11-يناير-2022

كاريكاتير لـ بيت كرينر/ أستراليا

في ما يظهر على أنه نهاية النهايات، تخط الدياسبورا اللبنانية مسيرها إلى تأبيد الشتات كمرحلة حاسمة، تَظهر فيها هويتنا اللبنانية بوضوحٍ كمرآة مهشمة تمامًا، لا نستطيع التعرف فيها إلى أنفسنا.

من نحن؟ سؤال لطالما سأله "المغتربون" والإجابة عليه كانت تنطلق دائمًا من الخارج إلى الداخل بوصفها سمة من سمات الهوية اللبنانية. فلبنانية من يعيش في الخارج كانت خاصية من خصائص شبكة هويتنا وإحدى روافد أساطيرها المؤسسة، تساهم في تغذية مجموع الهوية اللبنانية باتصال محموم أوديبي بوجودية لبنان كمكان هش يجاهد في التشكل عبر التاريخ.

تخط الدياسبورا اللبنانية مسيرها إلى تأبيد الشتات كمرحلة حاسمة، تَظهر فيها هويتنا اللبنانية بوضوحٍ كمرآة مهشمة تمامًا، لا نستطيع التعرف فيها إلى أنفسنا

كان هناك تصور يشحذ أملنا يفيد بأن لبناننا هذا في تمخض دائم، وأنه علينا أن نبقي الأمل يتدفق ريثما ينجح هذا المكان في التصلب الكافي ليوازي ثقل مجموع أساطيره فيترسخ كوحدة ناجزة. وكنا نُبرِّد توتر اهتزازات هذا السؤال تارة بالنوستالجيا، وطورًا بتهاليل العودة كلما لاح بريق أمل أو خدعنا الانهيار بتأخره رويدًا عند كل ملمة.  فالنوستالجيا هي أداة اتصالنا بالداخل وحائط خلفي ملون، تتعلق صور هويتنا تلك عليه، وكنا على هذا الحائط المزركش نستعيد دفء المكان ونتأمل، بحب كثير، أن تتحقق هذه الإمكانية، عوض القبول الفج بنهائية العيش بالعزلات دون باب خلفي يأخذنا إلى الوطن الأم.

اقرأ/ي أيضًا: كل المحال مغلقة في شارع الحمرا

غير أن السؤال الآن عن هوية الخارج هذا بات ملحًا أكثر من أي وقت مضى، ملحٌ لأنه يخرج كوجع مكسور يبدو ترميمه صعبًا، مع ذوبان الداخل كمكان وفكرة. حيث إن المرآة المكسورة تلك باتت معلقة من طرف واحد في فقد الاتصال وفي انتفاء التصور. سطوة السؤال، المتجدد بحدة الآن، تستمد قوتها من تهشم صورة العودة إلى المكان إثر تناثر صور موت المكان نفسه أمام أعيننا، وبالتالي، من استحالة إعادة تشكله على ما كنا نعرفه ونحبه متخبطًا في كل مآسيه وفتنته. وفي هذا المشهد يجثم جسر العبور محطمًا أمام أعيننا. فها نحن على الضفة الأخرى نرانا نقف على شاطئ المحيط وليس على ضفة نهر لها مقابل.

أوصلتنا تركيبتنا إلى هنا. غضبنا كثير، وحقدنا، على العصابة الحاكمة وتفاهة حاشيتها ومناصريها، لا يقاس. ومما لا شك فيه أن موت هذه الزمرة وانحلال عقدها هو ما نتمناه، وهو ما سوف يحصل عاجلًا أم آجلاً، وعندها سيكون الاحتفال بجلائهم جميعا كأسًا عذبًا يشفي حرقتنا. ولكننا، بالتوازي مع انتظار تفتتهم، مداهمون الآن أكثر من أي وقت مضى، برغبة العبور من عزلاتنا في الشتات إلى هويتنا اللبنانية، وهي رغبة دونها السفر عبر الزمن بلا خرائط. نعود إلى المنبت، إلى أصل الصورة، ونحسب أننا قد نلتقطها مجددًا. وفي هذا شحن مكثف لآليات التذكر والتنقيب عن ذواتنا العالقة في الأصل الذاوي، نتلَمَّس ما تبقى من حرارة الرحم دون أدنى توقع لولادة جديدة، فيخرج السؤال محموما كصرخة إدوارد مونخ.

