29-يونيو-2022
(Getty) مفهوم الكتاب الإلكتروني

(Getty) مفهوم الكتاب الإلكتروني

"اقتربت نهاية الأدب وصارت وشيكة، فالزمن اختلف وغلبت عليه وسائط جديدة غير الكتاب. وعلى الرغم من ذلك فالأدب خالد وعالمي، وسوف يبقى رغم كل التغيرات التكنولوجية والتاريخية"!

في كتابه "عن الأدب"، (المركز القومي للترجمة، ترجمة سمر طلبة)، يسوق هيليس ميلر هاتين العبارتين المتناقضتين كمسلمتين، وهو سرعان ما ينجح في إزالة الالتباس وإزاحة التناقض بينهما عندما يحدد مفهوم الأدب في كل منهما: فالأدب الذي أوشك على الأفول هو تلك الظاهرة التي شهدتها أوروبا في القرون الثلاثة المنصرمة.. الأشكال الإبداعية التي ولدت ونمت في القارة العجوز، ومنها انتشرت إلى بقية العالم. أما الأدب الخالد فهو ذلك المفهوم العام والأوسع والذي يشير إلى استخدام محدد للكلمات أو العلامات (أيًا كان نوعها) التي توجد في أي ثقافة إنسانية في أي زمان.

الأدب كما نفهمه اليوم، والذي يشمل النتاجات المطبوعة على ورق من شعر وقصة ومسرح، صار ممكنًا بفعل ظروف وعوامل تاريخية محددة كانت أوروبا مسرحها، وعلى رأسها انتشار الطباعة وازدهارها

الأدب كما نفهمه اليوم، والذي يشمل النتاجات المطبوعة على ورق من شعر وقصة ومسرح، صار ممكنًا بفعل ظروف وعوامل تاريخية محددة كانت أوروبا مسرحها، وعلى رأسها انتشار الطباعة وازدهارها، إذ توسعت لتصل إلى أكبر عدد ممكن من البشر، في أسرع وقت وبأقل كلفة. وما كان للطباعة أن تحقق انتشارها الواسع لولا نهضة التعليم التي أجهزت على الأمية ورفدت الثقافة بالمزيد من القراء النوعيين المهتمين والقادرين على الفهم والتذوق. وكذلك ما كان للتعليم أن ينجز نهضته لولا الديمقراطية التي كفلت حق المعرفة للجميع، إضافة إلى حق المشاركة السياسية والمساهمة في تقرير المصير المشترك، ما خلق مجالًا عامًا تجري فيه مناقشات حرة وتبادل مفتوح للأفكار والآراء. ولقد صعد الأدب في شكله الحديث مع صعود فكرة "الدولة الأمة" وتجسدها في معظم الأرجاء، فصار لدينا الأدب الفرنسي، الأدب الإنجليزي، الأدب الألماني.. وتعزز الأدب أيضًا بدعم غير محدود من الجامعات البحثية، التي أفردت له الكثير من الميادين والتخصصات.. حيث غدت الجامعة ساحة شاسعة للتنظير والنقد الأدبيين ولمختلف الدراسات المتعلقة بالظواهر الأدبية..

كتاب عن الأدب

يقول ميلر إن تغييرًا كاسحًا وشاملًا بدأ يعصف بهذا المشهد مهددًا استقراره واستمراريته. فالإطار القومي لم يعد صالحًا لاحتضان الأدب في ظل العولمة، والطباعة تتهددها وسائط المعرفة الحديثة التي أفرزها الانترنت، إذ ثمة الكثير من المؤشرات على أن الشاشة ستغدو بديلًا عن الورق، إن لم يكن اليوم فغدًا.. والجامعة بدأت تتخلى عن دعمها للأدب، بعد أن صارت الدراسات الأدبية ميدانًا مهجورًا بلا رواد وبلا عوائد تبرر التكلفة مهما قلّت..

ويختلف الأدب ــ حسب ميلر ـــ حين نقرأه على شاشات الكمبيوتر عنه مطبوعًا على الورق. إنه يتغير ويصير شيئًا غير نفسه باختلاف الوسيط الذي يقدم من خلاله. ما غيّره هنا هو سهولة البحث عنه وفيه وسهولة معالجته والتعامل معه على شاشة الكمبيوتر، وغيّره ذلك السيل من الصور التي نجدها مرتبطة بكل عمل أدبي نبحث عنه على الإنترنت والتي تظهر في الحال بمجرد العثور على العمل المطلوب فتكون قريبة منا بعيدة عنا في الوقت نفسه. وهذه التغيرات تجعل الأدب أقرب وأغرب في نفس الوقت، فهي تجعله يبدو، ظاهريًا، كشيء بعيد، إذ أن كل تلك المواقع الموجودة على الإنترنت، بما فيها المواقع الأدبية، تعيش معًا في ذلك الفضاء اللامكاني الذي نسميه "الفضاء الالكتروني".

والتعامل مع الكمبيوتر نشاط بدني يختلف كل الاختلاف عن الإمساك بكتاب وتقليب صفحاته الصفحة تلو الأخرى. يقول ميلر: "ولقد حاولت أن أقرأ الكترونيًا، فعلى سبيل المثال حاولت قراءة رواية هنري جيمس المسماة "النبع المقدس" على الكمبيوتر، إذ لم تتوفر لدي أي نسخة ورقية منها، لكنني وجدت قراءتها بهذه الطريقة شديدة الصعوبة، الأمر الذي يجعلني ــ بلا شك ــ واحدًا من أسرى عصر الكتاب المطبوع الذين تشكلت عاداتهم البدنية طبقًا لما أملاه ذلك العصر الغابر".

في مقال له تحت عنوان "لماذا نقرأ الأدب"، يتحدث ماريو فارغاس يوسا عن الموضوع ذاته، متوصلًا إلى نتيجة مشابهة. ومع اعترافه بأن الإنترنت يؤدي للكاتب مساعدة لا تقدر بثمن؛ لكن "امتناني لهذه الراحة لا يتضمن اعتقادًا بأنه يمكن للشاشات الإلكترونية أن تستبدل الورق، أو أن القراءة بالكمبيوتر يمكن أن تفي للقراءة الأدبية".

بالنسبة ليوسا، ستظل قراءة الأدب، القائمة على الأحلام ومتعة الكلمات والإحساس بالحميمية والتركيز العقلي والعزلة الروحية، لا يمنحها أحد إلا الكتاب

ويقرر يوسا هذا التوزيع للمهام: فالكمبيوتر يفي بمتطلبات القراءة الوظيفية التي نبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع. أما قراءة الأدب، القائمة على الأحلام ومتعة الكلمات والإحساس بالحميمية والتركيز العقلي والعزلة الروحية، فلا يمنحها إلا الكتاب.

وهو سرعان ما يختبر هذه القسمة على نفسه: "على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الانترنت، لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرًا لجونجورا، رواية لأونيتي أو مقالًا لباز..".

ثم يصل الروائي الشهير إلى هذه النبوءة: "أنا مقتنع، بالرغم من أني لا أستطيع إثبات ذلك، بأنه مع اختفاء الورق سيعاني الأدب من ضربة مهولة، وربما مميتة".