22-مايو-2022
مظفر النواب

الشاعر الراحل مظفر النواب

لا يوجد أخطر من الكتابة عن شاعر مشهور، لأنّ كل فكرة أو تأويل معرضان للاصطدام بتأويلات أخرى لدى جمهوره. ولهذا تبدو قلة الكتابة التي تغامر بفهم جديد للمشاهير من الشعراء محاصرة بأكثر من وهم، كالاعتقاد بأنه مفهوم بشكل كامل لدى الجميع، أو الرغبة بالابتعاد عن التصادم مع تصورات راسخة عنه.

وحين نتحدث عن مظفر النوّاب فلا يمكن أن نتحدث عنه شاعرًا قدّم تجربة جمالية وحسب، بل عن كونه ناطقًا شعبيًّا باسم حلم، ومن عادة الأحلام أنها لا تقبل النقاش، فهي إما تُؤخذ في كُلِّها أو تُترك. ومع شاعر مثل مظفر نكون معه أو ضده، لأنّ الموقف يتعدى الشعر كفن إلى حيث يكون تعبيرًا عن إيمان سياسي وأخلاقي.

الاستثنائي أن أشعار النواب جاءتنا عبر تسجيلات صوتية، غير واضحة في كثير منها، لجلسات شعرية نسمعه فيها يقرأ ويترنم ويغني، وأصواتُ من حوله من طربهم توحي أنهم في أعلى أعالي التجلي

ميزة النوّاب في ترجمته وتعبيره وتمثيله ذلك الحلم أنه جعل معناه مرتبطًا بالغاضبين من المقاومين، ولأنّ الغضب حالة انفعالية تركز على أمر واحد، ولا يسعها سواه، كان المنطوق يتحدث عن بطولات شهداء ومقاومين مثل الشهيد السوري خالد أكر، بطل عملية الطيران الشراعي، أو أحداث مأساوية مثل مجزرة مخيم تل الزعتر. يقول في أكر: "اهبطْ عليهم فإنك قرآننا/ قل هي البندقية أنتَ/ وما لك من كفءٍ أحد".

بذلك الغضب عبّرت قصائده عن التطلع إلى تحرير فلسطين من الاستعمار والبلدان العربية من الاستبداد. وبه قامت بالتنكيل بالخونة والفاسدين والمخبرين. وفوق هذا وذاك، منحَ هذا الانفعالُ الناريّ صاحبَه كاريزما الثائر.

الاستثنائي أن ذلك جاء عبر تسجيلات صوتية، غير واضحة في كثير منها، لجلسات شعرية نسمعه فيها يقرأ ويترنم ويغني، وأصواتُ من حوله من طربهم توحي أنهم في أعلى أعالي التجلي.

بالأداء فقط تواصل ضخ هذا الشعر، وبسبب براعة ذلك الأداء حفظه الملايين عن ظهر قلب، لكن قلما سأل السائلون عن قصائد منشورة في صحيفة أو مجلة، أو في مجموعة شعرية. الجميع مسلّم بأنه شاعر الأُذن، وشعرُهُ وجد كي يُسمع لا كي يُقرأ، وهو بذلك راح يعيد الشعر إلى زمنه الذهبي، زمن المشافهة، حيث يُلقي الشاعر ما في جعبته وعلى من يسمع أن يستمتع ويحفظ معًا. ومع الأحداث الجسام، في فترة تصخب وتميد، كثيرًا ما مال شعره إلى السهولة، بل إلى السهولة المفرطة، حتى باتت المشافهة عند مظفر في بعض القصائد أقرب ما تكون حديث فم لأذن. لكنه حتى في أكثر قصائده فجاجة في المباشرة استطاع أن يحتفظ بمطالع تقطر شعريةً، كما في قصيدة قديمة مثل "مزاح على سفينة الترحال": "واختَلطَ البحرُ/ المُتَنفسُ في العَتمِ/ بريحِ الليلِ الفضيةِ"، أو في قصيدة أحدث مثل "اعترافان في الليل والإقدام على ثالثة": "في الليل جفاني اللؤلؤ/ في الوصل رعاني الصَّدفُ/ كن أنت حضوري مولاي/ تعذبني الصُّدف/ لوثني عسل الليل وغام قميصي الصيفيُّ/ ونهنهني السعفُ/ وتمارس كل فراشات المرج بأكمامي/ شغل الليل/ ومن عبقي شبعا ترتشفُ".

