23-يونيو-2022
الشاعر اللبناني حسن عبدالله

الشاعر اللبناني حسن عبدالله

يرحل الشاعر اللبناني حسن عبدالله (1944 - 2022) وترحل معه قصيدته. ترافقه إلى حتفه تمشي معه الهوينى كما كان يفعل دائمًا. حين تذكر القصيدةَ الطريفة يتبادرُ إليكَ حسن عبدالله برقّته الماثلة وصوته القشيب وسيجارته الآيلة معهُ أينما ذهب. يحدّثك بسطوعه عن الشّعر وعن الجنوب وعن القصيدة الخافتة والسّريعة التي رافقته. في بحّته ظلّ الخيام وسعة سهلها، في كلّ تفصيل منه شيء يعيدُكَ إليها. إلى ماضٍ سحيق يرفض أن ينساه وأن يكمِلَ بدونه.

لا يمكن عدُّ عبدالله ضمن الشعراء الغزيري الإنتاج على امتداد نصف قرن تقريبًا من مسيرته الشعرية. ولعله مرّ في فترات طويلة من الصّمت، إلّا أنّ لمعات قليلة وشذرات أطلّ بها بين فينة وأخرى جعلته حديث السّاعة

يرحل المنشد الجنوبيّ عن عمر ناهز الثمانين عامًا، مخلّفًا وراءه ستين كتابًا للأطفال وأربع مجموعات شعريّة. لا يمكن عدُّ عبدالله ضمن الشعراء الغزيري الإنتاج على امتداد نصف قرن تقريبًا من مسيرته الشعرية. ولعله مرّ في فترات طويلة من الصّمت، إلّا أنّ لمعات قليلة وشذرات أطلّ بها بين فينة وأخرى جعلته حديث السّاعة وقرينًا لقصيدة الأم "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، أجمل الأمهات التي انتظرته، وعاد، عاد مستشهدًا. فبكتْ دمعتين ووردة ولم تنزوِ في ثياب الحداد".

ما زلت أذكر تمامًا تلك الحادثة. حين أصدرت مجموعتي الشّعرية الأولى عام 2018، وبدافع الشباب الساذج، ذهبت لأهدي كتابي إلى من يكبرونني في العمر والتجربة. وكان من بينهم حسن عبدالله. استفسرت : أين أجده يا ترى؟ فجاء الجواب في مقهى الروضة يوميًا في الظهيرة. ذهبت إلى هناك متأبطًا كتابي والعالم لا يسع خطواتي وفرحتي. بدماثته المحبّبة ولطفه بارك لي وقال بانتباه: سأقرؤكَ. ظننتها حينها مجاملة أنّه سيقرؤني. لكن ما لبثت بضع ساعات أن مضت حتّى يرنّ هاتفي: آلو مرحبا.. معك حسن عبدالله.. ثمّ وضّح قائلًا حسن خليل.. أجبته يا هلا أستاذ حسن سعيدٌ بصوتكَ.. تابع: قرأت المجموعة لم تأخذ منّي الكثير من الوقت، المجموعة جيّدة يا ابني وتنبئ بشيء ولكن أرجوك أن تقرأ الماغوط. ثم استأذن وأغلق الهاتف. هكذا كانت كلماته السّريعة والعابرة ولكنّها حفرت في نفسي أجمل الأصداء.

اللقاء الثاني به كان في أمسية شعريّة تكريمية نظّم له في بيروت عام 2019. ذهبت إليه قاصدًا من الجنوب، حضرت الأمسية وافتتح باب النقاش فتوجّهت إليه بسؤال يتيم: كتبت الشّعر والقصّة القصيرة. ما الذي أعطاك إيّاه الشّعر؟ تنهّد تنهيدة كبيرة وابتسم كأنّ ذاكرته أسعفته ليتذكرني وأجابني ممازحًا ألم أقل لك اقرأ الماغوط؟!

نرثي حسن عبدالله ونرثي معه عمرًا وزمرة كانت في ذلك الوقت ساطعة على نحو ما. زمرة الشّعر والولادات العظيمة للكلمات، زمرة الأمكنة والأجساد الهشّة التي لم تجد مسكنًا سوى الشّعر.

هكذا يتحوّل الشّاعر ببرق خاطف إلى أسطورة وكلماته إلى مِزَقٍ تُزيِّنُ وجهَ التّاريخ. ينكشف له كلّ شيء. ويبقى حاضرًا يرفض أن ينسى ويرفض أن يتذكّر. كما عاش حسن عبدالله في ذاكرته الغنيّة مرافقًا للأشياء في تحوّلاتها في رحلة رثاء صامت للزمن والأشياء والأحداث. خفيفًا كما عاش يرحل غير آبه بالزّمن ولا باحتضاره وفواته. يرحلُ الشّاعر وزمنه دائمًا طفلُ.