20-يونيو-2022
كتاب "ثورة تشرين العراقية"

كتاب "ثورة تشرين العراقية"

صدر حديثًا عن "دار سطور" العراقية كتاب "ثورة تشرين العراقية: الاحتجاج المستميت، والمنظومة المغلقة، والثورة المضادة"، للدكتور فارس كمال نظمي الذي يتناول فيه تحولات ومآلات الحركة الاحتجاجية في العراق، فضلًا عن رصد التحديات التي تواجهها منذ الموجة الأولى التي انطلقت شراراتها في عام 2010، وصولًا إلى الموجة الخامسة التي تجسدت في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

ثورة، أم انتفاضة، أم هبّة؟

في بداية الكتاب، يتساءل نظمي عن التصنيف المفاهيمي للحراك التشريني، فقد تكون مفردة الثورة التي نسبها إلى احتجاجات تشرين تحمل شيئًا من المبالغة، التي يبررها بالشكل الذي يبدو كأنه يناقش ما ذهب إليه كرين برنتين، صاحب كتاب "تشريح الثورة"، من إن الثورة من المفاهيم الغامضة والسائلة والمشحونة بالانفعال العاطفي؛ مما ولّد القلق لعالم الدلالة لكونها ترتبط بالتغيير. كذلك ما ذهبت إليه المنظرة السياسية حنّة أرندت، التي ربطت الثورة بالتغيير البنيوي، وتأسيس البداية الجديدة للحرية.

يضع نظمي الانتخابات الأخيرة في خانة الثورة المضادة التي حملت غاية غسل دماء الشهداء، وإعادة شرعية النظام السياسي وكأن شيئًا لم يحدث

يذهب نظمي، ومن منظور علم النفس السياسي، إلى وصف الثورة بأنها انتقال راديكالي جوهري في الوعي والثقافة السياسية، وهذا الانتقال تتعدى تأثيراته اللحظة الراهنة ليصبح جزءًا سرديًا متوهجًا من الذاكرة السياسية، وهو بذلك يرى: "إنَّ مصطلح الثورة لا يجدر أن يطُلق في حالات انتصار الحراك الشعبي، وقدرته على إحداث التغيير الفوري للأنظمة السياسية والبنى الاجتماعية فحسب، بل إنه في جذره المفاهيمي الأساسي يمثل لحظة افتراق وانفصال سيكولوجي بين الماضي، والمستقبل في وعي فئاتٍ اجتماعية واسعة من الثائرين المجاهرين بتصورات ايديلوجية مخالفة تمامًا لأنماط البنى السياسية والاجتماعية القديمة والسعي لتغيرها".

وبناءً عليه، يرى نظمي أن لحظة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، مثّلت تجسيدًا لمفهوم الثورة بهذا المعنى؛ كونها قامت بفك ارتباط الماضي بالحاضر على مستوى الوعي والسلوك ومحاولة صنع المصير، بعيدًا عن أبوية السلطة.

كما يؤكد صاحب كتاب "سيكولوجيا الاحتجاج في العراق" على أن الطابع الديموغرافي الغالب للحدث التشريني، أي المحافظات ذات الأغلبية الشيعية التي يهيمن عليها الإسلام السياسي الشيعي، قد أضفى على ثورية تشرين تأكيدًا آخر؛ إذ مثّلت هذه اللحظة مواجهة دموية بين ما يسميه "الشيعة السياسية الحاكمة" التي تحتكر الريع والسلاح والدين، وبين "الشيعة السكانية" المحرومة بوصفها إطارًا اجتماعيًا أعاد بناء الوطنية العراقية، من خلال تلاقحها الوظيفي بمشاعر المظلومية الطبقية.

خفوت المد التشريني، ومستقبله

يذهب صاحب كتاب "المحرومون في العراق" إلى أن انغلاق المنظومة الإثنوسياسية، جعلت مسارات "المد التشريني" تتميز بالتعقيد في ضوء المنظومة الحاكمة ذات البنية المغلقة والفاعلية المقيدة، إذ إنها لم تسمح بأي تقاسم لعناصر القوة السياسية مع القوى الجديدة، من خلال بلورة الضغوط أو المطالب إلى قرارات أو برامج، الأمر الذي فاقم الازمة.

كما أن المنظومة الحاكمة لجأت الى أسلوب الثورة المضادة، إذ قام هذا النظام بثورة مناوئة واستخدم كافة الأساليب العنيفة السياسية والثقافية والإعلامية لإجهاض الحراك الثوري وتشويه مبادئه وقيمه، وهكذا اجتمعت أسباب كثيرة لخفوته في منتصف عام 2020، وتمثّلت الأسباب الأخرى بجائحة كورونا، وغياب التنظيم القيادي للثورة، فضلًا عن تشكيل الحكومة المؤقتة في أيار/ مايو، تلك الحكومة التي يصفها نظمي بأنها مولودة من رحم النظام السياسي القديم لغرض تفكيك ثورة تشرين باسم تشرين ذاتها وإحالتها إلى "تشرينيات" متنازعة ومتآكلة، وتنظيم انتخابات "مبكرة" تمتاز بالشكلية ويحرسها الوعي الزائف لجمهور محدود جرى ارتهانه سلفًا بمسميات صنمية دينية، قومية، عشائرية.

