17-يونيو-2022
صورة جوية لمخيم جنين بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 2002 (Getty)

صورة جوية لمخيم جنين بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 2002 (Getty)

بعينيّ هاتين رأيتُ العصر الجديد بقامته الإسمنتيّة، وجسده المدجّج بالأزرار والبقع الإلكترونية، وعينيه ذواتي الإشعاع المافوق – إنساني. هكذا رأيته يتجول بين أنقاض مخيّم جنين، يقفزُ بين الجثث بلياقة وخفّة ضفدعٍ خائف يحتمي ببركة الدّم المحيطة به، أو يضع كماداتٍ مضادّة لكلّ أشكال الجراثيم والروائح المنبعثة من غضب المادّة المحتدم داخل مسام الجثث، الذي يرفض أن يزول أو يختفي تحت كلّ أشكال أوشحة أو بطانيّات أو سراويل التمويه الممكنة.

أعرف ذلك العصر ولست بحاجة الى أن أرى المزيد من استطاعته لأدرك كُنه غرائزه البشرية التي لا تقبلها أية شريعة حيوانيّة

يستوقفه طفلٌ بين الأنقاض خرج بهيكله العظميّ الصّغير ليصافحه بتكشيرة أسنان جمجمةٍ لا تزال هشّة الملامح، فولاذيّة الصّرخة. يلاحقه ذهول امرأةٍ رفعت يدها لتخلطَ اللّازورد السّماوي بالصّلصال البشريّ النائم في كلّ جسد. كانت شاشات عينيه المرتبطتين بالشّبكة الأرضيّة للمعلومات والصّور تتدافع عبرهما لقطاتٌ ومشاهدات مثل حشود تظاهرة تتفجّر جرحى وقتلى، أو أنّ جبلًا بركانيًا تتدفّق حممه للتوّ على أطراف المشهد التكنولوجي الأكثر دقةً وأداءً.

آنذاك كانت عيناه الراداريتان تهتزّان مثل مُؤشر شاشةٍ لقياس الزلازل أمام مرأى جسد آيات، الذي لم يتجاوز الستّة عشر دورة شمسيّة، وهو يتشظّى غبارًا ضوئيًا واصلًا دورته الدموية بدورةٍ كوكبية لنجمةٍ جديدة ستظل أجفان التليسكوبات العالميّة، بأحدث أنواعها، ساهرة لسنوات طويلة وهي تبحث عن مدارها في المجرّات.

هذا العصر، بهيكله من اللّاإكتراث العظمي، المغطّى بالشّحم البتروليّ الأسود الّذي يمارس كلّ لحظة عمليات التّجميل اللازمة ليظهر إلى مناصريه وتابعيه بقيافةٍ جديدة، لم يجد في قيامة مخيم جنين ما يبرر الوقوف، ولو قليلًا، لمشاهدة آلاف الجثث التي انتظرت أيامًا موافقة الأنقاض وتصريح الضابط الاسرائيلي لتعبر إلى الضفة الأخرى.

كان يحث الخطى باتجاه جنود الاحتلال الاسرائيليين وهم يلوّحون بأياديهم التي تتبادل المواقع بعفوية ورشاقة مع أذرع الرشاشات وأعناق الدبابات، لاستقباله بحفاوة ملوّنة بالدّم الفلسطينيّ الشّريف. وفي العواصم الأقرب إلى روحه والأكثر حبًا واعتناقًا له، كانت الملايين من النّاس التي باركت مأثرته الكبرى في طرد المأساة من مشاهد حياتهم اليومية وتحويلها إلى فيلم كارتوني حي بالصورة والحجم البشري قد أكملت إنجازها هذا، وصارت تلتهم وجباتها وتمارس صخب لياليها بشهيّةٍ أكثر وحماسة أكبر وهي تشاهد مآسي البشرية تتوافد على شاشاتها بكل الأحجام والألوان، حيث تزدحم بالضحية الفلسطينية كآخر نموذج للموت اليومي المعلن والمخرج بأداء شارونيّ خبيث متفرّد شكلًا ومضمونًا.

إنّ قامته العالية والزّجاجيّة لا تقبل الانحناء حتى لوضع باقات ورد اصطناعي على شواهد قبور عشاقه وأبطاله. فالمقابر قد تركت دورها إلى متاحف الزجاج الرمادي، حيث أجرى معه الموت هدنة دائمة يتنازل فيها عن حقه في الحوار مع الأحياء ومواكبة فصول حياتهم، مكتفيًا ببعض الرموز والمعلومات التي تقدّمها المتاحف كصورة حيّة لموت مات للمرة الثانية.

ذلك العصر، بقامته الجليلة وبهيئته الّتي لا جنس لجنسها ولا معنى لمعناها أعرفه، أعرفه جيدًا.. وأنّ مشهد القيامة الأخير هذا الّذي اختار شعبنا الفلسطيني مسرحًا له، قد عوّدنا على نماذج منه في العراق وأفغانستان وسواها.

قتل الآخر لا يعني قطّ إفناءه، بل هو الطريق الأقصر لانبعاثه وخلقه من جديد

ذلك العصر أعرفه ولست بحاجة الى أن أرى المزيد من استطاعته لأدرك كُنه غرائزه البشرية التي لا تقبلها أية شريعة حيوانيّة، لكنه لا يعرفني أنا... إنّه يقتلني كلّ يوم، أجل لكنه لا يعرفني. إنّه يتوهم القدرة العليا على الابادة. إنّها القدرة المثلى للفهم، هكذا يفهم وهكذا يريد أن يواصل حضارته ويعمّق معارفه.

غدًا، عندما يرى ويسمع عودة أشباحي وانبعاث صحرائي، ومن ورائها شعوب وتضاريس عادت من موتها في هذا الربع الخالي من ذاكرة الكوكب الإنساني، سيدرك حتمًا أنّ قتل الآخر لا يعني قطّ إفناءه، بل هو الطريق الأقصر لانبعاثه وخلقه من جديد.