19-أبريل-2022
عبد السلام جلود ومذكراته "الملحمة" (ألترا صوت)

عبد السلام جلود ومذكراته "الملحمة" (ألترا صوت)

لم يكن عبد السلام جلود شخصية عابرة في المشهد السياسي الليبي، بعد ثورة الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969. فبالإضافة إلى دوره في إسقاط نظام الملك محمد إدريس السنوسي، يُعتبر جلود الرجل الثاني، بعد معمر القذافي، في النظام الذي تمخض عن الثورة، وشغل فيه مناصب عديدة منذ تأسيسه وحتى انسحابه منه في التاسع من أيلول/ سبتمبر 1992، بسبب خلافه مع القذافي حول إدارة شؤون البلاد التي انفرد الأخير بتسيير أمورها وفق ما يتناسب مع مصالحه الشخصية.

يعيد جلود أسباب تراجع الطفرة التنموية التي شهدتها ليبيا بعد الثورة إلى إعلان القذافي بأن النفط ملك له ولأولاده، وتبنيه سياسة التخويف والتجهيل والإفقار

لعب جلود دورًا مهمًا في تاريخ ليبيا بعد ثورة الفاتح. لكن دوره الخارجي يبقى، مع ذلك، أكثر أهمية وأشد تأثيرًا لأسباب عديدة لعل أهمها الدور الذي مارسه في هندسة علاقات ليبيا الخارجية، وتحديد شكل ومضمون دورها العربي والإقليمي في مرحلة حرجة من تاريخ المنطقة، سمتها الأبرز الاضطراب والفوضى والاحتقان السياسي، الذي ترتب على هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، فاتفاق كامب ديفيد، والحرب الأهلية اللبنانية، ثم العراقية الإيرانية، فالتشادية، وصولًا إلى الغزو العراقي للكويت، وحرب الخليج الثانية.

وفي معظم هذه الأحداث التي أعادت صياغة ملامح المنطقة، لعب عبد السلام جلود دورًا شخصيًا فاعلًا بمعزلٍ عن سياسات الدولة الليبية وتوجهاتها، الأمر الذي مكّنه من معاينة الظروف التي أحاطت بوقوعها من داخل أروقة الحكم ودوائر صنع القرار. ومن هنا تحديدًا، تأتي أهمية مذكراته الصادرة مؤخرًا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، تحت عنوان "الملحمة".

ليبيا ما قبل ثورة الفاتح من أيلول/ سبتمبر وما بعدها

تبدأ مذكرات عبد السلام جلود، بعد الحديث عن ظروف نشأته وتشكل وعيه السياسي، باستعراض أحوال ليبيا قبل ثورة الفاتح التي يعيد أسباب قيامها، بالدرجة الأولى، إلى الوجود الأمريكي والبريطاني والفرنسي العسكري على الأراضي الليبية، وهيمنة المستوطنين الإيطاليين على مقدرات الدولة، وفشل النظام الملكي في إدارتها وتحقيق تطلعات الليبيين السياسية والمعيشية.

في هذا السياق، يروي رئيس الوزراء الليبي الأسبق تفاصيل لقائه الأول بمعمر القذافي في سجن فزّان، وظروف تأسيسهما معًا "حركة الوحدويين الأحرار" في عام 1959، التي تحولت بعد ذلك بأربع سنوات، وتحديدًا في عام 1963، إلى "حركة الضباط الوحدويين الأحرار"، على يد القذافي الذي رأى أن: "عملية تفجير الثورة من الجامعات والمعاهد هو شيء نظري وغير مضمون النتائج" (ص 34).

ورغم رفضه لهذه الخطوة وتمسكه بمدنية الحركة في البداية، إلا أنه عاد وتقبل الأمر تحت إلحاح القذافي، الذي أقنعه بالانضمام إلى الكلية الحربية بصفتها المكان الذي سيوفر لهم، وفق ما يرويه جلود على لسان القذافي، سلاح تفجير الثورة وتحرير ليبيا.

