22-سبتمبر-2018

يرى فانون أنه لا يمكن مواجهة عنف الاستعمار إلا من خلال عنف مضاد (تويتر)

غالبا ما تستدعي مقولة الاستعمار مقولة التحرر، والعكس صحيح أيضًا عندما يتم تناول الظاهرة الاستعمارية الحديثة أو عندما يتم التعرض لحركات التحرر؛ وكأن العلاقة بين الظاهرتين علاقة تلازمية سببية. ولعل سبب ذلك يعود إلى فرادة التجربة الاستعمارية الحديثة باعتبارها إحدى أكثر التجارب مرارة في العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر أو الذات والآخر بعبارة آنيا لومبا، فالاستعمار في كل حالاته وَضَعَ أو سَجَن السكان الأصليين والقادمين الجدد في أكثر العلاقات تعقيدًا وألمًا في تاريخ البشرية.

الاستعمار حسب فانون ليس آلة مفكرة ولا خطابًا يتم تفكيكه كما حرص على ذلك إيميه سيزار ولكنه قبل ذلك عنف هائج وقوة عمياء

لكن فرانز فانون يختصر لنا هذا السبب في مقولة مفتاحية أساسية هي مقولة العنف، باعتباره شكل العلاقة الأولى بين ذاتيتين مختلفتين تحاول كلّ منهما محو الأخرى، حيث يعمل المستعمِر على تجريد المستعمَر من أيّ ماهية وذاتية إنسانية أو قدرة على التميز، وبعبارة إيميه سيزار يعمل المستعمِر على تشييء المستعمَر لتبرير الانتهاك والاستغلال المستمر له ولأرضه وموارده، لكن حسب فانون فإن المستعمَر يعي في لحظة معينة أن قدره في الحياة وفي دخول التاريخ مرتبط بمحو الاستعمار الجاثم عليه، ولن يكون ذلك حسب فانون إلا بالعنف أيضًا؛ ذلك العنف الذي يولّده المستعمَر من تجاربه المريرة مع عنف مستعمِريه، والذي يَنْوجِدُ التعبير عنه أول ما ينوجد في طريقة الرقص وفي ضراوة قتال القريب وأيضًا في الأحلام، قبل أن يتم توجيهه نحو وجهته الحقيقية إلى المستعمِر الذي هو سبب مأساة وآلام المستعمَرين.

هنا تبدأ سيرورة التحرر الفعلية حسب فانون، أي التحرر بما هو استعادة وبناء للإنسان الجديد. لكن كيف يمكن للعنف الذي هو ماهية الاستعمار أن يكون شرط التحرر؟  هل يحمل العنف ماهيتين مختلفتين بهذا المعنى؟ وبالرجوع لأطروحة إيميه سيزار القائمة على مماهاة أو مطابقة الاستعمار بالتشيؤ هل نجد مخرجا من مأزق عنف فانون؟

اقرأ/ي أيضًا: دور البطاقات البريدية الاستعمارية والنساء في صناعة الحرب

الاستعمار حسب فانون ليس آلة مفكرة ولا خطابًا يتم تفكيكه كما حرص على ذلك إيميه سيزار ولكنه قبل ذلك عنف هائج وقوة عمياء، فلا شيء غير العنف يمكن أن يُعرّف المستعمِر ويحلل فاعليته، وإذا كان من تعريف يمكن تقديمه للاستعمار فهو أنه اختراق عنيف لكل أوجه الحياة في المستعمرة؛ اختراقٌ للثقافة والقيم والموارد وطراز الاقتصاد والأجساد "شكل الملبس والمظهر" والمكان.. لأن المستعمِر حسب فانون لا بد أن يجعل مستعمَره روح الشر وخلاصته، ولتحقيق ذلك لا بد من ممارسة عنف أعمى ودائم على الانسان المستعمَر ليتحول إلى كائن مجرد من الأهلية ومن الإنسانية، وبالتالي جعله شرًّا مطلقًا؛ ومن هنا يبدأ المستعمِر في بناء خطابه عن المستعمَر كمستودع لقوى شيطانية، كأداة لقوى لا وعي لها ولا سبيل لإصلاحها.