يحاول فارس كمال نظمي، في سياق الحراك التشريني، الإجابة على سؤال: ماذا يريد مقتدى الصدر؟

وفي ظل كل هذه العوامل والتحديات التي ارتطمت بها الثورة التشرينية كما يسميها صاحب الكتاب، فإنها استطاعت تفتيت الوعي الزائف، وخلقت ثقافة سياسية قوامها المساءلة والاعتراض، وكسرت الكثير من التابوهات ونزعت القدسية عن العامل السياسي، وأسست لشرعية جديدة. والأهم من ذلك أنها، في ضوء انغلاق منظومة الحكم وامتناعها عن أي ممارسات إصلاحية لاحتواء السخط المتصاعد، أسست لجذور حراك ثوري قادم يتميز بكونه أشد استماتة لتحريك عجلة الانتقال السياسي.

عن الصدر.. وانقلاباته

يحاول فارس كمال نظمي، في سياق الحراك التشريني، الإجابة على سؤال: ماذا يريد مقتدى الصدر؟ بعد أن وصف سلوكه من النظام بشكلٍ عام، وموقفه من الثورة بشكلٍ خاص، بالسلوك المتقلّب والمتذبذب والمتناقض والمحيّر، إذ بدا الصدر مؤيدًا ومشاركًا في ثورة تشرين، لكنه سرعان ما انقلب عليها.

ينطلق نظمي في تفسير مواقف الصدر من خلال مقاربات متعددة، ففي ما يتعلق بموقف مقتدى الصدر من النظام، فإنه بقي إصلاحيًا يفضل بقاء بنية النظام المتهالكة مع تغير وظيفي. فعلى الرغم من استخدامه شعار الـ "شلع قلع"، إلا أنها لم تتعدى كونها عبارة شعبوية غايتها التحشيد وبث الحماسة لغرض الحفاظ على صورته الإصلاحية، أمام نفسه واتباعه، محققًا عدة غايات، أهمها: تلبية متطلبات العقيدة الدينية، والاهتمام بالشواغل الاجتماعية، والوطنية، وأخيرًا الارتباط العضوي النفعي بالنظام السياسي مع نقده والاحتجاج عليه معًا.

والعامل الأهم الذي يرصده ويفسره نظمي في سلوك الصدر المتقلب من الثورة التشرينية، هو أن الصدر يخشى من نظام سياسي قادم غير معروف الهوية والتوجهات، بعد أن أصبحت تشرين قريبة من تحقيق التغيير الشامل. فالصدر تنبع مخاوفه من أسس عقائدية، وهو بذلك يفضّل بقاء النظام الحالي واصلاحه تدريجيًا بحيث يحافظ على البيوتات الشيعية والدينية، على أي نظام علماني قد ينهي إلى الابد نفوذ رجال الدين ويعيدهم إلى فضاء المعابد. إذ لم يستوعب الصدر أن الناس غادرت الحاجة الى السلطة الأبوية، وأنهم بدأوا بالتغيير بعقولهم وأيديهم من دون قدسيات مسبقة.

إصرار الصدر على تخوين الثورة، وتحويل تياره إلى أداة عنف للمحافظة على الرثاثة والفساد عن طريق استخدام ما يسمى بـ "القبعات الزرق"، أدى الى تآكل رأسماله الرمزي وشعبيته المهمة خارج التيار.

الانتخابات الأخيرة.. جزء من الثورة المضادة

أخيرًا، احتوى الكتاب على مقابلة مع المؤلف تضمنت عدة مواضيع، أهمها موقفه من انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وما إذا كانت قد تضمنت تغيّرًا أو انقلابًا في الموازين السياسية، فكانت إجابة نظمي بعدم حصول ذلك، مبرًرا إجابته بالقول إن: "حصول بعض التغيرات في أعداد المقاعد لصالح هذا الفريق أو ذاك لن يؤثر في عمل المنظومة السياسية".

يتناول نظمي في كتابه تحولات ومآلات الحركة الاحتجاجية في العراق، فضلًا عن رصد التحديات التي تواجهها

أما الحديث الأبرز الذي يقع ضمن اهتمام نظمي، فيتعلق بمقاطعة الانتخابات ونسبتها الكبيرة، التي عبّرت عن إحباط العراقيين، إذ إنه من الممكن أن تتحول فكرة المعارضة تدريجيًا إلى فكرة المقاطعة، وتصبح قطب جديد إذا عرفت كيف تنظم صفوفها، وتتحول إلى معارضة احتجاجية ذات رؤية سياسية وثقافية تشكل بديلًا للأوضاع الحالية.

واستنادًا إلى ما سبق، يضع نظمي الانتخابات الأخيرة في خانة الثورة المضادة التي حملت غاية غسل دماء الشهداء، وإعادة شرعية النظام السياسي وكأن شيئًا لم يحدث.