يقول عبد السلام جلود إن أنور السادات خاض حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بعد الاتفاق على نتائجها مسبقًا مع هنري كيسنجر وقادة الكيان الصهيوني

يقول عبد السلام جلود إن الثورة أحدثت تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة في بنية المجتمع الليبي، سواءً على صعيد التعليم والإصلاح الزراعي، أو مشاريع الإسكان والبنية التحتية، وصولًا إلى رفع معدل دخل الفرد. ويعيد هنا أسباب تراجع الطفرة التنموية التي شهدتها ليبيا بين سبعينيات وحتى منتصف ثمانينيات القرن الفائت، إلى إعلان القذافي بأن النفط ملك له ولأولاده، ثم تبنيه: "سياسة التخويف والتجهيل والإفقار"، وقوله أيضًا إن: "على كل ليبي أن يدبّر رأسه (أي أن يبحث عن وسيلة للعيش) وأن دور السلطة هو دور الشرطي" (ص 73).

وقائع حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 والعلاقة مع أنور السادات

يروي وزير الداخلية الليبي الأسبق، في مذكراته، بعضًا مما عاينه داخل أروقة الحكم ودوائر صنع القرار في مصر خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، التي يرى إليها على أنها هزيمة يتحمل مسؤوليتها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي يجزم بأنه خاضها بعد الاتفاق على نتائجها مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وقادة الكيان الصهيوني.

يكشف جلود في سياق حديثه عن هذه الحرب، أن السادات لم يكن ينوي قتال الكيان الصهيوني، شأنه شأن معظم ضباطه الذين قاموا بإدارة المعركة، حسب روايته، بثقة مهزوزة، ومعنويات منخفضة، وعلى أساس خطة عسكرية تقليدية: "تعبّر عن جمود العقل العسكري وتكلسه؛ فهي تتجاهل الجبهة البحرية، مع أنها مميتة وقاتلة، كما أن الخطة تستبعد القيام بضربات جوية للكيان الصهيوني" (ص 124).

يتضمن حديث الكاتب عن حرب تشرين الأول/ أكتوبر، قراءة نقدية أساسها اطلاعه على مجرياتها، ومعاينته لطريقة الضباط المصريين في إدارتها. ويخلص جلود في قراءته إلى نفي صفة "النصر" عن نتيجة هذه الحرب التي يقول إنها حرب تحريك متفق عليها، وأنها هزيمة عسكرية وسياسية أخطر من هزيمة 1967، ذلك أن نتائجها النهائية هي: "عبور القوات الصهيونية لقناة السويس وحصار القوات المصرية وقطع خطوط إمدادها وتهديد القاهرة وتدمير شبكة الصواريخ على الضفة الغربية من القناة، وتحقيق السيطرة الجوية، ثم فرض الاستسلام والاعتراف به، وتحقيق ما لم يحلم به بني صهيون، أي اعتراف مصر بالكيان الصهيوني" (ص 134).

ويضيف: "لقد قضى السادات على القوة العسكرية التي بناها عبد الناصر. باع السادات تضحيات وبطولات الشعب المصري والجيش المصري. وللأسف لعب إعلامه ومثقفوه دورًا كبيرًا في تزييف الحقيقة وفي فرض الاستلام كما فعل ذلك كثير من المثقفين العرب الذين بشروا بالهزيمة. لقد زيف هؤلاء، ومعهم القوى الرجعية وقوى الاستسلام، الحقيقة الساطعة. وفي خضم هذا التزييف، باع السادات، مدعومًا بالآلة الإعلامية وبالمثقفين المستسلمين، دماء أجيال وأجيال من المصريين والعرب" (ص 134).

الحرب الأهلية اللبنانية، الثورة الفلسطينية، والعلاقة بحافظ الأسد وياسر عرفات

يميز عبد السلام جلود في مذكراته بين دوره ودور بلاده في الحرب الأهلية اللبنانية، التي يقول إن نشاطه فيها قد اقتصر، شخصيًا، على محاولات وقف الاقتتال الذي دار بين نظام حافظ الأسد من جهة، وفصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة أخرى، باعتباره مؤامرة هدفها إضعاف سورية، والقضاء على الحركة الوطنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية.

يوجه عبد السلام جلود في مذكراته نقدًا حادًا لياسر عرفات الذي يقول إن توجهاته كانت استسلامية هدفها إفساد الثورة الفلسطينية، والتآمر على الحركة الوطنية اللبنانية

الملفت في حديث رئيس الوزراء الليبي الأسبق عن هذه المؤامرة، أنه يأتي لتبرير قرار حافظ الأسد قتال الحركة الوطنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية، الذي يلمّح إلى أن طرفًا ما دفعه إلى اتخاذه. يقول هنا: "وجدت الرئيس متألمًا وكأن أمرًا ما فُرض عليه وهو يريد مخرجًا. كان الرئيس الأسد واعيًا بالمؤامرة، إذ طلب مني البقاء في دمشق ومواصلة جهودي للتهدئة" (ص 147).