ولذلك لم يكن مستغربًا حسب فانون أن يقول أحد أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية "إن علينا أن لا نلوث الجمهورية بإدخال الشعب الجزائري إليها"، حيث إن الاستعمار حسب فانون هو منظومة عنف أو لا يكون. وأول عناصر هذا العنف المستخدمة هو التحطيم المادي لكيان المستعمَر، أما العنف الرمزي فهو تتويج لآلية التحطيم المادي، وليس المنطلق. ولذلك اعتبر فانون أن استجابة المستعمَر لا تتبلور إلا من خلال العنف المضاد، الذي تخلقه الممارسات العنيفة للمستعمِر، ومن منظوره كطبيب نفسي عزز هذه الفرضية في تحليله لأحلام المستعمَرين حيث وجد أن أغلبها أحلام عَضَلِيَّة تتمثل في الوثب والركض والتسلّق، وهي كلها حسب فانون أحلام هجوم وعدوان لكنها لا تجد التعبير عنها إلا في فترة المساء من التاسعة حتى السادسة صباحا. كما يجد هذا العنف طريقه للإفراغ من خلال تقنيات الرقص ومعالجة المسّ أو الجنون في حفلات طرد العفاريت، وأحيانًا كثيرة في الشراسة أثناء خصومات الإخوة والقبائل المتناحرة.. لكن هذا العنف في الأخير لا يأخذ صبغته التحريرية إلا حين يوجه وجهته الصحيحة وهي الكفاح ضد المستعمِر.

هنا يتساءل فانون بتعجب متى يمكن القول إن الوضع قد نضج إلى الحد الذي يجب فيه القيام بحركة تحرير وطني؟ ولا يجد حينها بدًّا من الحديث عن النخبة المثقفة والطليعة الحزبية لتقود عملية التحرر بما هي عملية عنف شاملة، لأن الاستعمار حسبه " ليس آلة مفكّرة، ليس جسمًا مزودًا بعقل، وإنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى".

يعطي فانون للعنف مضامين أخرى نفسية تتمثل في اتخاذ العنف وسيلة لتطهير النفس من السموم وتخليص المستعمَر من مركب النقص الموجود لديه، باعتباره غير قادر على ممارسة العنف على غرار المستعمِر، بل ويعتبر فانون العنف منسجمًا وطبيعة الأشياء، لأنه هو الوسيلة الرئيسية التي يستمد منها المستعمِر والمستعمَر معًا قوتهما. يضعنا فانون بهذا التصور أمام آليتين للعنف الأعمى لا تختلفان إلا في مقاصدهما، لكن ماهيتهما واحدة، فكما أن الاستعمار لا يكون إلا بالعنف، فكذلك التحرر واستعادة الانسان المستعمَر لذاتيته وإنسانيته لا يتم إلا بالعنف أيضًا. وهنا يكمن المأزق في ترسيم حدود هذا العنف، الذي لا يضع له فانون نهايات واضحة، فالتحرر لديه هو اختيار ما يناسب المستعمَر ولا يكون ذلك إلا بمحو كل ما له صلة بالمستعمِر.

اقرأ/ي أيضًا: الشهيد موريس أودان.. مصائر ثورة غير مصرح عنها

 وبما أن الاستقلال لم يعد يعني التحرر المطلق؛ مع أخذ الاستعمار أشكال جديدة لممارسة هيمنته: مثل التبعية الاقتصادية والمحاصرة الاقتصادية، فإن ماكينة العنف التي كانت موجهة للصدام المباشر مع استعمار متواجد في نفس المكان، ستنقلب إلى الداخل في شكل سياسات متعسّفة، وفي أشكال متنوعة من القمع لكل من يخالف رفقاء السلاح والتحرر، الذين وقعت معظم بلدانهم حديثة الاستقلال فريسة دكتاتوريات استبدادية أنتجت نمطًا من الاستعمار الداخلي استباح الانسان وأعاد واقعة القهر والتشييء من جديد؛ وفشلت في بناء الانسان المتحرر الجديد، وذلك للمكانة التي احتلها العنف في بناء مشروع التحرر وعدم التأكيد على الحرية، التي لا يقود إليها التحرر بالضرورة، كما تنبهت إلى ذلك حنه أرندت التي لم تولِ العنف أهمية كبيرة في ميلاد المجتمعات الجديدة، باعتبار العنف أداة فقط وليس طبيعة أو حتمية كما تصور فانون.