وأحسب أن خلاصنا، نحن من نقيم في الخارج، قد ترطبه الإجابة على هذا السؤال. وهو مسار طويل يبدأ بالبحث عن صور أخرى لنا غير تلك المؤسسة لفكرتنا عن هويتنا موضع السؤال. فمن سنكون، هو على ما يبدو سؤال لا يمكنه أن يبدأ من البدايات، بالنسبة لنا نحن المقيمون في الشتات. سؤال كوزمولوجي يطرحه رواد الفضاء عندما يفقدون الاتصال بالأرض، مبتدئين من لحظة الانقطاع. يبدو أنه علينا البدء من النهاية، من لحظة الانتهاء وانتفاء المكان، علينا أن ننظر بتحديق بانورامي إلى الأمام، من نهاية ليس فيها يسر الاستدارة إلى الخلف، ولكن فيها الكثير من التذكر والحب.

تصبح النوستالجيا التي لطالما استخدمناها كماكينة تنفس، كمخدر حنون لإطالة النشوة التي غطت الكِسر، عاجزة عن إخفاء الألم

وبهذا تصبح النوستالجيا التي لطالما استخدمناها كماكينة تنفس، كمخدر حنون لإطالة النشوة التي غطت الكِسر، عاجزة عن إخفاء الألم. أحسب أنه علينا ان نبادر إلى سؤال أنفسنا: ما الذي خسرناه خارج جدران النوستالجيا؟ فالاستمرار في انتظار موت العصابة والتفكير في سبل إحياء هذا البلد من الخارج وترقب إمكانيات تلاقي شبكات المصالح الدولية، التي ساهمت في تشكيل تاريخنا الحديث، هو إيمان بالتاريخ كناقل احتمالات، من شأنه أن يتركنا أسرى التحسر والانتظار الذي يكوي مرارتنا في تعلق لا متواز وترنح دائري يعيدنا إلى النوستالجيا كأداة بناء.

اقرأ/ي أيضًا: لبنان الذي يكاد يغيب عن مداركنا

نعي بيروت من الخارج مثلًا موقف برزخي لطالما نفعله وسنواظب عليه في هجراتنا، وفيه الكثير من الدفاع والرفض النوستالجي. هو تقليد احترفته أجيال المهاجرين، المشردين والمنفيين اللبنانيين. فيه الكثير من التعاطف والتكاتف مع ما تركناه على الأرصفة وفي الشوارع، مع أنصاف حيواتنا التي صنعت المدينة وأوقاتها. وفيه أيضًا تعاطف مع الأحبة الذين بقوا هناك. وفيه احتفالية مجروحة بهزائم لا تعد ولا تحصى. لكنه دفاع بائس وتعنت عاطفي لا يدفع اللحظة لنهايتها كما يقول أليوت. كما أنه مثابرة لا تدع مجالًا لزمن الصورة أن ينتج صورًا أخرى، سؤال يلتفت إلى الخلف رافضًا الوداع، يريد إطالة وتكثيف لحظة التقاطها وإبقائها راهنة في رهان عاطفي رافض للمغادرة، ومعيق، في مكان ما، لصناعة صورمن الخارج – بما يمثل هذا من مكابدة أن تصنع صورًا تمثل المكان بعد اختفائه. بيروت لم تعد تنتج الصور لنا، والصور التي أنتجتها أصبحت صورة واحدة موغلة في عدم القدرة على الإحالة والتأويل الجديد. بيروت بحاجة أن ننهيها كصورة مستمرة، ثم نباشر بصناعتها من الشتات بحب. وهو سؤال صعب ومؤرق، إذ إن ما يطرحه علينا هو إقامة جردة مفصلة لما خسرناه: ماذا كنا وماذا مثلنا؟ ما الذي أعطانا السمات التي جعلت منا قوما معروفين تواجدنا في ذاكرة العالم، ونحن اليوم في طورنا لنخرج من هذا المدار.

نحن بحاجة أن ننتج صورًا جديدة خارج النوستالجيا ليتسنى لنا أن نبقى لبنانيين

هذا السؤال بدأ يتسلل إلينا كلما سألنا أحدهم في البلاد التي هاجرنا إليها واستحصلنا على هوياتها: من أين أنت؟ سؤال تواجهه جماعات تتشارك معنا بفرادة تشتتها واندثار فكرة المكان. جماعات كالشركس والتتار وربما يمكننا أن نضيف إليها الجنوب أفريقيين البيض الذين هجروا جنوب أفريقيا نهائيًا للعيش في الدول الأنغلوفونية.

اقرأ/ي أيضًا: لبنان: رثاء النفس

لم يعد سرد صور معالمنا وأنصابنا، وأعلامنا المؤثرة وموسيقانا ومطبخنا وتصميم الأزياء، وريادتنا في الأدب والصحافة، وتاريخنا المأساوي كافيًا للإجابة عن هذا السؤال. لم يعد بمستطاعنا الاكتفاء بهذا لنقدم أنفسنا للعالم. نحن بحاجة أن ننتج صورًا جديدة خارج النوستالجيا ليتسنى لنا أن نبقى لبنانيين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ساحات لبنان.. أين الهوية؟!

مجرد تعب