يمدنا تاريخ النص الدرامي الحديث بأسماء لامعة، ويأتي هاينر مولر على رأس لائحة كتّاب أخذوا على عاتقهم مهمة تجديد المتخيل المسرحي، وترسخت تجربته الكتابية من امتلاكه فهمًا جوانيًا لانهيارات الإنسان في القرن الاستهلاكي، وكان لجدار برلين إيقاع متجذر من تذوقه مرارة عالمه الداخلي المرتهن بيد خرافة الرأسمالية التي تعمل على خلق أسيجة فصل عنصري للحواس والفكر قبل البلدان، الكوارث التي استهل بها المخرج السينمائي مشهد قبر هاينر مولر في الفيلم السيري "دورة مدينة الموتى"
"كنت أحب
أن يكون والدي إحدى أسماك القرش
لكي يمزق أربعين حوتًا
وكان بإمكاني تعلم السباحة في دمائهم
وأن تكون والدتي حوت أزرق" (*).
نجد في نصوص هاينر مولر تجوال في تضاريس الفراغ باشتباك نصي أيديولوجي كما حدث في "هملت ماكينة"، النص الذي يُعد من فتوحات "مسرح ما بعد الدراما"
تناقلت النقود المسرحية أن لهاينر مولر تماسًا خاصًا مع بريشت، وقد سعى في مرات عديدة اقتفاء أثره في الكتابة شعرًا ومسرحًا، لكنه بمرور الزمن، وعلى الرغم من صداقتهما الوثيقة استطاع تهشيم قشرة بيضة النظرية الملحمية، ومغادرة تعاليم تلك الأيديولوجية الماركسية المفرطة التي ألقت بالتجربة البريشتية في بحر الرتابة بحسب ما يرى، فكان يتوافق بالرؤية وكارل كراوس بأن حيوية المسرح تكمن في تجديد فهمنا للمرحلة من خلال تنظيف الإنسان من الاستيطانية المخففة، القائمة على صنع أسيجة نظرية ثقافية لا تقل خطورة عن جدار برلين.
هذه التصورات جعلت منه إنسانًا موزعًا بين حدَّي الوجود، فبين أن يحضر بصيغة الغياب، أو يغيب ليحظى بالحضور الإنساني عبر كتابة مبتكرة لم يألفها العقل المسرحي ولم يشهد عوالمها شكلًا ومضمونًا، منذ أرسطو وصولًا إلى بيكيت، كولومبوس الكتابة المسرحية الحديثة، لكونه يرى في الكتابة عملية في تعميق زمن الانفصال إذ يقول: "إنني أكتب أكثر مما أعرف. أكتب في زمن آخر غير الذي أحيا فيه"، ههنا اشارة جلية إلى يقين مولر بمستقبل المسرح الديمقراطي الذي ينتسب إليه، ويمكن مقاربة نصوصه مفهوم "مسرح السرد البلاستيكي" النظرية التي اجترحها واشتغل عليها التشكيلي والمخرج جوزيف شاينا.
وعلى الرغم من اختلاف المشغلين والفكري والبصري، إلا أن هناك قاسمًا مشتركًا بينهما، يتمثل في حيازتهما على ثقافة تشكيلة توازي بل تفوق ما لديهم من ثقافة أدبية، فكلاهما أتيا الى المسرح من تأريخ عريق مع الصباغة التصويرية، ومن سماته هذه النظرية أنها تتبنى القصّ الآلي، وقد أعانه مخياله الشعري على تحقيق هذه الابتكارات، فالنص المسرحي من منظوره فن قائم على الاجتزاء الحواسي لا المنطقي الرتيب حيث يقول في سيرته الذاتية "حرب بلا معركة": "لقد أصبح الفن التشكيلي بالنسبة لي منذ الستينات أهم من الأدب، فهو يؤدي إلى مزيد من الإنعاش".
