15-أغسطس-2016

صورة من فيلم Black Swan للمخرج أرنوفسكي

في إحدى أحاديثه سُئل أرنوفسكي "هل تستمتع بتعذيب جمهورك؟"، فكانت إجابته "صدقني أنا لا أعلم لماذا تخرج أفلامي بهذه السوداويّة"، إنه أرنوفسكي البالغ من العُمر سبعة وأربعين ربيعًا، أحد أهم مُخرجي السينما اليوم ومن أكثرهم تأثيرًا وغوصًا في عمق النفس البشريّة.

من المعروف عنه أيضًا أنه يقدّم شخصيّات مُعقّدة في أفلامه، ويوصلها لأقصى حالاتها. ففي ملحمة المُخدرات الأعظم على الإطلاق (مرثية حُلم) قدّم طبقة شنيعة من المُدمنين، وفي (الينبوع) لم يتوان عن التعمُّق في فلسفة الموت والحياة والخلود، وفي أعظم أعماله من وجهة نظري (المُصارع) قدّم لنا ميكي رورك في انبعاثة عظيمة عن مُصارع أضاع ابنته من بين يديه وضاع هو الآخر بين حلبات المُصارعة وملهى للتعرّي. فيلمي المُصارع والبجعة السوداء يكملان بعضهما بشكل أو بآخر، حيث قال أرنوفسكي إنهما يتداخلان في استكشاف الهوس المُهلك للإنسان، سواء نحو المجد أو نحو الكمال، وبعيدًا عن ذلك يبدو البجعة للوهلة الأولى أثقل من الناحية السيكولوجيّة، لكن في العمُوم يُحسب للرجل خوضه لمحاولات ناجحة في استكشاف عوالم بشر مُرهقين ومستنزفين بسبب عملهم.

هذا الفيلم مرثاة سينمائية لهوس الفنّان بما يفعل وسعيه الدائم إلي البلوغ للكمال والمجد

في فيلمه (البجعة السوداء) تدور الحبكة حول نينا، وهي شابة تعمل في إحدى فرق الباليه في نيويورك وتحلم بأداء دور البجعة السوداء، وتأتيها الفرصة سانحة حين يختارها المُدير للأداء بعد استغنائه عن مُمثلته الرئيسية، لكن المُشكلة التي تواجهها أنها حساسة ورقيقة ولا تصلح سوى لأداء البجعة البيضاء أما السوداء العدوانيّة فلا تجيد أداء الدور، لكنّها تحاول بجهد الالتقاء بالجانب المُظلم في الذات وتجد في ذلك الدافع والإلهام، خصوصًا أن المُخرج بحث عن مُمثلة بديلة وهي ميلا كونيس، وبذلك تتصارع نينا مع أربع جهات، نفسها وأمها والمخرج والممثلة البديلة.

اقرأ/ي أيضًا: تورناتوري.. ساعتان من الضجر للاحتفاء بالحب

القصّة الأولية لا تهم، وليست هي مربط الفرس حتّى، المهم في المعالجة هي القصّة الأخرى، أرنوفسكي أخذ لنا قصة عامة استخرج منها أخرى خياليّة ومزج بها عُمق الفتاة التي تبحث عن أدوارها ووصل بها الأمر إلى الهلوسة، تصوير الشخصيّة هنا انبثق من خلال تعايش الفتاة مع الدور ومحاولة استكشافها لذاتها.

تعايش الفتاة مع شخصيّة البجعة السوداء أعطاها انتقالًا فعليًا لتجسيد البجعة السوداء عند روتينات الحياة: مثل النوم والأكل ومقابلة الأصدقاء وحتى في المعاشرة الجنسيّة، وهذا يزداد حين تجد من حولها أم راقصة باليه سابقة لا تريد لابنتها أن تعيش في الظل كما حدث معها، ومدرب لا يهتم بأي شيء سوى العمل وهو أحيانًا شهواني، كل ذلك جعل منها شخصًا أسودًا لا ينظر إلا للدم ولا يكترث له مادام قد حصل على مُبتغاه.

في مُستهل الفيلم حيث حلم نينا، نجدها تؤدي عرضًا للباليه ويظهر معها رجل يراقصها ويتحوّل إلى هيئة متوحشة وفيما بعد في الطريق لمحل عملها تشاهد في المترو فتاة تكاد تماثلها شكلًا، وفي هذه الافتتاحية اللافتة للانتباه يُخبرنا أرنوفسكي الكثير عن ماهية ما سنشاهد، أرنوفسكي يُخبرنا أننا سنشاهد عملًا خالدًا سيعلق في ذاكرة المُشاهد.

