03-أغسطس-2022
جزء من لوحة لـ بطرس المعري/ سوريا

جزء من لوحة لـ بطرس المعري/ سوريا

يقدس اللبنانيون فيروز. فيروز ليست مطربتهم كما تكون أم كلثوم مطربة مصر والعالم العربي. فيروز صانعة كل ما كانوا عليه وكان لبنان. حتى حين كان البلد لاهيًا وخفيفًا ومستخفًا، كانت فيروز تقبع في خلفيات وعي اللبنانيين، كأم تراقب، بسعة صدر، لهو أبنائها قبل عودتهم إلى ثوابهم. وكانوا والحق يعودون. فهذا شعب لم يبن مدنًا بالمعنى الذي تبنى عليه المدن. سياسيًا وقانونيًا كان ابن بيروت هو ابن بيروت حصرًا، وليس المقيم فيها، وكانت بيروت ملعبهم النهاري والليلي ما دام السهر قائمًا وصاخبًا، لكنهم ما أن يأووا إلى أسرتهم ليلًا حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل أن ينفجر اللهو والخفة في أرجاء البلاد. يعودون أهلًا وأبناء عائلات وجيران. فيروز كانت تنشد هذا الترتيب تحديدًا. الناس بالنسبة لها جيران، أهل وأبناء عائلات، والعمران في هذه البلاد غابات وأشجار وحقول وحضائر ماعز وأبقار ودجاج، ومجاورة للقمر، وفي هذه المجاورة ما يشف عن واقع أن البيوت لم تتحول أبنية شامخة، وأن السماء قريبة وتستطيع سماعنا على ما تقول الأغنية. لبنان الذي كان يجاهر مغرورًا باتصاله بالعالم الواسع والعلاقات المفتوحة بين الناس، وتقبل الآخر والغريب، بل والترحيب به، بدا في أغاني فيروز عتيقًا وقديمًا ولم تؤثر فيه أحوال وحوادث. فالغرام يحصل من نظرة على عين الماء، والفتيات يغزلن صوفًا ويعبئن جرارًا من العيون، والشباب يذهبون إلى عيد العزاب للقاء الفتيات اللواتي كن طوال الوقت السابق على العيد أسرى بيوتهن وأعمالهن المنزلية والزراعية.

لبنان كان جارًا للقمر لكنه في الوقت نفسه أنجز تطهيرًا طائفيًا يكاد يكون كاملًا، وصنع حدودًا حاسمة بين الطوائف، يمكن تعليمها بأنهار من الدماء

لم تكن هذه بيروت، لكن أغانيها كانت كذلك، وبخلاف الطرب المصري الذي كان يعبر عن روح مدينية صرف، كان الطرب الرحباني الفيروزي يتمسك بصفات لم يكن ثمة ما يسند واقعيتها في الواقع المعاش.

فيروز بهذا المعنى كانت تصنع أسطورة للبلد. وبعض شروط الأساطير أنها تعجز دائمًا عن الإحاطة بالتفاصيل. الأساطير لا تقع إلا على أولئك الذين تتشابه يومياتهم كنقاط مياه. أهل قرى يعانون شطف العيش نفسه، وحدة الشمس نفسها، ويستريحون تحت ظلال الأشجار نفسها. لكن لبنان الحقيقي لم يكن لبنان الذي تغنيه فيروز.

لبنان هذا الذي ما زالت تحفظ له فيروز بعض رقة في أذهان أهله وجيرانه، هو معلم العرب وأهل المنطقة كيف يكون الذبح على الهوية شأنًا من شؤون الدول وأحزابها وقواها السياسية، لبنان هذا كان جارًا للقمر لكنه في الوقت نفسه أنجز تطهيرًا طائفيًا يكاد يكون كاملًا، وصنع حدودًا حاسمة بين الطوائف، يمكن تعليمها بأنهار من الدماء. لبنان هذا تفنن بتعذيب الخصوم قبل داعش بعقود، وتناحرت طوائفه قبل صعود الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي بوقت طويل. وخاض حروبًا داخلية مزقت كل ما غنته فيروز فيه من قبل أن تصبح مدنه مدنًا. وها هو اليوم يكاد يذوب ويختفي من الوجود، لكنه ما زال متمسكًا بالأسطورة التي صنعتها له فيروز.

والحق أن في كل هذا وغيره، ما يبدو شديد الجور على فيروز، التي هي في نهاية المطاف مجرد امرأة. ذلك أن اللبنانيين يريدون من فيروز أن تنقذهم مما هم فيه، في مقابل الدفاع عن رمزيتها الأسطورية، والتمسك بحبهم المطلق لها ولتاريخها وأغانيها. وفي ظني أن هذا ليس دفاعًا عن الفن، ولا يمكن لهذا الخطاب أن يصمد أمام نقد فني. في حين أنه يمكن أن يصمد طويلًا في نفوس شعب يتهاوى ويسقط كأوراق تذروها الريح.

لبنان الذي غنته فيروز كان قبل أن تغنيه. ولبنان الذي عاشت فيه وغنت له فيروز لم يكن مرة على الصورة التي غنتها فيه، إلا في مراحل متأخرة من أعمالها. مع ذلك ما زال بعض نخبة الثقافة اللبنانيين يحسبون أنهم يستطيعون أن يستخلصوا من هذه الأسطورة ما يمكّنهم من مواجهة مصاعب المعاصرة واستحالاتها.