لذا نجد في نصوصه تجوال في تضاريس الفراغ باشتباك نصي أيديولوجي كما حدث في "هملت ماكينة"، النص الذي يُعد من فتوحات "مسرح ما بعد الدراما" والذي جُسِّد على الخشبة من قبل مخرج مسرح الرؤى الأمريكي روبرت ويلسون، والأخير يرى بأن المسرح مع هاينر مولر دخل في عصر جديد بآليات وعوالم غير مسبوقة، حيث القفز من الحتميات المفتوحة إلى السيولة الرجراجة، وهذه معالم كتابة مسخية لزمن المتخيل المسرحي، مستمدةً من غريغور سامسا، غرائبية الفعل، وليس الفعل نفسه، فعند قراءة أي من نصوصه نجد أن النص يسعى لأن يتكامل باقتراح حيزه، ومن سمات الكتابة الفراغية أنها تتغذى على سؤال القارئ للحركة الداخلية للسرد الدرامي لمعنى الكتابة نفسها، أهو نص شعري، أم تعليق حول متخيل زمني، أم هو فعل تنظيفي لمخيلات الأسلاف عبر تشابك ميثي مرة وأيديولوجي مرة أخرى؟ ذلك لأنه يتبع مفهوم المسرح الكامل، فهو يعمل على تطوير مسرحة الغمر حيث يستعمل العديد من التقنيات المختلفة حتى يغرق القارئ المشاهد بعلامات مسرحية قد يجد صعوبة في فهمها والاضطلاع بها، وتأتي لعبية الغمر لدى مولر من استبطانه لتمزقات العصر، فليس هناك من معالم واضحة لنصه، فعلى مستوى الجنس الكتابي هو ينحو منحىً فراغي الشكل، أي يكتب كمن يستذكر عضو في جسد متخيل، إذ يقول بأن الكتابة هي الإقامة على الحدود، وبسماع هذا ينصرف إلى الذهن أنه قد عاش إشكال جغرافية الحواف في الحياة والكتابة معًا.
تنفتح نصوص مولر على ذوبان اللغات الأجناسية في بعضها البعض، فنرى بأنه يُحفّز المتخيل المسرحي ببصريات شعرية مكّنت النص من امتلاكه حيوية السؤال عن ضرورة انوجاد الفراغ داخل النص، فالشعرية وليس الشعر تضفي على العمل الفني سمة الحركة نحو المستقبل، أي فيها ضمان لديمومة الفعل الإبداعي كما يشير لذلك المخرج الإيطالي بازوليني، وقد تمتعت نصوص مولر بنكهة هذه العوالم.
يقف النص المولري على تخوم دحض الأيديولوجية الاشتراكية العابثة في المصائر الإنسانية بذريعة ايجاد ضد أيديولوجي يهزم الأخطبوط الرأسمالي، وتحركاته المشبوهة ضد الفردانية التي يسعى الفن الأصيل لترسيم معالمه، فكل مساعيه هو أن يستعيد الإنسان حضوره بعالم خال من التطاحن الاستعماري، وتجلت هذه الملامح في تشكّل النص الدرامي لديه، ففي ذهابه نحو هاملت إنما أراد بذلك تحرير المخيال الشكسبيري من الخطاب الإليزابيثي، وتجديد الاحتفاء بهاملت في كتابة استعادية لا تخلو من المكر والتآمر، بوصفه شاهدا على انهيار الأزمنة .
مثلت مرحلة الانقلاب على البريشتية في ألمانيا عتبة رئيسة في تطور المسرح من خلال الانفتاح على آفاق الكتابة الملامسة لانحسار الحس الإنسان، وتهميش حضوره على الخشبة
لقد مثلت مرحلة الانقلاب على البريشتية في ألمانيا عتبة رئيسة في تطور المسرح من خلال الانفتاح على آفاق الكتابة الملامسة لانحسار الحس الإنسان، وتهميش حضوره على الخشبة، فولدت العديد من التجارب الهامة على مستوى الكتابة والإخراج، التي بدورها عملت على تحرض العقل النظري من اجتراح نظرية منبثقة من حركة الزمن نفسه في عالم المركزيات المضادة للانفلات من المسلّمات الثقافية المقدسة، ويعد "مسرح مابعد الدراما" لهانس تييس ليمان انقلاب معرفي وتأسيس لعالم مسرحي جديد لا مكان فيه للقصة والحدث، إنما مسرح إنساني جامع لثقافات فرجوية خالصة تتنقل من الطقس إلى الاحتفال بأفكار ورؤى مدفوعة بعمق نحو التجريب، وكان مولر شديد الاعجاب بعوالم روبرت ويلسون الإخراجية، وقد شكلا ثنائية فاعلة ومؤثرة في المسرح العالمي في زمن الجدار وما بعده، وما يعيبه مولر على بريشت أنه جعل من المسرح دعوة أيديولوجية في زمن بات فيه المسرح محاولة أخيرة لاكتشاف الـ"أين" من دون الاستعانة بحكاية وحدث، أي مسرح جذموري، غير مندرج في لوائح النوابت المعتادة. مسرح يغتذي على ثقافة بلاغة الاشتباك الفراغي، تكون فيه الحركة معاودة للبطء بحركة فراغية تقول كل شيء في حدود اللاشيء. أما الايقاع الدرامي فيكمن في كسر أفق نظرية الملل البيكيتي، وليس العبث كما يروج طارئو الفنون المسرحية.
هامش
* بياتريس بيكون فالان: المسرح والصور المرئية، ترجمة: سهير الجمل.