24-يونيو-2022
نابليون أمام أبو الهول في رسم لـ جان ليون جيروم

نابليون أمام أبو الهول في رسم لـ جان ليون جيروم

كثيرًا ما نجد أنفسنا مرغمين على التساؤل عن المدى الذي يمكن للأيديولوجيا أن تبلغه في صنع تاريخ مظلم من الحروب الخاسرة، والتسويق لأفكار مغلوطة، وصناعة بطولات وهمية. وهل من سبيل للخلاص من سطوة استعمال الطغاة للخطاب التدميري الذي يشحن المغلوبين باستمرار ليرموا بأنفسهم في مستنقعات كريهة لا سمك فيها؟

منذ أسابيع قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ما معناه أن على من تؤرقهم حرب بلاده على أوكرانيا أن يتخيلوا أن الحرب تدور في الشرق الأوسط، وأن أمريكا مكان روسيا، وبأن أوكرانيا هي فلسطين!

لا يذكر التاريخ أي مواقف قوية أو إجراءات مؤثرة قام به الكرملين، أو أي جهاز وجهة حكومية روسية، منذ تأسيس دولة اسرائيل، باستثناء تعبيرات القلق والتنديد الديبلوماسية الروتينية اللينة لتجاوزات آلة الحرب الإسرائيلية

منذ ذلك التصريح صار لافروف في الوطن العربي بمثابة بطل لم يتغن ويحتف بمثله العرب منذ أيام عبد الناصر. وإذ كان تصريح لافروف لافتًا وصريحًا ومثيرًا للإعجاب في أسلوبه الواثق والمباشر في نقد ازدواجية المعايير الدولية، والغربية خاصة، إلا أنه يضمر نوعًا آخر من الازدواجية لدى موسكو، التي قررت بين ليلة وضحاها أن الفلسطينيين هم شعب مضطهد، ينبغي أن يُضرب بمعاناتهم المثل في علاقة مع معاناة شعوب أخرى، وفي هذه الحالة أوكرانيا.

لا يذكر التاريخ أي مواقف قوية أو إجراءات مؤثرة قام به الكرملين، أو أي جهاز وجهة حكومية روسية، منذ تأسيس دولة اسرائيل، باستثناء تعبيرات القلق والتنديد الديبلوماسية الروتينية اللينة لتجاوزات آلة الحرب الإسرائيلية هنا وهناك، وللتاريخ فإن الاتحاد السوفييتي سابقًا كان أول دولة تعترف بالدولة العبرية بصفة قطعية سنة 1948 سابقة بذلك الولايات المتحدة نفسها.

يعيدنا تصريح لافروف والترحيب الكبير الذي لاقاه عندنا إلى تاريخ ضاج بالأمثلة التي بلع فيها العرب الطعم الذي أعده الكبار لنا. هذا الطعم هو مشاعرنا الجياشة المتروكة دومًا على قارعة الطريق، عرضة لاستفزاز هذا وازدراء ذاك، وتوظيف الآخر لها طبقا لمصالحه.

فلنستعض عن الكلام بهذه الأمثلة من التاريخ القريب، بحيث نضع نقطة استفهام كبيرة حول وجود حد أدنى من الاستفادة من دروس التاريخ لدى الفرد العربي.

عام 1798، يقوم نابوليون بونابارت بحملته الإمبريالية على مصر ويستوطن فيها، من ثم يتغزل بالإسلام والمسلمين، ويلبس لبسهم ويمارس عاداتهم، ويقدم نفسه على انه حامي الإسلام، ما جعل قسمًا كبيرًا من عرب مصر يعتقدون في اعتناقه الإسلام، ولقّبه مجلس الديوان المتكون في أغلبه من الشيوخ بـ"علي بونابارت". النتيجة كانت أن نهب البلاد والعباد واستعملها كمطية وساحة حرب لأطماعه الإمبريالية التي لا يمكن إشباعها.

عام 1915، بريطانيا العظمى توهم العرب، بقيادة الشريف حسين، بأن الاستقلال عن الرجل المريض، أي الإمبراطورية العثمانية، هو ما ينتظرهم إن هم ثاروا ضد هذه الأخيرة، وساعدوا دول الحلفاء على تفكيكها.

النتيجة كانت أن استبدلوه بالوهابيين وآل سعود ما إن عارضهم بشأن منح فلسطين كأرض للشعب اليهودي، وطردوه شر طردة لا يحمل سوى عمامته فوق رأسه وخيبته في قلبه.

