12-مارس-2017

الروائي البرتغالي أفونسو كروش

ما شعور أيٍّ منا لو صادف أن أحدهم عرف عنه الآخرون بالأرقام والأوزان، كأن يقول لصديقه: "اليوم شاهدت B3 يأكل ثلاثين غرامًا من البوظة"، قد تكون الفكرة للوهلة الأولى ساذجة، إلا أنها واقعية مع انتشار القيم المادية بدلًا من الإنسانية، ورواج الشركات العالمية بعد أن أصبح الوصول إليها متاحًا وتحول بديلًا عن اللغة، والمواضيع التي اعتدنا الحديث عنها.

بموت اللغة، والرواية، والشعر، والفن.. سيكون العالم قاسيًا جدًا 

في رواية البرتغالي أفونسو كروش "هيا نشتري شاعرًا" (دار مسكيلياني 2017، ترجمة عبد الجليل العربي)، نلمس كل هذه التفاصيل بطريقة سردية ساخرة، ضمن فصول قصيرة مليئة بالتكثيف، والاستهزاء بالقيم المادية، وتحول الإنسان إلى مجرد مستهلك لمنتجات الشركات، وموت اللغة، والرواية، والشعر، والفن.. والكثير من الأصناف الثقافية، سيكون العالم قاسيًا جدًا في هذا الحال.

اقرأ/ي أيضًا: أليف شافاك: هذا هو بطلي

الشخصيات الأساسية التي بنيت عليها الرواية، عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص وشاعر، أراد كروش من خلالهم تقديم رؤية لما يحمل المستقبل من وجهة نظره على الأقل "... وقبل أن يترك على وجوهنا ميلغرامًا أو ميلغرامين من اللعاب، أو من القبلات إذا أردتم أن نستعمل عبارة شاعرية"، بهذه الافتتاحية من المقطع الأول، يمضي مشيرًا إلى المجتمع المادي، إذ إن كافة شخصيات الرواية يرددون جملة "نمو وازدهار" بدلًا من الجمل المعتادة كـ"صباح الخير".

تقدم الرواية صورة مفصلة لعائلة تحكمها القيمة المادية بطلتها فتاة صغيرة، تطلب من والدها أن يشتري لها شاعرًا لأنها عجزت أن تعبر بأرقام قليلة عن شعورها. الفتاة تطلق على أصدقائها أرقامًا وأحرفًا بدلًا من الأسماء. يتحول جميع من يعمل في المجال الثقافي ضمن النص سلعة للبيع في المتاجر، وهي ارتأت شراء شاعر، لأن الرسامين يوسخون خلفهم. في المتجر يسأل الأب إن "كانت تلك النسخة المخربة، وهي الخاصية الأكثر شيوعًا بين الشعراء وتضاهي العنف لدى الكلاب".

فالشعراء حسب ما يصفهم كروش غير متطلبين، ينسون الأكل، لا يستطيعون إجراء العمليات الحسابية، غير مهتمين بمظهرهم الخارجي، يرتدون ثيابًا رثة، هائمون دائمًا في سبيل النص الشعري، وفوق كل ذلك لا يحتاجون إلى الصيانة. ليس ممكنًا تجاوز هذه الرواية التي تقدم الشعر بهذه الطريقة، وتترك القارئ حائرًا أمام النص لا يعرف تمامًا ما الذي أريد الإشارة إليه غير القيم المادية، هل هو هجاء أم مدح للشعر الحديث؟ أم للتذكير أن النثر هو الذي يحكم المشهد الأدبي بدلًا من الشعر؟ أو هل المقصود موت الشعر مثلًا؟

تقدم "هيا نشتري شاعرًا" صورة مفصلة لعائلة تحكمها القيمة المادية، بطلتها فتاة صغيرة

يقول الناشر على الغلاف الخلفي للرواية: "هل هناك مكان للشعر في مجتمع كهذا، هل انتهى زمن الشعر وآن الأوان لكي نشيّع القصيدة إلى مثواها الأخير؟ أم أن القصيدة هي حصن الإنسان الأخير للحفاظ على إنسانيته للحفاظ واستعادة ما هُجّر منه تحت أسماء كثيرة: الحداثة، النجاعة، الربح...؟"، هذا ما يبدو كما لو أنه نقدًا لعديد النظريات الجديد مثل بعد الحداثة، وغيرها الكثير من النظريات التي بدأت تظهر، وتأثر بها النص الشعري.

اقرأ/ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها

الرواية، التي تقع ضمن 82 صفحة، تنوّه في نهايتها أنها اعتمدت على مقاطع شعرية "مذكورة أو مستوحاة" من شعراء عالميين، مثل باول سيلان، وولت ويتمان، وتشارلز بوكوفسكي مع أسماء أخرى، يقول كروش عن الشعراء الذين استعان بهم على كتابة النص: "إن لم يشاركوا مباشرة في هذه الرواية القصيرة فهم يمثلون أعمدة بناء لشخصي. آسف لأنني لا أستطيع أن أذكرهم جميعًا، ولكن إن انتبهنا، يمكن أن نتفاجأ بهم يتطلعون إلينا بين كلمات هذا الكتاب".

كذلك لا يملك النص المكتوب تلك الحبكات السردية التي اعتدنا في الأعمال الروائية، أو اللعب على الشخصية الروائية، وتشكيل معالم بنيانها النصي، بل جاءت على عكس ذلك مقسمة لـ32 فصلًا مع عناوينها، وفي النهاية، ما يشبه الخاتمة، ما يعني أن كروش أراد إيصال رسالة يريد من القارئ اكتشافها، ولذلك من المهم التركيز على هذه المسألة، فهي بدت نصًا مكثفًا عن الحياة المادية، وموت الثقافة مستقبليًا، وغالبًا أن هذا السبب الذي جعله يكتب النص بهذه الطريقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"آخر الشهود": لن يكبر أطفال الحرب

تزفيتان تودورف.. صوت متفرد في زمن "البرابرة"