22-يوليو-2021

كتاب "الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات"

وصفت الباحثة والمؤرخة الفرنسية أوديل مورو القرن التاسع عشر من أحد جوانبه بأنه "فضاء عسكري ذي هندسة متغيّرة" وذلك في إطار كتابها "الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات: رجال النظام الجديد العسكري وأفكاره 1826-1914" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2018 في 450 صفحة ومراجع متنوعة المنابع بين التركية والفرنسية والألمانية.

يحاول كتاب "الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات" رسم خريطة التغيرات في طبيعة الجيش العثمانية والعسكرة الحاصلة على صعيد الدولة مع مشاهد من عسكرة المجتمع

يحاول الكتاب رسم خريطة التغيرات في طبيعة الجيش العثمانية والعسكرة الحاصلة على صعيد الدولة مع مشاهد من عسكرة المجتمع، والتي ابتدأت حدود دراستها منذ تحطيم قوات الإنكشارية على يد السلطان محمود الثاني، وإلى تعامل الدولة وأركانها مع مشاكل بناء الجيش النظامي الحديث عبر القرن التاسع عشر لمقتبل الحرب العالمية الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: الانتقال الديمقراطي في روسيا.. حين تكون الثقافة والنخبة عائقًا

توزع الكتاب على سبعة فصول ضمن ثلاثة أقسام ناقشت العديد من القضايا الهامّة المتعلقة بالجيش والمسألة العسكرية –إن صح التعبير- في منشأ الدولة الحديثة، أي تعامل الدولة السلطانية مع بنية الجيش في الحداثة، وأبرزت بين جنبات الكتاب وجود نوع من التماثل في تعامل السلطة العامة مع الحالة العسكرية المشاغبة، سواء أكانت الإنكشارية في النظام القديم أم زُمر جيش النظام الجديد.

من العسكرية المتفلتة حتى الهرمية المتلزمة

كانت هذه القضايا تحوم حول مشاكل التخلص من الجيش القديم وما تجرها مشاكل إعادة بناء معمارية جديدة للهرمية العسكرية بعد أن كانت متحررة من سلطة تراتبية ما، منها مسائل التجنيد الإجباري والإعفاءات والبدل العسكري وتجنيد المجتمع بسائر ملله المسلمة وغير المسلمة، والتعامل مع القبائل والتجمعات المجتمعية مع ابتكار الإحصاء السكاني لهذه الغايات.

بدا وكأن الدولة الحكومة (الحاكم ومحيطه) دخلت في صِدام مع دولة المجتمع (التجمعات السكانية والعشائر والملل والطوائف...إلخ) وبشكل أخطر حينما تكون إحدى أهم آليات التنظيمات العثمانية، أي المركزة، تبغي استقطاب الجيش في سلك محدود للتحكّم به للقيام بهذه العملية، حيث إن الجيش هو دائرة ثالثة وحلقة وصل أدّت دورها في هذه المركزة.

احتوى الكتاب على جمع من الجداول الإحصائية متناثرة السنوات تعطي نظرة عامة على طبائع الرواتب العسكرية والمعطاة عبر عقود القرن التاسع عشر وما يليه لمختلف الرتب العسكرية وأصنافها وكذلك تعامل الدولة مع المدد الزمنية للخدمة العسكرية لسائر طبقات النظام العسكري (النظامية والاحتياط.. إلخ) وبالطبع تحليل العلاقات بينها وبين الثورة والاحتجاج وبنية الجيش وقوته.

كون القرن المحكي عنه هو قرن التنظيمات والإصلاحات فإن "مورو" تناولت أيضًا فترات الإصلاح العسكري وماهيته على وجه الخصوص من هذه الإصلاحات العامة، وكيفية تعامل الكوادر القائمة على الإصلاح به، واستقطاب الخبراء من الخارج.