1918، في نفس الفترة، أي الحرب العالمية الأولى، يضع الألمان ميزانيات ضخمة لدراسة الشرق والإسلام، ويسعون للتعاون مع شخصيات دينية قومية مؤثرة من أجل دغدغة مشاعر المسلمين وتثويرهم ضد أعدائهم، في المستعمرات البريطانية والفرنسية. يتم بناء أول مسجد على الأراضي الألمانية في معتقل فسلدوف، المخصص لأسرى الحرب من المسلمين المحاربين مع البريطانيين والفرنسيين، وذلك بهدف تهيئتهم نفسيًا وإيديولوجيًا للقتال إلى جانب الجيوش الألمانية والتركية. هذه المرة صار الإمبراطور الألماني فلهلم الثاني "الحاج فلهلم" عند شق كبير من المسلمين، بفضل المسجد المذكور، والذي قيل إنه شيّده من ماله الشخصي.

على إثر دخول السلطنة العثمانية الحرب، دعي شيخ الإسلام لإعلان واجب جهاد كل مسلم ضد القوى الامبريالية وتحريم القتال إلى جانب جيوش المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين، وهو إعلان نتج عنه ما يمكن اعتباره أكبر أزمة وجودية للوعي العربي الاسلامي المطحون أصلًا، إذ وجد نفسه بين مطرقة الانصياع للمحتل على الميدان ووعوده بالمنّ عليه بالاستقلال أو البعض منه في حال الفوز بالحرب، وبين ولي الأمر العثماني الذي يعده بمكانة بجوار ربه إن انصاع إلى نداء الحرب المقدسة.

مع النازيين عادت فكرة استخدام المسلمين في حربهم على الأعداء. كان الحديث خلال الحرب العالمية الثانية يدور حول ما سمي "اللحظة الإسلامية"

تنتهي الحرب العظمى وتكسر عظام وتحيا أخرى من رميم، ويبقى حال العرب والمسلمين هو نفسه، طلقاء متحررين من فكرة التاريخ، ناهيك عن دروسه.

مع النازيين عادت فكرة استخدام المسلمين في حربهم على الأعداء. كان الحديث خلال الحرب العالمية الثانية يدور حول ما سمي "اللحظة الإسلامية".

مفتي القدس الشهير الحاج أمين الحسيني يحظى بترقية من الانتداب البريطاني ليصير صاحب مرجعية دينية هامة في العالم الاسلامي، قبل أن يتم الاستغناء عنه لمعارضته هجرة اليهود لفلسطين. بعد رحلة مضنية من الهرب والتخفي يجد نفسه في استقبال عسكري مهيب من الفوهرر نفسه لم يكن يحلم به إذ يقول في مذكراته: "لم أكن أتوقع استقبالي في دار المستشارية الشهيرة استقبالًا رسميًا، بل توقعت مقابلة خاصة مع الفوهرر، ولكنني لم أكد أصل إلى الساحة الواسعة أمام دار المستشارية، وأترجل من السيارة أمام مدخل الدار الفخم، حتى فوجئت بعزف الموسيقى العسكرية، وبحرس شرف مؤلف من نحو 200 جندي ألماني.. استقبلني هتلر استقبالًا حارًا وبوجه طلق وعينين معبرتين وبسرور ظاهر".

لكن تمادي الحاج في مطالبه بوعود واضحة بشأن استقلال بلاد المسلمين جعل هتلر يجيبه أن الأوان لم يحن بعد لمثل هذه المطالب.

في 1932، تعطي وزارة الخارجية مجموعة من الأوامر من أجل تخفيف جملة من القيود العرقية التي فرضها ما عرف بتشريعات نورمبيرغ بخصوص حماية الدم والشرف الألماني وقانون مواطنة الرايخ، بعد تنديد حكومات إيران ومصر وتركيا لاعتبارهم من الأعراق الهابطة التي لا يجوز اختلاطها بالعرق الألماني، وهو ما تمخض عنه تغيير "مكتب معاداة السامية" إلى "مكتبة معادة اليهود" فقط، واعتبار باقي الساميين، أي العرب أعراق ليست بنفس انحطاط اليهود.

انتهت الحرب الثانية ودحر هتلر وجيوشه، وظل العرب مستعمرين، بل وقامت دولة لليهود في أرض مقدسة، وبقي العرب شهود عيان بينما ورّثت إمبراطوريات أرضهم لأخرى عشية رحيلها.

خلال الحرب الباردة بلغت الميزانية التي خصصها الأمريكان لدعم وتسليح جهاديي أفغانستان لطرد الشيوعيين السوفييت من أرض الإسلام مليارات الدولارات، حيث أطلت الحرب المقدسة مرة أخرى كسلاح أول في أيادي القوى الكبرى، يهرعون إليه حين تشتد الحاجة إلى من يقوم عنهم بحرب بالوكالة، يذهب هو حطبا لها قبل ان ينقلب عليه من كان بالأمس يمولونه ويدعمونه.

