18-أغسطس-2016

الحكيم ومحفوظ في جلسة خاصة

عندما ننظر إلى روايتنا العربية نراها قد بدأت في فترة متأخرة نسبيًا عن العالم الغربي، ولا يخفى على المهتم بمجال الرواية، أن الكتاب العرب كانوا في حالة من الخجل عند نشرهم لما يعرف باسم "الرواية"، إذ كانت تهاجم بشدة في مطلع القرن الماضي وحتى الثلاثينيات منه، حتى ظهور "عودة الروح" لتوفيق الحكيم. مع الأخذ في الاعتبار أن الرواية بمرحلتها الناضجة، أي مرحلة "فجر الرواية العربية"، كانت على يد محمد حسين هيكل في "زينب" التي كتبها عام 1910 في فرنسا.

كان الكتاب العرب في حالة من الخجل عند نشرهم لما يعرف باسم "الرواية"، إذ كانت تهاجم بشدة في مطلع القرن الماضي

لن نطيل السرد في تفاصيل تطور نشأة الرواية العربية، لكن أنا بصدد رصد أهم مدرستين قد وفدتا إلى أدبنا العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، عن "اللامعقول" لدى توفيق الحكيم، و"الواقعية" لدى نجيب محفوظ.

اقرأ/ي أيضًا: توفيق الحكيم.. عصفور على خشبة المسرح (1- 2)

كنا عند الشيخ مصطفى في شهر رمضان، في منزله الريفي الجميل، نتناول إفطار الشهر الكريم بصحبة عدد من زملاء الدفعة، ثم في ختام يومنا، جلسنا على قهوة هادئة جميلة في منطقة شبه مقطوعة. مسلسل "الأسطورة" على الشاشة ونحن نجلس فيما بيننا، ثم في مهب المواضيع المتشتتة المثارة، حط علينا فجأة سيرة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وسأل سائل: من منهما الأعظم؟! كان رأيًا منصفًا إلى حد كبير اتفقنا عليه، هو أن الحكيم تفوق في الفكرة، ومحفوظ تفوق في الأسلوب، كما أجمعنا، أن الحكيم لو امتلك أسلوب محفوظ كان للحديث عن حكيم في نوبل شأن آخر، والعكس صحيح.

ولكن لم يتوقف ذهني عن السؤال: ألم يمتلك الحكيم الأسلوب؟ ألم يمتلك محفوظ الفكرة؟ هل لخلفيتهما الثقافية تأثير، فحكيم فرنسي الثقافة، بينما محفوظ إنجليزي الثقافة؟ هل الذي تأثر بمدرسة اللامعقول أو العبث في فرنسا، عجز عن استيعاب، واقعية شكسبير وأورويل؟ هل الذي عاصر يونسكو، وأداموف، وبيكت، وبوتساني .. قد تأثر بهم لدرجة جعلته يكتب الحمار حكيمًا وحماري قال لي، وبنك القلق وغيره، وهو يعرف أن الشعب العربي لم يعد مؤهلًا بعد لهذا المسرح العبثي؟ على العموم عبثية الحكيم كانت في عظمة أفكاره، فالقانون موجود ولكن من يهتم هذا هو العبث، فالاشتراكي برجوازي، والإقطاعي شيوعي، ولا ضير من حق الإنسان أن يناقض نفسه، هذا هو العبث هذا هو اللامعقول.

أما عن محفوظ، فكان يسير في نفس الخط الروائي الذي تسير عليه الرواية العربية، وهو الواقعية التاريخية، على خطى طاهر لاشين ويحيى حقي وعادل كامل ومحمد عوض محمد، حيث إن المدرسة الإنجيلزية تتميز بجزالة الأسلوب وتتمسك بقواعد اللغة، أسلفه جيل قد سبر أغوار ألوان لم يعتد بها قبلهم من الأدب، فكان لرواد القصة الحديثة من أمثال يحيى حقي دور في الاطلاع على الأدب الروسي وروحانيته وفوق وتحت واقعيته، هذا الأدب الذي مثّل كل مدارس الواقع، فكان من الطبيعي أن يكون الجيل الشاب في الرواية جيل الأسلوب القوي يصبه في القوالب صبًا، متقيدًا بحدود الشخصية، التي يسبر أعماقها في محاولات جادة لنقل الواقع على الورق. ولكن كما قال أنيس منصور إن الواقعية في الواقع هي ضد الواقع، هي محاولة لوضع شجرة في صندوق، حتى تنجح عليك أن تقص وتزيل الأطراف في الفروع وعليه تكون قد نقلت واقعًا مشوهًا، صورة غير حقيقية مشوشة عما يدور.

حصل نجيب محفوظ على نوبل لأننا فقراء أسلوبيًا. محفوظ هو بيكاسو الورق المصري

اقرأ/ي أيضًا: أطياف رضوى عاشور.. خفة لغة الحكاية

وحتى عندما يقول النقاد إن محفوظ بروايته "أولاد حارتنا" قد خلق مدرسة جديدة أسموها الواقعية الجديدة، فهذا ظلم للأدب اليوناني، هذا ظلم لكازانتزاكيس "للمسيح يصلب من جديد" و"الإغواء الأخير للمسيح". محفوظ لم يخلق لونًا جديدًا، لم يضف للمكتبة العالمية شيئًا يذكر، لكنه أضاف إلى فقرنا الثقافي والإبداعي، كان العالم الأدبي في غنى عنه، وحين حصل نوبل حصل عليها لأننا فقراء أسلوبيًا، محفوظ، بهذا المعنى، هو بيكاسو الورق المصري.

أما عن الحكيم ونوبل، فقد ذكر كمال الملاخ في حواره مع الحكيم عن رأيه في نوبل، ومن يتوقع أن يأخذها هذا العام وقتها، هل ألبير كامي أم كزنتزاكيس، فقال نوبل جائزة قيمتها الحقيقية تكمن في المادة وليس المعنى، فلن يستطيع أحد تذكر جميع من حصلوا على نوبل منذ 20 عامًا. وبرغم إعجابه بكامي لكنه كان ضده، فالحكيم عبثي وكامي وجودي، ولا اتفاق بين الأرض والسماء. الحكيم رشّح كزانتزاكيس أن ينال نوبل، وعند سؤاله عن ترشيحاته للعرب، قال: "طه حسين للأدب العربي والعقاد للفكر العربي". وأنا أقول: حكيم للفكر، ونجيب للأسلوب.. هذا للفيلسوف والآخر للكاتب.

اقرأ/ي أيضًا:

"الأحلام الجديدة".. نجيب محفوظ يثور

إدوار الخراط.. سيرة انشقاق