يشبه مظفر النواب في هذا المنحى الصوتيّ زياد الرحباني، الذي راح يحضر في تلك المرحلة الصاخبة بالطريقة ذاتها، فهناك نصوص قصصية، أو في مدار القص، إلى جانب مسرح كامل، وصل إلى الناس سماعًا، وربما تكون مسرحية "فيلم أمريكي طويل"، التي سُجلت صوتيًّا وجرى تداولها على هذا النحو، واحدةً من نوادر المسرح الصوتي في التاريخ.

هي مرحلة الخروج من الصمت الذي فرضته عوامل موضوعية كالقمع أو التشتت، وقوّته عوامل ذاتية كالضياع أو العجز. لهذا حين بدأت مرحلة القول والتعبير بدأت عاتية وصاخبة. وسارت في لجة كبرى من الأصوات المتلاطمة، والتي تتكلم بألف طريقةٍ وطريقةٍ، من البندقية إلى العمل السياسي والنقابي، وصولًا إلى الفن والكتابة.

ليس الشعر المهموم بالسياسة والمجتمع أمرًا طارئًا، ففي تاريخ الأدب العربي يحضر الشعر في المعارك الاجتماعية لكل العصور، منذ شعراء المعلقات، وربما من قبلهم بمسافات زمنية، وحتى زمن الشعر المكتوب على الفيسبوك. ومن المعروف أن عصرنا الحديث بدأ مع شعراء أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذين كتبوا بكثرة في مقاومة الاستعمار والاستبداد، وحضّوا على النهوض القومي، ومحاربة التخلف الاجتماعي.. وغيرها. وذلك كله بطريقة مباشرة سهلة، تجعلنا نرى من شعر النوّاب، ومن يشبهه من شعراء مرحلته أو غيرها، يقعون في هذا السياق الذي يريد جعل الشعر وسيلة لتحريض، أو تأكيد رسالة سياسية.

ليس الشعر المهموم بالسياسة والمجتمع أمرًا طارئًا، ففي تاريخ الأدب العربي يحضر الشعر في المعارك الاجتماعية لكل العصور، منذ شعراء المعلقات، وربما من قبلهم بمسافات زمنية، وحتى زمن الشعر المكتوب على الفيسبوك

ندر أن نعثر على خلاف فكري أو أخلاقي مع منظور النواب السياسي، بمقابل وجود اعتراضات، تقل وتزيد، على البذاءة اللفظية التي طبعت قصائده، وحضرت في مفرداتها وتشابيهها من باب السخرية والتحقير. ولعل هذه البذاءة هي الإضافة النوابيّة غير المسبوقة في الشعر الحديث، مع التأكيد على أن جذورها موجودة بكثرة في الهجائيات القديمة، لا سيما لدى أبي نواس، وهي مع ذلك كله جزء من شفهية شعره عمومًا، دون أن نغفل ما فيها من ذكورية وتنميط ضمن فهم زماننا.

ثمة أمر لافت يتصل بشفهية هذا الشعر وانعدام الصيغة المكتوبة منه، أعاد إلينا موضوع موثوقية النص، لأننا نجد القصيدة متغيرة، ونقرأها بأكثر من صيغة بين مكان وآخر، الأمر الذي يعيد إلينا مشكلة الشعر القديم الذي احتاج إلى رواة متخصصين، بينما ظلّ شعر مظفر النواب دون راوٍ، إلى أن جاء زمن الإنترنت وبدأ بعض الحريصين برفع التسجيلات التي يمتلكونها، وربما لولا هذا لكنا حيال شعر ضائع. بمنطق النقد القديم، يمكن النظر إلى يوتيوب بوصفه أهم الرواة الثقات.

