16-مايو-2022
لوحة لـ عبد الله مراد/ سوريا

لوحة لـ عبد الله مراد/ سوريا

مع أن ملامح المجسَّم لحظتئذٍ لم تكن بادية للعيان إلّا لهُ من بين كل الذين كانت وجهتهم للأمام مثله، إلاَّ أنه كقاطرةٍ محمَّلة بيأس المنعطفاتِ أدارَ وجههُ صوب بقايا الغيوم المبعثرة في الأفقِ، بحركةٍ يظنها الناظر وكأنّهُ يتهيأ للتحدث إلى أحدهم وراح يخاطبهُ، قائلًا لهُ: ربما سمعتَ ما يُحكى عنا في الخلوات، أو قرأتَ في كراسات المغادرين ما يُشاعُ عنا نحن المكبّلين بقيودٍ لامرئية بالنسبة لمن يُحدق بنا من الخارج، مع أن تلك الكلاليبُ أقسى من الأغلال الحديدية التي توضع في أطراف المحكومين لمن كان في الداخل أو وسطَ مضمار الحاجة مقيم.

من خوفنا مما تخبئه الأيام والسنين لنا، فلا جرأة لنا على إعلان الخصام مع بعض أدنى الأوباش منزلةً ممن يعملون في حقل العسكرة في زمن الفوضى والفلتان الأمني

وفحوى اتهامهم الرئيس لنا هو بأننا لا نمتلك جرأة القولِ في الكثير من المواضيع التي تُبحث أمامنا، مؤكدين بأننا حيال طرح أيّة قضية حسّاسة قِبالنا نغدو وفق تصورهم كالعاملين في ملاعب السياسة، ممن يعملون على آلية تحميس الأجوبة الهلامية وبثها على عجلٍ لإعطائها للسائل وهي محمَّلة بكل أوجه الدبلوماسية، دبلوماسيةً تجعل المسموعَ كمضي الأسماك الشراعية بجوارهم، وذلك لكي لا يتمكن أيِّ سامعٍ مِن الإمساك بحرفٍ أو كلمة مشكوك بها، لكي يدينُ بها قائلها إن لزم الأمرُ بناءً على تلك العثرة الدالة على صاحبها؛ والاتهام ما يزال قائمًا بالرغم من أننا لم نمارس السياسة يومًا.

بل وحين نمشي بالقرب منهم نسمَعهم ترانيم الاِستنكار يرددون، وحين يبصرون ما يدل علينا يتمتمون قائلين: بأننا مِن فيض الهلعِ نغدو كالشعراء المرتعبين من ظلال جلاوزة السلاطين والمذعورين من دبيب عسس الأنظمة الأمنية، ممن يقدمون مكتوباتهم وهي ملتحفة بأسمَك العباءات الصوفية، كمن يمكثون في العراء ويُكثرون من ارتداء طبقةٍ فوق أخرى حتى لا تنال من أجسادهم لسعات الزمهرير، وذلك حتى لا يقدر أي واشٍ في الحي أو أيّ كاتب تقارير في الدائرة على الإمساك بياقة فقرةٍ، أو جملةٍ تدل عليهم، أو يُشم منها ريح التذمر.

ولكني من باب الأمانة لا أخفيك أيها الناظر لحالنا، أن هذا صحيحٌ نظريًا لمن عن قربٍ لا يعرفنا، ولكن ليس لأننا ضعيفو البنية الجسدية، أو أننا من رهط المهزومين نفسيًا، وليس لأن حالنا حال المعدم المفتقد أصغر شيء في حضرة الممتلكين كل الأشياء، وليس لأننا لا نعرف ماذا علينا قوله حينما تقف الكلمات في حلوقنا، فيما نكظمها ونمنعها من الاندلاق خوفًا من وقوع أحجارنا الصلدة على بلور الآخرين، وليس لأننا محرمون من البوح في ديار مَن كان له الفضاء برمته، إنما نمتنع عن إطلاق ما يجول بخاطرنا في الكثير من الأشواط، لأننا مع توقنا الجم للوصول إلى قمم الإباء لم نصل بعدُ إلى مستوى حالة متصوفٍ بسيطٍ مِن فيض زهده وتركه الدنيا بات مستغنيًا عن الناس أجمعين.