في المقابل، يستثني عبد السلام جلود حرب المخيمات مما سبق، ويحمل مسؤولية وقوعها إلى نظام حافظ الأسد الذي اشترط، وفق روايته، انسحاب مقاتلي ياسر عرفات من المخيمات وتسليم أسلحتهم لإيقافها، وذلك في الوقت الذي كان يدعي فيه أن الحرب لا تدور بين القوات السورية والفصائل الفلسطينية، وإنما بين الأخيرة وحركة أمل التي ادعى آنذاك بأن لا سلطة له عليها، الأمر الذي يؤكد جلود عدم صحته.

لا يخفي السياسي الليبي في سياق حديثه عن الحرب الأهلية اللبنانية إعجابه بالثورة الإسلامية الإيرانية، وتأييده للنظام الإيراني وحزب الله، الذي يقول إنهما ساندا فصائل الثورة الفلسطينية خلال حرب المخيمات، والتزما بتحرير فلسطين، على عكس ياسر عرفات الذي يرى أنه: "تآمر على تدمير الثورة من الداخل. كان يفسد الذمم والكوادر والمناضلين، وأعتقد أن دول الخليج بدأت بدعمه حينما تأكدت أن الدعم لا يقود إلى التحرير، وإنما إلى تدمير الثورة وخلق "سلوك" غير ثوري. إنه البترودولار عماد الثورة المضادة" (ص 163). 

ولأن مذكراته لم تخلُ من النقد الذي طال مختلف المسائل التي تناولها، والشخصيات التي جاء على ذكرها، تضمن حديث جلود عن ياسر عرفات قدرًا عاليًا من النقد والاتهامات، إذ يقول في معرض حديثه عن دوره في لبنان إن توجهاته كانت استسلامية هدفها إفساد الثورة، والتآمر على الحركة الوطنية اللبنانية. ويضيف: "كل القيادات السياسية الفلسطينية في بيروت – عدا خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان في الجبل – قد استباحت لبنان وخاصة المناطق الإسلامية، وعملت على منع قيام حركة وطنية قوية. وبالفعل، فقد أضعفتها وحولتها إلى تابع، في حين كان ينبغي لها أن تكون هي الأساس" (ص 156).

يوجه عبد السلام جلود في هذا السياق نقدًا حادًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي يرى أنها أصبحت: "تحاكي النظام الرسمي العربي في سلوكه وتزييفه وسطوته"، وأنها مهدت، بممارساتها وسلوكها، لظهور: "ثقافة وقناعة أن الكفاح المسلح والعمل الفدائي لم يحققا شيئًا، ولم يقربنا من التحرير، ومن ثم فلنجرب المفاوضات؛ وهنا بدأت عملية تمهيد أرضية للانحراف" (ص 176).

يقول عبد السلام جلود إن القذافي كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه شيخ قبيلة، ورجلًا سلطويًا من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة

إلى جانب ما سبق، لعب جلود دورًا هامًا في الصراع الذي وقع في أواخر ثمانينيات القرن الفائت بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت، الذي حاول الانقلاب عليه أثناء تواجده في المستشفى. حيث سعى، وبناءً على طلب حافظ، إلى إقناع رفعت بوقف انقلابه ومغادرة سوريا. لكن الأخير اشترط الحصول على 200 مليون دولار أمريكي لمغادرتها. ولأن سوريا لم تكن تملك ما يكفي من العملة الصعبة، طلب حافظ الأسد من عبد السلام أن تقوم ليبيا بدفع المبلغ لتحافظ على سوريا، وتحول دون تدميرها.

العلاقة مع دول المغرب العربي

مارست ليبيا، بحسب جلود، دورًا مؤثرًا في المغرب العربي ضمن مساعيها لنقل تجربة ثورة الفاتح إلى دوله، ثم توحيدها أو إقامة الوحدة، على الأقل، بين ليبيا وبعض هذه الدول. ويأتي رئيس الوزراء الليبي الأسبق هنا على ذكر عدة تجارب وحدوية فاشلة مع الجزائر، والمغرب، وتونس في عهد الحبيب بورقيبة ثم خليفته زين العابدين بن علي.

