13-سبتمبر-2018

مبنى في قرية كاباو، في جبل نفوسة بليبيا

إشارة قبل البداية

ابتكر الاستعمار الإيطالي في ليبيا فكرة المعتقلات الجماعية في الصحراء، وفي الفترة بين عامي 1929–1934 جرت عمليات ترحيل قسري لسكّان البوادي في إقليم برقة، ضمن سياسة ضرب حركة المقاومة وتحطيم الشعب، إذ جمعت القبائل بكامل أفرادها ضمن خيامٍ مسيّجة بالأسلاك الشائكة وسط الصحراء. في هذه الأسلاك التي تسمّى في ليبيا بـ"الشبردق" حدثت مآسٍ كبرى؛ جوع وتعذيب وإعدامات ميدانية واستعباد.

ترافق ارتفاع أرقام ضحايا المعتقلات الفاشية مع تطور في السلوك الاستعماري الذي وصل إلى ضرب سياجٍ من الأسلاك الشائكة على طول الحدود مع مصر، ما جعل ليبيا نفسها تبدو مأسورة.

تعتمد القصيدة على قصيدة شعبية للشاعر والمجاهد الليبي رجب بوحويش الذي عاش تجربة معسكر العقيلة، وألّف قصيدة بعنوان "ما بي مرض" يتوارثها الليبيون. القصيدة تعد وثيقة حية عن المعاناة المريرة داخل المعتقلات الفاشية.

شهدت ليبيا خلال تلك الفترة إنشاء 16 معتقلًا فاشيًا، تنوّعت في اختصاصاتها، غير أن معسكر العقيلة الذي كان موضوع قصيدة بوحويش هو الأشدّ والأقسى بينها كلها، لأنه تخصّص باعتقال أقارب وقبيلة المجاهد عمر المختار.


1

جاء الرعب عاصفةً، أطلقوها لتطلبَ ميراث روما القديمةَ بجنازير دباباتٍ تحرث وجهَ رمالٍ لطالما رَبَتْنَا عليها بأخفِّ الإبل كلّما بانَ فيها تخديدٌ.

جاء الرعب عاصفةً، أطلقوها ليسخروا من أسلافنا، إذ حاربوا الريح حين دعتهم إلى حلبات الجنوب، ولمّا مضوا لملاقاتها دفنتهم منذ الجولة الأولى تحت الكثبان.

جاء الرعب عاصفةً تجمعُ الأحياء والحكاية والآن، مع الموتى والحدث والأمس.

 

جاء الرعب

جاءْ.

 

2

التقطونا التقاطَ التَّمر في القرى والواحات، من الكَفْرة والجغبوب وعكرمة، ثمَّ ساقونا ممتطينَ خيولنا قطيعًا من القبائل والمواشي.

على طريق بنغازي، نحمل مرضانا في رحلة بوصلتها البنادقُ والدبابات، فيما تجتهد الكلاب والسِّياط في إبادة كلِّ هبّة كبرياءٍ قد تؤخّر المسيرة.

نلقي بالموتى فرحينَ ونكمل متخفّفين من بعض العار.

 

أهذا هو الحشرُ؟

هل ملائكة الله صارت جنودًا؟

هل المعجزاتُ آلاتٌ تقذف نارًا؟

هل وعود السماوات بالعدالة انتهت جريمةً على الأرض؟

أم أننا أصحاب مشأمةٍ يميل صراطُهم؟

كيف يستوي الحشرُ دون مجيء الآخرة؟

 

رُمينا إلى حصنٍ مهجورٍ، فاستلقينا نصفَ موتى فوق رطوبة بول بغالٍ قديم. هواءُ السجن المؤقّتِ جامدٌ، لو معنا سكاكين قطّعناه. قالت عجوزٌ: إذا كانت الرائحةُ أثرًا من بغال الرّومان فالأولى أن يضمّوها إلى الميراث قبلنا.

مات الزمانُ الذي يُعدُّ بالساعات، بتوالي اللّيل والنّهار، بتناوب الفصول، وصرنا نحصي الوقتَ بالإجهاز على طحالبَ بين الحجارة، أو لعق بقع الماء في الزوايا.

ذابت أسنمةُ الجِمال واستوت ظهورها. الخرافُ السُّود شابتْ ثم شَفَّتْ حتى كدنا نراها ولا نراها. الأحصنة شُلّت من الوقوف اللانهائيّ. الأبقار الحبلى وضعتْ حجارةً ضيّقتْ المكان أكثر.

فتحوا الأبواب وصفّونا في طوابير حسب درجات الجريمة:

طابور أقارب الثّوار

طابور المضيفين

طابور المشتبَه بحبّهم

طابور البهائم.

 

حملوا الحيواناتِ في سفينةٍ فبكت العيون من الجهتين رغم جفافها، وحين انطلقتْ كان هدير المحرّك صهيلًا ورغاءً وخوارًا وثغاء.

