي كان يقوم بها الزميل، تمثلات لمستطاع في "البيضة والحجر" لا أكثر، قبل أن يصبح مليونيرًا يقبل الناس يديه في كل طريق.

اقرأ/ي أيضًا:
سياسات حكومة الجنرال لقتل المواطنين
قراءة في مشاهد مصرية صميمة