أظنّ، وليس كل الظنّ إثم، أن ثمة علاقةً معطوبةً بين قصائد النواب وذاكرة من حفظوها. فحيث تلقوها طازجةً في مرحلتها، وآمنوا بما جاء فيها، راحوا يبتعدون عنها نتيجة المرارات التي وصل إليها الحلم، حلم التغيير الكبير، الذي مثّله شعر مظفر خير تمثيل. فمن انكسار الثورة الفلسطينية وخروجها من بيروت 1982، والتوقف العملي لزخم النضال الثوري مع انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية ذلك العقد من الزمن، ومن ثم بدء حرب الخليج، فمؤتمر مدريد للسلام، الذي أفضى إلى اتفاقية أوسلو المشؤومة.. كل ذلك أثر على ذاكرة حفظة تلك القصائد، وأصحابها أيضًا، على اعتبار أن الحلم الجماعي الذي تقوم عليه يبيح لكل من شارك فيه ملكية تلك النتاجات.

ربما جاء عطب الذاكرة لأنهم لا يريدون استذكار حلم تعرض للاغتيال. أو ربما لأنهم راحوا ينظرون إلى تلك المرحلة على أنها شيء من ذكريات مراهقة تثير الضحك من الذات، أو تثير مشاعر الاستخفاف بها. عملًا بالمقولة الغربية الشائعة: "إذا بلغت العشرين ولم تكن يساريًا فأنت بلا قلب، وإذا بلغت الأربعين وأنت يساري فليس لديك عقل". كأنَّ كوننا يساريين شيء ساذج يستوجب الخجل! ولهذا فالذين تحولوا إلى اليمين، أو درجة من درجاته، يريدون ألا يعترفوا بأن الحلم مات، وأنه من الواجب العمل على إحيائه، بل يُعفون أنفسهم كليًّا من الأعباء كلها حين يعتقدون أن المشكلة كامنة في أنهم اختاروا الجبهةَ الخطأ. ولا شكّ أن هذا يتصل بسيطرة نفسية تمارسها الرأسمالية، خصوصًا في صيغتها الليبرالية الجديدة، حيث تربط اليسار بكل ما هو رومانسي، لأنها تدرك جيدًا أن يسارية أربعينات وخمسينات البشر تكون أشدّ خطورة منها في عشريناتهم، لأنها ترتبط بوعي أعمق، لا للسياسة وحسب، بل للحياة كلها.

ألا يبدو موت الشاعر اليساريّ فرصة لإمعان النظر في القيم الأخلاقية التي أوهمونا أننا تجاوزناها، مع أننا لا نزال نصارع الأعداء ذاتهم في الميدان ذاته؟

مظفر أول من صنع شعرًا أدائيًا في العالم العربي. الإلقاء هدف قصائده. وبه يأخذنا باتجاه اجتماع مدهش للأسلوب والصوت في تجويد الكلام وترخيمه وغنائه، مُحولًا القراءات إلى جلسات من زمن الشعر المفقود، ولعل أهم ملامح أسلوبه الأدائي هذا أنه مستمد من تراث الندب والنواح العراقي، ولهذا ما إن نسمع صوته حتى يطير بنا إلى عالم المعابد القديمة، أو الفلكلور العراقي في لحظات امتزاج الهُوْسات البدوية باللطميات الدينية.

لا يبدو رثاء مظفر النواب ممكنًا إلا برثاء حقبة شعرية، ربما يكون آخر من حملوها على أكتافهم

 

المداخل إلى هذه التجربة كثيرة، والذي يقال فيها أكثر من كثير، وعلى الرغم من المفاضلات بين شعره العامي والفصحى، وبين شعره السياسي وغيره، فإن سرّه في صوفيته المتحولة، التي تجعل من الذات الكبرى التي تروم الذوبان فيها إلهًا مرّةً، وثورةً مرّةً أخرى، وخمرةً وندامى مراتٍ.

ليس مظفر النواب شاهدًا على مرحلة شعرية عربية وحسب، لكن لعله آخر من مثّلوها؛ مرحلة ميزتها العلاقة الشائكة والمعقدة بين الجمالي والسياسي، بين الذاتي التأملي والجمعي الصاخب، بين الشعر الذي يُلقى ويُسمع، والصور التي يدوّنها في النفس. حتى في آخر لحظاته انعزالًا لم ينسحب من العام، بل بقي مشتبكًا معه، وحين وصل إلى لحظات صمته استُخدِمت قصائده كل مرة كأنها رأي في كل حدث جديد وراهن. لذلك لا يبدو رثاء مظفر النواب ممكنًا إلا برثاء حقبة شعرية، ربما يكون آخر من حملوها على أكتافهم.