المحطة التالية حرب الخليج وتحرير الكويت من الاحتلال العراقي: قامت المخابرات البريطانية والأمريكية بتحريض وتمويل جماعات دينية شيعية لإثارة اضطرابات أمنية في جنوب العراق تهدف إلى تشتيت تركيز القوات المسلحة تمهيدا للهجوم الامريكي، قبل أن تعود وتتنكر لهذه الجماعات وتكشف للعراقيين أماكنهم ومخططاتهم، وذلك لحسابات أخرى، أهمها الحاجة التي لم تزل آنذاك قائمة إلى نظام صدام حسين لتحدي نفوذ إيران في المنطقة.

بات جليًا أن الحرب على الإسلام المتشدد قد افتكت بالنسبة للغرب مكانها بجدارة، كبديل عن الخطر الشيوعي، ذريعة لا تقبل النقاش من أجل التمادي في عسكرة العالم وضم دول جديدة لحلفها، تحت شعار إما معنا أو ضدنا

بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، صار استخدام المسلمين كمطية للأطماع الإمبريالية بطريقة معكوسة، ففي حين شرعت أمريكا وحلفاؤها في نشر قواتها في كل مكان من المعمورة بدعوى محاربة الإرهاب، والقيام بتدخلات استباقية، وعدم انتظار الإرهابيين حتى يصلوا أراضيها، كشفت تقارير استخباراتية لاحقة، رُفعت عنها السرية، أن تلك الخطط والنوايا في التغيير المحوري للسياسة العسكرية لأمريكا وحلفائها كانت بالفعل محل نقاش وتطوير لدى صناع القرار ووكالات الاستخبارات، خاصة من جهة المحافظين الجدد، وما كانت الحرب الشاملة على الإرهاب التي أعلنتها إدارة بوش الابن إلا ذريعة للتسريع بها وسحق أي معارضة داخلية أو دولية لتلك المخططات.

بات جليًا أن الحرب على الإسلام المتشدد قد افتكت بالنسبة للغرب مكانها بجدارة، كبديل عن الخطر الشيوعي، ذريعة لا تقبل النقاش من أجل التمادي في عسكرة العالم وضم دول جديدة لحلفها، تحت شعار إما معنا أو ضدنا، وهو ما سوغ لها ـ أي أمريكا وحلفائها ـ مواصلة التمادي في تصنيف أي دولة أو جهة ترفض الامتثال لقوانينهم كدولة مارقة، وجدولتها في خانة "محور الشر" التي ابتدعها بوش الابن، وما وراء محور الشر (Beyond the axis of evil)، ودول "ركائز الاستبداد" التي تحدثت عنها كونداليزا رايس.

مرة أخرى أثبت الربيع العربي النظرية القائلة بأن المؤامرات دائمًا ما تكون جاهزة في أدراج مكاتب الاستخبارات، وما تحتاجه هو تطويع الواقع لخدمتها. وليس بذي فائدة استرجاع ما آلت إليه انتفاضات أغلب دول الربيع من استغلال للمشاعر الدينية والقومية وغيرها من النعرات، لم نشهد مثيلًا له منذ عقود، في سبيل تدمير ممنهج لما تبقى للعرب من سيادة، وما أفلت من فتات عصابات النهب الحاكمة لعقود مضت.

في الوقت الذي نكتب فيه هذا المقال نقرأ على صفحة أحد المواقع الالكترونية: تنظيم القاعدة يندد بتصريحات المتحدثة باسم الحزب الحاكم الهندي المسيئة للنبي محمد، ويتوعد المسيئين بقتالهم والموت في سبيل شرف المسلمين". من الصعب على عاقل ألا يشعر بالدوار، وحتى بالغثيان، إن كان له ذاكرة سليمة، كما يصعب أن نتظاهر ألا علاقة لهذه التصريحات وهذا اللغط حولها أي علاقة برفض الحكومة الهندية للمغازلات المتكررة من جهة الغرب لفك حلفها الاقتصادي مع روسيا، العدو الجديد القديم.

قديمًا قال الحارث بن عباد حين طلب منه أن يحكّم بين شقّي حرب البسوس: "هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل"، وسواء كان ما سبق تحليلًا سليمًا أم كان هو الآخر محض تهيؤات لعقل عربي مهووس بالمؤامرة، فإن الوقت قد حان حقًا كي ينأى العرب بنوقهم عن حروب الآخرين أو يذبحوها ويستريحوا، فما عادت أوطاننا ولا عقولنا قادرة على تحمل هذا العبث الذي يبدو سرمديًا لا نهاية قريبة له، إلا باستفاقة وكشف حساب قاس للتاريخ، علنا نكف عن تكرار نفسنا بطريقة مثيرة للشفقة.


المراجع:

  1. في سبيل الله والفوهرر. ديفيد معتدل. مدارات للنشر
  2. التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين. مارك كورتيس. المركز القومي للترجمة
  3. هل أسلم الامبراطور الفرنسي أم خدع المسلمين. الجزيرة نت
  4. مائة عام على الحرب العالمية الأولى – مجموعة مؤلفين. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.