22-مارس-2022
كتاب "الثقة المفرطة والحرب" (ألترا صوت)

كتاب "الثقة المفرطة والحرب" (ألترا صوت)

لا يبدو مصير الحرب الروسية – الأوكرانية، بعد 27 يومًا على اندلاعها، واضحًا أو متوقعًا. التحليلات التي تحاول استشراف مصيرها ومآلاتها، على اختلافها واختلاف مواقفها من الحرب ذاتها، لا تقدّم أكثر من احتمالاتٍ تُضاف إلى أخرى تراكمت على مدار الأسابيع القليلة التي مضت من عمر الحرب. وجميعها يتفق، نسبيًا، على أن نتائجها جاءت عكس توقعات الروس الذين راهنو، كما هو متداول، على تحقيق مكاسب كبيرة خلال وقتٍ قصير.

تميل الدول في أوقات الحروب إلى المبالغة في تقدير نفسها، أو حلفائها، أو نتائج الحرب وسرعتها، وإلى الاستهانة بقدرات خصومها

تتفق التفسيرات الرائجة حول تأخر الحملة الروسية في تحقيق أهدافها، على أن الروس دخلوا الحرب مدفوعين بتصوراتٍ خاطئة ومغلوطة حول قدرات الجيش الأوكراني وإمكانياته، بالإضافة إلى التقليل من شأن ردة الفعل الدولية، والأوروبية تحديدًا، تجاه غزوهم. ما يعني أن الأمر يرتبط، على نحوٍ وثيق، بسوء تقدير القيادة الروسية التي بدت واثقة من قدرتها على حسم الحرب التي يُقال إنها تُعدُّ لها منذ نحو ثماني سنوات.

تطرح هذه التفسيرات، بغض النظر عن صحتها، سؤالًا مثل: هل تبدو الثقة في القدرة على حسم الحرب سببًا لوقوعها؟ هذا بالضبط ما يسعى الباحث البريطاني دومينيك جونسون إلى الإجابة عليه في كتابه "الثقة المفرطة والحرب: الخراب والمجد الناتجان عن الأوهام الإيجابية" (دار تشكيل، 2020/ ترجمة آية علي)، الذي يجادل فيه بأن الأفراط في الثقة ظاهرة لا يمكن غض الطرف عنها في محاولاتنا لفهم النزاعات العسكرية.

YT Banner

ليست الثقة المفرطة في القدرة على كسب الحرب هي السبب الوحيد لوقوعها، لكنها ما يدفع قادة الدول المتنازعة إلى خوضها تحت تأثير تقديراتٍ خاطئة لإمكانياتهم وإمكانيات خصمهم. وهي تقديراتٌ مبنية على أوهامٍ إيجابية توفرها عوامل معينة تأتي، غالبًا، على شكل صور وتصورات يدبّرها القادة أنفسهم، وتساهم في مضاعفة تأثير الأوهام الإيجابية وما ينتج عنها من تفاؤل وثقة مفرطة تحجب قدرات الخصم، أو تستخف بها.

لا تقتصر الأوهام الإيجابية على طرفٍ دون آخر. فالافتراض هنا هو أن الحرب لا تقع، في نهاية المطاف، إلا نتيجة اعتقاد طرفيها بأنهما قادران على حسمها لصالحهما. وهذا الاعتقاد مردّه تقديرات خاطئة، مغلوطة، متفائلة، وغير عقلانية. حيث يجادل دومينيك جونسون بأن الدول، في هذه الحالات، تميل إلى: "المبالغة في تقدير نفسها، أو حلفائها، أو نتائج الحرب وسرعتها، وإلى الاستهانة بقدرات خصومها، أو حلفائها، أو نواياهم، أو تكاليف الحرب ومدتها".

يلاحظ الباحث البريطاني، إلى جانب عددٍ من المؤرخين والعلماء الذين يستشهد بمقولاتهم لإثبات وجهة نظره، أن هذه التقديرات الخاطئة والقائمة على المبالغة سبقت وقوع الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحروب الهندية – الباكستانية، والحرب الفيتنامية، والغزو السوفييتي لأفغانستان، والحرب العراقية – الإيرانية. وهي حروب وقعت، إلى جانب جميع أسبابها، نتيجة تصورات أطرافها الخاطئة حول مآلاها، واعتقادهم بأنها ستكون سهلة، أو بوجود ميّزة في أن يكون أحدهم الطرف الذي يبادر إلى اشعالها.

