06-مارس-2018

أيمن الدبوسي (فيسبوك)

ليست مجموعة قصص وحسب، بل بكائية طويلة ومتصلة. يطل بها الكاتب التونسي أيمن الدبوسي على قرائه، باكيًا ما آلت إليه الثورة التونسية. الثورة التي حملت آمال كثير من الشعوب، ولكن لم تحن الذكرى الرابعة لها، حتى عادت لتجلس في أحضان النظام القديم وتتسامح معه.

على امتداد 200 صفحة من السخط، تعيد "منشورات الجمل" نشر "أخبار الرازي" (2017) بعد أن نفذت الطبعة الأولى سريعًا من المعرض الدولي للكتاب في تونس.

يتحدث أيمن الدبوسي عن النظام السياسي كبنية اجتماعية عميقة، متغلغلة، لا يكفي من الثورة أن تقطع رأسها

يقول الكاتب أيمن الدبوسي على صفحته في الفيسبوك: "قبل بضعة أسابيع قدمت استقالتي من العمل في مستشفى الرازي، والوظيفة العمومية بشكل نهائي. بعدما قضيت هناك ما يفوق الخمس سنوات. دخلت الرازي مفعمًا بالأحلام الكبيرة والإمكانات الرائعة، وغادرته حاملًا كتابًا، سيصدر عما قريب، طويت معه، وأنا أنهي آخر صفحاته، صفحة الرازي". إنه إذًا نتاج خمس سنوات من العمل في وظيفة حساسة ومثيرة.

اقرأ/ي أيضًا: قصص "من الشبّاك".. ما لا تقوله عربة الترحيلات

نفساني يعمل في مستشفى للأمراض العقلية في تونس، يبدو أنه أراد من مجموعته القصصية أن تكون متسقة مع التصور الشعبي عن المرضى النفسيين أو "المجانين"، فكتب قصصًا مجنونة، أو ربما أرادها متسقة مع نتائج الثورة التونسية ذاتها، فمن كان يتخيل أن تعود الدولة التي أضرمت نار الثورات في الوطن العربي إلى حضن أحد رموز الأنظمة السابقة؟

ينظر العمل لمفهوم النظام السياسي "لا يكفي أن تقتلوا دكتاتورًا أو تطيحوا به". إنه يتحدث عن النظام السياسي هنا كبنية اجتماعية عميقة، متغلغلة، لا يكفي من الثورة أن تقطع رأسها، ولكن أن تجهز على كل جيب صغير من جيوب هذه البنية "ما دمتم لم تتأكدوا تمامًا من أن خصاهم قد سحقت وأبيدت، فلا يمكن أن تجزموا بأن الطغاة انتهوا تمامًا".

من هنا يشير أيمن الدبوسي إلى الثورة المضادة "كانوا مستعدين لضخ مليارات الدينارات حتى يفشل مشروع الكراتين" إن ما تبقى من جيوب النظام القديم سيقوم بالمستحيل من أجل إجهاض الثورة، وبالتالي فلا مكان للعفو أو التسامح.

أما مشهد يوم القيامة الذي يمتد على أكثر من ثلاثين صفحة، فهو مشهد عبقري (هل تسمح لي كتابة المقالات بهذا الوصف؟ الأمر يعود للمحرّر)، يحتج فيه على فكرة المساواة، على العفو للجميع. إن الثورة كما يفهمها أيمن الدبوسي تصفية حساب كاملة مع النظام السابق ورموزه، لذلك أرادها -وهو الشاب التونسي الثائر- أن تعاقب رموز الفساد، لا أن يسبقوه إلى الجنة/تونس بعد الثورة، وعندما سبقوه، رفضها.

بالتأكيد هذا التفسير لا يغفل الجانب الثوري الذي تلبس روح المواطن التونسي، فمن فعلها مرة، بإمكانه أن يفعلها مرة أخرى، حتى في يوم القيامة، مع ما يحمله الأخير من دلالات سلطوية وجبرية.. إلخ.

أيمن الدبوسي

من الناحية السردية تبدأ المجموعة القصصية كفيلم واقعي يتخلله بعض اللقطات الخيالية السريعة، ثم ما تلبث هذه اللقطات أن تطول، حتى تسيطر عليه بالكامل، إنها تاريخ الثورة التونسية.. حتى هذه الفانتازية تراها تنعكس على طول القصص، فتبدأ بشيء من القصر في البداية، ثم ما تلبث أن تطول، فالقصص الأربعة الأخيرة (من أصل 49 قصة) تحتل أكثر من نصف حجم الرواية.

أما على المستوى الفني فيمكن القول إن أيمن الدبوسي متأثر بجيل "البيت الأمريكي - Beat Generation" فلغته المعجمية، وحواراته، تكاد لا تختلف كثيرا عن كتابات تشارلز بوكوفسكي، إذا اعتبرنا أن الأخير امتداد متأخر لهذا الجيل أيضًا.

على المستوى الفني، يمكن القول إن أيمن الدبوسي متأثر بجيل "البْيْت" الأمريكي، بلغته المعجمية وحواراته

وكما فعلها أسامة العيسة في "مجانين بيت لحم" (نوفل، 2014) حين روى تاريخ المدينة من خلال مجانينها، فإن الدبوسي يروي تاريخ الثورة، والثورة المضادة من خلال المرضى النفسيين، بل يخطو خطوة للأمام، فلا يكتفي بـ"المجانين" أبطالا في روايته، بل تصبح السحلية "ليزر" إحدى أهم أبطال العمل الأدبي.

اقرأ/ي أيضًا: قصص "ليثيوم".. متاهات النفس البشرية

فبطل أيمن الدبوسي ليس خارقًا ولا مثاليًا، وهو لا يشهد الأحداث، أو يسعى للمشاركة فيها، هو بطل ثانوي، ويمارس حياته كأي شخصية عادية في المجتمع. وبهذه التقنية يكمل أيمن الدبوسي تمرّده في الشكل والمضمون، الذي بدأه في "انتصاب أسود" (منشورات الجمل، 2016) حين روى أحداث الثورة التونسية من خلال علاقاته النسائية، ودعا لثورة جسدية مصاحبة لتلك السياسية.

إن الثورة تسيطر على أيمن الدبوسي، وتعد المدخل الأهم لفهم أعماله، حتى الجزء الإباحي منها، الذي يبدو في انفلاته كأدب جورج باتاي، أحد المؤثرين في أعمال أيمن الدبوسي بقوة. كل صفحة يكتبها أيمن الدبوسي وليدة الثورة، حتى وإن كان بعضها عاقًا.

فهو ينتقد فوضويتها، عندما يقول قمنا بالثورة من أجل الثورة والضحك لا من أجل الانتخابات، ثم ينتقد أيمن الدبوسي عدم انفتاحها على الأقليّات مثل المثليين جنسيًا، كانوا الوحيدين الذين لم يكونوا لهم مكان في الجنة، وينتقد ذاكرتها السمكية، ليذكرنا أن من قاد الثورة المضادة هم أصحاب شركات الدواء، الرأسماليون، النظام القديم "إنهم يعودون بطريقة أو بأخرى".

هذه هي رواية "قفا نبكِ" الخاصة بأيمن الدبوسي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القصة القصيرة جدًّا.. الكتابة بمنطق الرصاصة

حسن بلاسم.. معاينة الإنسان القابع في دواخلنا