في الفيلم يلعب توماس مدرب الباليه ألعابا سيكولوجية مع نينا، في البداية يعطيها فكرة اختياره لراقصة أخرى وتكتشف فيما بعد أنها صاحبة الدور الرئيسي، يستمر الفيلم مع مشاهد التدريبات أمام توماس ثم مشهد توديع البجعة السابقة (بيث) وبعد الحفلة تنشب مشادة بين بيث ونينا وتعرف نينا بعد ذلك أن بيث حاولت الانتحار.

في النصف الثاني من الفيلم نشهد تقرب ليلي من نينا، وليلي هي راقصة باليه كذلك لكنها أكثر انطلاقًا وحرية وعبثًا من نينا، وذلك يؤجج مشاعر الغيرة لدى نينا وهو ما يزيد من هلوساتها ووسوساتها، لكن فيما بعد تذهب ليلي إلى بيت نينا وتعتذر لكن الأم ترفض دعوتها للشراب وفي هذه اللحظة تتمرّد نينا على أمّها للمرة الأولى وتذهب للسهر رغم تمرينها الصباحي. تتعقّد الأمور الآن أكثر حين تزداد الهلاوس وتذهب نينا متأخرة للتدريب فتجد ليلي ترتدي ملابس البجعة السوداء وقد حلّت مكانها في التدريب.

المشهد التالي تعود نينا غاضبة لمنزلها وهناك جروح على ظهرها تزداد تورمًا ويبرز في ظهرها الريش الأسود، فتحاول أمها الدخول فتمنعها نينا بعُنف. تستيقظ نينا في اليوم التالي وتجد أمها قد اتّصلت بالشركة وأخبرتهم أن نينا لن تحضر، يجن جنون نينا وتدرك أن أمها كذلك تغار منها، وتذهب للعرض وتنتزع من ليلي الدور.

ذروة هذه المشاهد حين تأتي المواجهة بين ليلي ونينا وتدفع الأخيرة ليلي إلى المرآة وتطعنها وقد ظنت أنها قتلتها، الآن تنظر إلى المرآة وتضع مكياج البجعة السوداء، ثم تصعد إلى المسرح مؤدية الدور في عظمة شديدة، تعود لحجرة الملابس، تتأمّل نفسها، يُطرق الباب فتجد ليلي بالخارج تشيد بدورها، تفتح باب الحمّام فلا تجد جثّة، تتأنى في النظر فتجد أن الطعنة إنما في معدتها، لقد قتلت نينا نفسها!

اقرأ/ي أيضًا: فيلم وحوش بلا وطن: حينما يصبح العدم مصيرًا محتومًا

هذا الفيلم مرثاة سينمائية لهوس الفنّان بما يفعل وسعيه الدائم إلى البلوغ للكمال والمجد، ومن أجل ذلك يوظّف أرنوفسكي كل أدواته الإخراجيّة: يستخدم كاميراه الخلفيّة المتنقلة للمراقبة، والأماميّة للحصول على رد الفعل، ويقطع في سرعة شديدة لخدمة الحالة الذهنيّة المنعكسة على جسد بطلته، ويستخدم المشاهد المُكررة، يوظف موسيقى رفيق دربه كلينت مانسل بجمال شديد جدًا ولا يغير طريقته في الإضاءة.

أرنوفسكي ينجح في إيضاح الظلام الذي يسود البيت الذي تعيش به الأم مع الابنة لدرجة جلب الاختناق للمُشاهد أحيانًا، مُشكلتي الوحيدة مع الفيلم -التي لاحظتها مع المُشاهدة الثانية- هي أنه، ومنذ بدايته، يفترض أن نينا مريضة، أو تعاني الهلوسات نتيجة ضغط العملية الإبداعية، حتى قبل بداية أحداث الفيلم الفعليّة يصر على التأسيس للبعد الهلوسي للفيلم، هذا النص يفترض أحداثه ويستمدها -في بدايته- من خارج الشخصيّة، وهذا النوع من النصوص أمقته. شخصيًا أفضل النصوص التي تأتي أحداثها وردود أفعالها من دواخل الشخصيّة ولا تأتي مُفترضة من الخارج.

ولكن رغم ذلك يأتي أداء أرنوفسكي الإخراجي في تجاوز تلك الهفوة، وينجح في صنع توليفة بصريّة عظيمة مع توليفة موسيقيّة بديعة من كلينت مانسل، وتركيز على تفاصيل الباليه مثل الأزياء والبروفات وفوق كل ذلك يأتي الأداء المتماسك للممثلة نتالي بورتمان ليخلد في ذاكرة مُشاهديه، نتالي هُنا عظيمة جدًا، رقتها وبراءتها وهلوساتها وضعفها وانكسارها الداخلي، نتالي تمنح النص عمقه الحقيقي في أداء مهم بلا شك يمنحها الأوسكار الأول في مسيرتها المميزة.

 

اقرأ/ي أيضًا:
كريستيان بيل: لا أعتقد أنّي خلقت من طينة المشاهير
التانجو الأخير في باريس.. الجنس وسيلة للهروب