كانت المشكلة العسكرية هي بذرة ابتداء هذه الإصلاحات منذ القرن الثامن عشر من خلال تطوير دائرتي البحرية والمدفعية وإنشاء المدارس والكليات في قرن الحداثة (التاسع عشر)، لذلك فإن المؤلفة بالطبع لا تحصر دراستها بين عامين بقدر ما إنها تحاول تقديم خلفيات نشوء هذا الإصلاح ونواتجه على المدى التالي.

النفوذ الألماني وسير وجهاء السلطة

اختلف تأثر الدولة بطبائع هذا الإصلاح العسكري مع أكثر من دولة أوروبية، شراء الأسلحة والبوارج وكافة المعدات العسكرية من دول متعددة، ولكن الخبراء الفرنسيين ابتداءً ثم الجهود الكثيفة والأسماء البارزة المهولة للخبراء الألمان كانت واضحًا في هذه الدراسة.

من أشكال تعامل الدولة العثمانية مع المجتمع الإعفاء والبدل العسكري، والذي كان نوعًا من إكراه يقع على عاتق الدولة في كثير من الأحيان

اتضح أن زخم النفوذ الألماني لم يلج مع مقتبل الحرب العالمية الأولى بل يرجع بشكل بارز إلى ثمانينات القرن التاسع عشر، تقنيات وعقيدة وأفكار، أبرزت "مورو" تدخل السياسة والعلاقات الدولة في استقدام الخبراء، ولكنها من صعيد آخر بيّنت أن ثمة تماثل مجتمعي يجعل [عقلية] الفلاح التركي يعتمد على مثيله الألماني في إصلاح العسكرية، مما لا تخفى آثاره فيما بعد سنوات الدراسة (بعد 1914).

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "مختارات سياسية من مجلّة المنار لرشيد رضا".. أفكار مبكرة في الإصلاح

تناولت المؤرخة خزع ثلاثة في الكتاب لدراسة بنية العسكر الاجتماعية عبر هذا القرن الطويل، تمثلت في دراسة سير العمداء الباشوات "أحمد مختار" و"سليمان حسنو" وأخيرًا "عثمان نوري"، هم قادة عسكريين وُلدوا في حقبة التنظيمات وتربوا على يد ثقافة ومدارس التنظيمات الفكرية والعسكرية وحازوا بطولات جعلت منهم –على سبيل التمثيل لا الحصر- أمثولة واصدموا بالسلطة المستبدة فيما بعد وكان لكل منهم نموذج في تعامل السلطة معه.

عسكرة المجتمع

كذلك بيّنت تعامل السلطة مع المجتمع كوجه من أوجه العسكرة، في الحقيقة تبيّن أن عسكرة المجتمع ليست فقط متعلقة بالاتحاديين فقط، ولكنها تعود أيضًا لفترة أسبق، مثلًا تأسيس المدارس العشائرية من ناحية وتجنيد الأكراد في سبيل التخلص من ثورانهم [وللتعامل مع المسألة الأرمنية؟]، ونسبت المؤلفة هذا الأمر إلى ما أسمته "النظام الحميدي" و"الحقبة الحميدية" نسبة لعبد الحميد الثاني.

من أشكال تعامل الدولة مع المجتمع أيضًا الإعفاء والبدل العسكري، والذي كان نوعًا من إكراه يقع على عاتق الدولة في كثير من الأحيان؛ لتتخلص الدولة من عبئ التعامل مع التجمعات المللية والمجتمعية في جسمها، لتقع في محظور آخر وهو إمكانية تشكيل بؤر ثورة ذاتية فيما بعد.

بينت المؤلفة أوديل مورو مسائل شديدة الحساسية في "النظام الجديد العسكري" إبّان تفتّتت العسكرية والدولة المنهكة بالديون والفساد المالي وحتى قيام ثورة الجمهورية، أنّها وقعت في صراعات داخلية بين ضباط متخرجين وضبّاط صف، وبين القادة والجنود مع وجود نظام يمركز السلطة على شخصية الزعيم الذي يطمح ليعيش مؤبدًا "ليعش سلطاننا كل العمر، ليعش في دولته ألف دهر".