يعيد عبد السلام جلود أسباب هذا الفشل إلى عدم رغبة الأطراف الأخرى في إقامة الوحدة، ومساعيها للانفراد في تسيير شؤون المؤسسات الإدارية والتنفيذية التي ستتمخض عن إقامتها. وهو ما حدث في تجربة الاتحاد المغاربي، التي يقول جلود إنها فشلت بسبب خلاف الدول الأعضاء، المغرب وتونس تحديدًا، على اختيار الدولة التي ستستضيف مقر الأمانة العامة للاتحاد.

أما الدور الأبرز الذي مارسته ليبيا على الصعيد المغاربي، فيبقى في دعمها انقلاب الصخيرات الذي وقع في المغرب عام 1971، في إطار مساعيها لإسقاط نظام الملك الحسن الثاني، باعتباره نظامًا رجعيًا إقطاعيًا. ويذكر جلود أن القذافي اتصل بالرئيس الجزائري هواري بومدين عقب الانقلاب وطلب منه أن تقوم الجزائر: "بتقديم الدعم العسكري لمساعدة هذه المحاولة وإنجاحها، وضرورة ألا تسمح لها بالفشل، وقررنا القيام بما يشبه المغامرة. بيد أن بومدين، رفض طلبنا، ثم طلبنا منه أن يسمح لقواتنا الجوية باستعمال المطارات الجزائرية فرفض، ثم طلبنا منه أن تقوم قاذفاتنا الاستراتيجية بعبور الأجواء الجزائرية لضرب الإذاعية المغربية والقصر الملكي (...) فرفض" (ص 188). 

العلاقة مع القذافي وأسباب خلافهما

يقول عبد السلام جلود إن علاقته بمعمر القذافي أخدت تتوتر، وعلى نحو مستمر، بعد ثورة الفاتح بسبب خلافاتهما حول مسائل مختلفة تتعلق بشؤون الحكم وإدارة الدولة، وتنكّر القذافي لقيم ومبادئ الثورة، وتدخله المستمر في عمل الحكومة وأجهزة الدولة ومحاولاته فرض إملاءاته عليها، إلى جانب مساعيه لتنصيب نفسه دكتاتورًا وشيخ قبيلة وفق تعبير جلود، الذي يقول إن معمر القذافي: "كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه "شيخ قبيلة"، ورجلًا سلطويًا من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة" (ص 63، 64).

ومع نهاية سبعينيات القرن الفائت، أخذت محاولات القذافي للانفراد في الحكم منحىً أكثر جدية وتصميمًا، وذلك تحت ذريعة تأمين ثورة الفاتح بعد محاولة الرائد عمر المحيشي، وهو عضو مجلس قيادة الثورة، الانقلاب عليه عام 1975. لكن الواقع أن القذافي قاد تحت هذه الذريعة: "انقلابًا ناعمًا وماكرًا، ومخادعًا وشيطانيًا، استغرق تنفيذه حوالي تسع سنوات، عاد في نهايته ليصبح "شيخ قبيلة" بامتياز، وحاكمًا وطاغية مطلق الصلاحيات؛ فقد شن حملة شعواء على قيادة الثورة، وشكك فيها وفي قدراتها، قصد ضرب صدقيتها في أعين الجماهير، كما عمل على تفسيخ حركة الضباط الأحرار" (ص 346).

لعب عبد السلام جلود دورًا مهمًا في تاريخ ليبيا بعد ثورة الفاتح. لكن دوره الخارجي يبقى، مع ذلك، أكثر أهمية وأشد تأثيرًا

ويروي جلود أن القذافي أمر إدارات التعليم بعد انقلاب عمر المحيشي: "بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية، وأقام تحالفًا قلبيًا بين قبيلته وقبيلة ورفلة، وشرع في تفريغ الحرس الجمهوري وقوات الردع من الضباط الأحرار والضباط الوطنيين، وإحلال أقاربه محلهم. وعيّن أقاربه والأتباع الانتهازيين في مراكز حساسة في أجهزة الأمن والمخابرات. في نهاية عام 1985، وبداية العام التالي، أعلن نفسه "شيخ قبيلة"، حين بدأ يحكم ليبيا بهذه العقلية" (ص 347).