يعطي فانون للعنف مضامين أخرى نفسية تتمثل في اتخاذ العنف وسيلة لتطهير النفس من السموم وتخليص المستعمَر من مركب النقص الموجود لديه

لكن ومن دون الابتعاد عن سياق منظّري تفكيك الاستعمار فإننا نجد لدى إيميه سيزار مقاربة تعيد تنسيب الهالة التي أضفاها فانون على العنف، كعلاقة ذات طابع خاص بين المستعمِر الأبيض وباقي المجتمعات الأخرى. أو كماهية للاستعمار، مع ما يترتب على ذلك من شرط التحرر بالعنف الهائج، حيث ينبهنا سيزار أن الفكرة المحورية في الاستعمار هي تشييء المستعمَر، والآلية المثلى لهذا التشييء هي الخطاب الذي يبنيه المستعمِر ويمثّل من خلاله مستعمَريه، وبناءً عليه يشرع المستعمِر في الانتهاك والاستغلال، أي يشرع في تشغيل آلة عنفه الفتّاك، التي يبذل قصارى جهده لتبرير تصرفها الأعمى عبر خطاب يحتكر للأبيض البرجوازي الأوروبي التميّز والحرية والحضارة ومهمة نشر قيمها. ولذلك كان خطاب المستعمِر هو أكبر عنف تمّ به غزو المستعمَرات. لكن المفارقة المهمة التي انتبه إليها سيزار هي ذلك التوحش الأوروبي الذي انقلب إلى الداخل، إلى أوروبا مع نازية هتلر، التي أشعرت الأوروبيين بحجم وحشيتهم التي لم يدركوها حين مارسوها ضد المجتمعات المستعمرة في إفريقيا وآسيا، حيث الإنسان الأبيض مسؤول أمام المجتمع البشري عن أعلى كومة من الجثث في التاريخ.

 لقد أراد سيزار أن يُظهر للمتميز جدًا، الإنساني جدًا، المسيحي جدًا، أن لديه هتلرا بداخله يسكنه، وإن أدانه فهو يكون متناقضًا. وبالفعل انبرى الخطاب الاستعماري للتمييز بين همجية هتلر وهمجية الأقوام الآخرين، بالحديث عن همجية عليا مقابل همجية سفلى، ليتأكد أن خطاب الاستعمار هو ماهية الاستعمار، وأنه المؤسّس لهذا القدر من التوحش في ممارسة العنف على الآخر، الذي تم تجريده من إنسانيته عبر تشييئه. وهنا يأخذ التحرر شروطًا جديدة تتعلق أولًا بتفكيك هذا الخطاب، مما يعني أن المعركة معرفية وعقلية، قبل أن تكون عنفًا أعمى هائجًا ضد عنف آخر هائج. وذلك لإزالة واقعة التشييء وإعادة إنسانية المستعمَر إليه، ليكون التحرر الفعلي هو إزالةٌ ومحوٌ للتشيؤ الذي كان مصدر كل استغلال واستعمار.  

صحيح أن سيزار لا يرسم استراتيجية واضحة لعملية التحرر كما يفعل فانون، لكن أطروحته، على الأقل، بمطابقة الاستعمار بالتشيؤ تستبعد تأسيس قيمة التحرر والحرية على العنف أو شرطهما بالعنف كما رأينا عند فانون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"جدل الثقافة".. النقد في مواجهة أسئلة الكولونيالية وما بعدها

لاهوت التحرير والتنمية