وُزِعت الطوابير على مراكبَ متهالكةٍ، مضى كلٌّ في اتجاه، وفي مركبي، مركب الأقارب، أخذ الجوعى يتقيّؤون حتى خِلتُهم موشكين على طرح الماضي مع أحشائهم. رَمَيْنا الموتى الجددَ إلى الأمواج.

قالت العجوز: "لو رمينا مع كلّ جثةٍ على الطريق جثةَ جملٍ، ولو رمينا مع كل جثةٍ في البحر جثة مركبٍ، فلا إيمان عندي بعد اليوم لسلامة العبور!".

ثمّ غنّت لنا:

"يخبُّ حصانهُ في البال

خطواتُه ماءٌ.

 

ساكنٌ فينا كالأنفاس

لئلا نفقد الأنفاس.

 

لأنّه منا

كلما حدقّتم فيه

ترون وجوهكم.

 

يقوى بنا

نقوى به

ولأجل هذا أعلنوها حربًا على صورتين؛

صورتنا في البطل

صورةُ البطل فينا".

 

عدنا إلى المشي عندما تحوّلت الأمواج إلى رمال، وقبالةَ قفص عظيم مجدولٍ الأسلاك لا تبدو لها نهاية، قالوا: هذه واحةُ العصاة.

 

3

لست مريضًا لتطببوني، ليس للهوان دواء. دعوني أهذِ وقولوا لهم: خَرِفٌ أو مصابٌ بضربة شمس.

لستُ مريضًا لكنّ ثيابي التي لم تتبدّل منذ سنوات توجعني، وحصتي من شعيرٍ أدمى حلقيَ توجعني، والحشراتُ والفئرانُ التي أكلتُها توجعني، وأنفي المكسورُ منذ سنواتٍ؛ رعافُهُ الذي لا يُرى يوجعني.

يوجعني أنّني مهما قلتُ أقولُ مرثيات.

أنا الرجل الذي رأى المذلّة حتى غدا مذلةً، فاتركوني أروِ هواني: 30 قبيلةً تَعُدُّ 80 ألفَ روحٍ، تُنادى كل دقيقةٍ بالصافرات فنصطف لكي نشهد عائلةً تصطفُ كي تشهد جلدَ أولادها، أو تبكي على تعليق بناتها عارياتٍ. يرسلوننا لحمل الحجارة، وفي آخر اليوم يستهزئون بلهاثنا فيشيرون للترجمان أن يقول لنا أن نعيد جبلًا كاملًا، حجرًا حجرًا، إلى موضعه. يأمرون النسوة بغزل الخيام وجدْل الحبال. شنقوا بنتًا بحبلٍ لم ترقهم جودته لترى الأخرياتُ أنّ المهارة تخفّف ألم المشنوق، وضحك الملازم من حكمته. أوكلوا للمسنين مهمة الدفن، دون أن يبالوا بنقصانهم بعد كل جنازةٍ.

أنا الرجل الذي رأى المذلّة كلابًا مسعورةً تُطلق لتنهشّ ما يحلو لها، لكي يتسلّى السجانون. ورأى قضاةً ترمي بهم الطائرات ليقضوا بأحكامٍ لا يفهمها إلا نجّارون يوسّعون منصات الإعدام. ورأى النعاة يبشّرون بموت سِيدِي عمر ويطلبون منا الاحتفال.

 

4

كانتِ الحرب للسّيف، والسّيف للحرب، وأرواحُ الأحرار معادنُ تلمعُ قبلَ لمعان النّصال.

كان الحصان أخ السيف، يُقدمان معًا، ومعًا يصنعان الحقيقة، وإن قضوا اكتفينا بالعيش في كنف المأثرة، فلا يكون منا بواكي، ولا يكون فينا يتامى.

لكن الآن، والطائرات تحيل الحصانَ شواءً، والسيوفَ ألعابَ فتيةٍ، خذوا النصر كاملًا وابنوا ما تريدونه من أقفاص، أعيدوا تعريفَ الخير والشرّ، اجعلوا المساجدَ خماراتٍ، أرسلوا الأطفال إلى الفاتيكان وأمهاتهم إلى المواخير، اجلدوا من يبكي أبًا أعدمته العدالةُ الرومانيةُ، اقذفوا السجناءَ مع سلاسلهم إلى البحر؛ لكنكم لن تسلبونا المذلة، سوف تهزموننا في كل شيءٍ ولكنكم لن تجعلونا رومًا، ولن تهزموا فينا الهزيمة.

سيكون في لساننا لسانان يروي الأوّل أجدادًا أرادهم رواتُكم حمقى يحاربون الرَّيح، ويروي الثاني أحفادًا يواصلون دفنهم، مهزومينَ مهزومينَ، لأنهم لا يصدّقون تاريخًا لا ترويه ألسنةُ السجون وشفاهُ المشانق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليكن النهرُ بريدنا

بريد الغرباء