أحزاب حزب الاتحاد والترقي

هكذا استقبل الجميع ثورة الثالث والعشرين من تموز/يوليو عام 1908 الدستورية المدنية على النظام بفرح، ولكن كانت النتيجة مخيبة للآمال، إذ خرجت الخلافات ذاتها على السطح بشكل أعمق، فاستبدل الاستبداد الفردي بالجمعي العتيّ، وعانت الدولة من هزائم وحروب في البلقان وليبيا هزّت مضجعها.

حتى عام 1913 تولّت الجهات المدنية للثورة الحكم بشكل أكبر، ولكن بعد تلك الفترة حصل فيها انقلاب وآخر مضاد حاولت الأجنحة المختلفة للدولة "ما بعد الحميدية" التصارع على السلطة. أبرزت "مورو" العلاقة بين مدنيي الاتحاديين وعسكرييهم وكذلك الاختلاف في وجهات النظر لدى العسكريين في التعامل مع السياسة هل للجيش علاقة بها أم لا؟ وبالطبع لم يخلو من العبث بالاقتصاد بل والتأثر من الأعباء المالية ومحاولة التأثير فيه.

إن البنية الاجتماعية العسكرية العثمانية التي تبلورت بعد عام 1826 لم تكن قاطعة مع أختها الإنكشارية السابقة، واستمرت في التأثير بتاريخ الدولة

حصلت التصفيات والتنحيات والترقيات السريعة للتسريح للتخلص من هذا التردد القائم، ولكن بعد الهزائم في البلقان والخسائر في ليبيا بدأت عمليات اللوم البينية، بعد سنوات ستُحسم هذه الفوضى بشكل راديكالي من طرف المعادين لخلط السياسة بالعسكر من جانب الذين لم يتم تصفيتهم (هل استخف الاتحاديين بهم، وبالتالي لم يتخلصوا منهم؟) أي الحديث عن مصطفى كمال وفريقه.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الدول والثورات الاجتماعية".. بنى وأصول التحولات

كانت تحولات واضطرابات الاتحاديين عميقة أكثر مما يُتخيل عليهم الانسجام والتوافق على خلع الاستبداد أو القيام بكل سهولة بإعلان دستور ما، أبرزت "مورو" اضطراباتهم في التحول [المتداخل] من الفكرة العثمانية الوطنية إلى الجهادية الإسلامية الجامعة مع القومية الراديكالية، هذه مؤثرات ساهمت في تحطيم بناؤهم المتزعزع.

أخيرًا، هل لم تعانِ جمهورية الكماليين من المشاكل ذاتها؟ قد يكون القطع مع الميراث القديم، بالمعنى الواسع والشامل، ووفق المستوى الجغرافي والاقتصادي خصوصًا، سهّل نوعًا ما التعامل مع تلك المشاكل التي وقع به محمود الثاني وفيما بعد حقبة حفيده عبد الحميد الطويلة وبالتأكيد الاتحاديين ولكن يبد أن "الحظّ" حالف الكماليين في الدولة القومية للقطع والتخلص من الكثير من المصائب في بنية الجيش والثوران الاجتماعي الحاصل بسبب المركزة العسكرية.

خلاصة الكتاب تريد القول إن البنية الاجتماعية العسكرية التي تبلورت بعد عام 1826 لم تكن قاطعة مع أختها الإنكشارية السابقة، واستمرت في التأثير بتاريخ الدولة، إلى جانب بنى أخرى ليست من موضوع الكتاب، عبر القرن التاسع عشر وكانت سببًا في انتصار الاستبداد العسكري على الاستبداد المطلق؛ وبالتالي تشكيل الجمهورية التركية فيما بعد، وليست الدولة المحيطة عن هذا التفاعل ببعيدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"يوميات عارف العارف".. الدولة الأردنية في بداياتها

كتاب "المسلمون والحداثة": من الفضول الجغرافي حتى الجغرافيا المُستعمرة