بالاستناد إلى نتائج هذه الحروب، وحروب أخرى يعود بعضها إلى القرن السادس عشر، يرى دومينيك جونسون أن احتمالية وقوع حربٍ ما تتضاءل حينما يكون أحد طرفي النزاع غير واثقٍ من قدرته على هزيمة خصمه. في هذه الحالة، أمام تراجع مستوى تفاؤل أحد الطرفين، تُصبح زيادة فرص السلام بينهما أمرًا محتملًا. لكن التراجع يؤدي، في الوقت ذاته، إلى زيادة ثقة الطرف الآخر ودفعه إلى اشعال الحرب.

تقع الحرب نتيجة اعتقاد طرفيها بأنهما قادران على حسمها لصالحهما، وهذا الاعتقاد مردّه تقديرات خاطئة، متفائلة، ومبالغ بها

اللافت في هذا السياق هو نتائج هذه الحروب، حيث تشير البيانات التي جمعها عددٌ من الباحثين لمعظم الحروب التي شهدها العالم، منذ القرن السادس عشر وحتى القرن الحادي والعشرين، إلى أن الأطراف التي بادرت إلى الهجوم خسرت من ربع إلى نصف الحروب التي بدأتها. بينما تكبدت، في تلك التي ربحتها، تكاليف وخسائر غير متوقعة.

تدل الحروب السابقة على أن تأثير الأوهام الإيجابية، وما يترتب عليها من افراطٍ في التفاؤل والثقة، يقتصر على مرحلة ما قبل وقوع الحرب، ويتراجع مع بدايتها بفعل نتائجها غير المتوقعة. فالمزايا التي توفرها الأوهام الإيجابية لأحد طرفي النزاع، أو لكليهما، لا تتجاوز تحسين الأداء الذي يعتمد على المبالغة في تقييم الذات، التي من شأنها خداع الخصم وتضليله. إنها، بهذا المعنى، تبدو أقرب إلى "تكنيك" يُمارس إما لترهيب الخصم وردعه، أو تحسين الموقف التفاوضي. لكن هذا "التكنيك"، في حال ممارسته من الطرفين معًا، سيتحول إلى حافزٍ لبدء الحرب. حينها، تفقد هذه المزايا قيمتها وتأثيرها حتى وإن حافظ الطرفان، أو أحدهما، على تفاؤله.

لا يعني ما سبق أن الأوهام الإيجابية لا تؤثر على مسارات الحرب، أو تساهم في بلورة نتائجها النهائية في بعض الحالات. لكن فكرة أنها أوهام مشتركة بين الطرفين المتحاربين، تعني أنها ساهمت في انتصار أحدهما، وتسببت في الوقت ذاته بهزيمة الآخر الذي دخل الحرب مدفوعًا بما دفع خصمه إلى دخولها. هكذا، يصير من الصعب الوقوف على دور وتأثير الأوهام الإيجابية على مجريات الحرب ونتائجها.

ما يبقى واضحًا في النهاية هو الدور الذي تؤديه هذه الأوهام في دفع دولةٍ ما إلى بدء الحرب، خاصةً الدول التي تبدو الأوهام الإيجابية متأصلة في بنيتها ومؤسساتها ونفسيتها أيضًا. وكذا الدول غير الديمقراطية التي تكون عمليات صنع القرار فيها سرية. حيث يجادل دومينيك جونسون بأن احتمالية أن تتسبب الأوهام الإيجابية في وقوع حربٍ ما في الدول الديمقراطية التي تتمتع بوجود مناقشات علنية تعدُّ أقل، بينما تعدُّ أكبر في الدول غير الديمقراطية التي تطبق مناقشات سرية.

ليست الثقة المفرطة في القدرة على كسب الحرب هي السبب الوحيد لوقوعها، لكنها ما يدفع قادة الدول المتنازعة إلى خوضها

يرى جونسون في هذا السياق أن الأوهام الإيجابية ليست نتائج عوامل نفسية داخلية بالضرورة، بل نتيجة ظروف خارجية محددة، منها نوع النظام الحاكم وطبيعة النقاشات التي تجري في ظله. ذلك أن احتمالية الطعن في الثقة المفرطة لدى زعماء الدول غير الديمقراطية تبدو أقل مما هو عليه في الدول الديمقراطية، التي يمكن فيها مواجهة الثقة المفرطة للزعماء بسهولة أكبر، وبالتالي القدرة على وقف الحرب.

ينطبق هذا أيضًا على النقاشات العلنية التي تتيح فرصة تبديد الثقة المفرطة من خلال توفير نقاشٍ علني وشامل، يأخذ مختلف الاتجاهات والآراء ووجهات النظر بعين الاعتبار، على العكس تمامًا من النقاشات المغلقة والسرية التي تكون محدودة وصورية، بحيث لا تتجاوز مهمتها أكثر من استعراض القرارات التي اتُخذت بناءً على الأوهام الإيجابية ذاتها.