فيستمر بمخاطبة من يراهُ لوحده، ولا يلحظه أحدٌ ممن كانوا حوله قائلًا: كم تمنيتُ لو كنتُ ممتلكًا شجاعة ديوجانس الفقير الذي يُقال بأن الاسكندر الأكبر بعظمة قدره ومقامه الرفيع، عندما اقترب من ذلك الفيلسوف المُعدم يوم وجده مستلقيًا في بقعةٍ ما من بقاع مملكته، ملمحًا آنذاك إلى ما يمكن أن يُقدمه صاحب النفوذ الأكبر لهذا الفيلسوف البائس، إلاَّ أن ديوجانس وبدلًا من أن يتودّد إليه أو يطالبه بالمال أو الجاه أو الحظوة لدى الإمبراطور المهيب حينذاك، قال للاسكندر بكل هدوء وعفوية: "لا تحجب الشمس عني"، مشيرًا بدون تكبر في طلبه وقتئذٍ إلى حاجته الماسة لتنحية الإمبراطور جانبًا، في تلميحٍ لا إِبْهام في معناه بأن الرجل في أتم حالته القائمة على ركائز الاِستغناء التام عن الناس بمن فيهم الإمبراطور، وعدم حاجته إلى أيّ شيءٍ مادي أو معنوي من صاحب السلطان الأعظم في البلاد.

 بينما نحن فمن خوفنا مما تخبئه الأيام والسنين لنا، فلا جرأة لنا على إعلان الخصام مع بعض أدنى الأوباش منزلةً ممن يعملون في حقل العسكرة في زمن الفوضى والفلتان الأمني، أو انتقاد أردأ الساسة المدعومين بحشودٍ بشرية مهيأة في أية لحظة للعودة إلى همجية القرون الوسطى، أو مؤاخذة أصحاب القرار والملاكين في محيطنا، ولا جرأة لنا على معاداة أصحاب النفوذ في الدولة خشية من أن نحتاج وساطتهم إن رمتنا الحاجة إلى أبوابهم في قادمات الأيام والليالي، وحتى مَن كانوا في سويتنا الاقتصادية والثقافية نبقي متوجسين من انتقاد ما يبثونه هنا وهناك، مخافة خسرانهم بُعيد ملاحظاتنا المتعلقة بمنتجاتهم.

حبذا لو برهةً ركنتكم أناكم جانبًا حين تتحدثون عن الناس وشؤونهم، كما يُفضل في كتابة قصيدة الهايكو تنحية الذات مِن قِبل كاتبها

ماضيًا في تلاوته المسموعة لمستورٍ عنهم وظاهرٍ أمامه وهو يقول: حتى أصدقائي على الصفحة يا صاح أراني متحفظًا في الرد عليهم، هذا بالرغم من أن أجبن نفرٍ في الميدان تراه في وسائل التواصل الاجتماعي عن بُعد يتصرف وكأنه شمشون الساحات، إلاّ أنني حتى مع هؤلاء الهلاميين بتُ حذرًا في التقرب من مضاربهم النرجسية خشيةً من مخالبهم التقنية.

ولكني لا أخفيك بأنني ياما وددتُ امتلاك الجسارة المطلوبة ليس لأواجه بذلك السلاحِ صاحبَ السلطان والنفوذ، وليس لأواجه بالآلة الحادةِ الوشاة ومرتّقي التقارير بقنب العانات المهجورة، وليس لأعري حين المواجهة القائد النتن، أو أوبّخ أمام الملأ السياسي المبتذل، أو أعاقب بها العسكري الأهبل، إنما على الأقل لأقول لعشرات المدونين يا سادة الفضاء هناك والمجردون من مقومات السيادة على الأرض هاهنا: حبذا لو برهةً ركنتكم أناكم جانبًا حين تتحدثون عن الناس وشؤونهم، كما يُفضل في كتابة قصيدة الهايكو تنحية الذات مِن قِبل كاتبها، وبأن أقول وبدون أيّ تردُّد أو استحياء لبعض أبرز السُّقماء منهم: يا إخوان التدوينِ ليس بالضرورة أن يبرز الواحد منكم قرون استشعاره حين الكتابة وهو يتحدث عن الجولات المتلاحقة لكبش الجيران، وليس بالضرورة أن يتلمس واحدكم وسطه وهو يحكي قصة فحول القرية مع قطعانها، وليس بالضرورة أن نسمع في هذا الفضاء الإلكتروني الرحب عويلكم مختلطًا بنباح الكلاب التي تكلفتم برعايتها ومدح خِصالها.