15-مايو-2022
الشاعر عبود الجابري

الشاعر عبود الجابري

بقدرٍ ما يمكنُ اعتبار عبود الجابري شاعرًا شابًا لو عدنا إلى تواصله الشعري مع العالم، ولسعيه ونشاطه الدائم في النحتِ والتّنقيب. قصيدة الجابري ليست قصيدة ذات مزاج مألوف فهو يبتكر كلّ مرة يكتب فيها دروبًا جديدة للتأمل، أشبه بالعارف الذي يصنع نوافذه بنفسه. يقدّم الجابري سواء في ما يكتبه أو ما يترجمه، بجهدٍ مدروس وعفويّ، محاولةً لتجاوز الرتابة السائدة. ولعله بذلك يبدو واحدًا من الشّعراء الأكثر حساسية وإخلاصًا للشّعر.

حول آخر أعماله والشّعرية العراقيّة ومآلاتها وأحوالها، وقصيدة الأداء وشؤون أخرى، كان هذا الحوار.


  • لو تحدّثنا عن الشّعرية العراقية لوجدنا أنّها تمتلك حيّزًا خاصًا في خريطة القصيدة العربية. كيف تبصر اليوم هذه الشّعريّة وكيف تعود إليها؟

الحيز الذي تحتله الشّعرية العراقية في المشهد الشعري العربي ليس طارئًا، ولا يمكن اعتباره مكافأةً ممن يقرأون الشعر، الشعر العراقي حاضر دائمًا منذ الحفريات الأولى في الطين، ومنذ أول رقيم أضاءته فؤوس من نقبوا في الأرض العراقية، فكانت جلجامش الملحمة وسواها من اللقى الجمالية التي ماتزال ملامحها مضيئة، وحسب معرفتي، فإن المرحلة الأبرز التي مرّ بها الشعر العراقي بمظاهر انحطاط ونكوص كانت في القرن التاسع عشر الميلادي، التي يمكن لنا أن نضيف لها بشكل أو بآخر ما تمّ تكريسه من أسماء خلال فترة حكم النظام السابق، حيث انحصرت أغراض الشّعر في كلا الفترتين بتمجيد الحاكم، والكتابة بتكليف أو أمر، على أن الشّعر الحقيقي في الفترتين المذكورتين كان يقع على كاهل العديد من الشعراء الذين ظلوا محافظين على ماء وجوههم وعلى قداسة الشعر الذي يكتبونه، وذلك الأمر أدى إلى أن تكون كتاباتهم أشبه بالمنشورات السرية.

عبود الجابري: الشعر العراقي حاضر دائمًا منذ الحفريات الأولى في الطين، ومنذ أول رقيم أضاءته فؤوس من نقبوا في الأرض العراقية

شخصيًا أعود إلى كل ماهو عراقي في الشعر، منذ أول حرف في الكتابة وصولًا الى كتابات جيل ما بعد 2003، فالهم العراقي يحمل نوعًا نادرًا من الفنتازيا واللامعقول، وهذا الأمر يولد مواضيع ومفردات يندر العثور عليها في الجهات الأخرى من الشعرية العربية.

  • لا يمكن فصل تفاصيل الشّعرية العراقية عن علائق السياسة. من هنا تبدّلت همومها ومشاغلها. ما هي مشاغل هذه القصيدة برأيك؟ وإلى أين تتجه مفاصلها اليوم؟

الشاعر الحقيقي إنسان كوني بطبيعته، لذلك تجده مهمومًا بما يحدث في العالم، وقد قادت الثورة الرقمية إلى اختصار صورة العالم، الأمر الذي أدى إلى أن تجد نفسك كل لحظة في بقعة من العالم دون أن تسافر، وقد اختصر العراق الوطن كل كوارث الكرة الأرضية في صورة خارطته المرسومة بعيدًا عن جماليات الروح لدى الفرد العراقي، منذ تاريخ ماقبل الميلاد تناوبت عليه الحروب، الفيضانات، الكوارث البيئية، المجاعات، ناهيك عن الطغاة، فما أن تفرح بزوال طاغية حتى تجد نفسك بين أنياب طاغية أكثر ضراوة، ولا أظن أن هناك رسالة للشعر أكثر سموًا من محاربة ذلك بالكلمة، رغم اليقين الأزلي بعدم قدرة الشعر في وقتنا الحالي على تغيير الواقع، لكني أؤمن بما يقوله مالكوم أكس "على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد".

وفي رأيي أنّ هذه السيرة الدامية للبلاد قادت كل شيء إلى منحى آخر في توثيق التفاصيل اليومية، وإغراقها بالحزن العراقي المتواصل، سواء على صعيد الأغنية والأدب الشفاهي، أم على صعيد الكتابة الشعرية، وقد قال أمين الريحاني عقب زيارته إلى العراق في كتابه "ملوك العرب": "لولا الشعراء في العراق لسئمت السياسيين، ولولا السياسيون لفررت هاربًا من الشعراء"، وهذا الأمر يدل على حركية ما، تدلّ على أن الشاعر العراقي ابن بيئته، يعي بشكل كامل مايدور حوله من احباطات سياسية، فيكتب عنها رغم المخاطر التي قد يفضي إليها انتقاد السلطة، وقد يكون الموت أسهلها. لكن ذلك لاينفي أن الشعر العراقي حديقة عامرة بجميع أنواع الثمار، فقد تناول الشعراء العراقيون جميع الأغراض في نصوصهم، حتى تلك التي لم تكن تخطر على بال أحد، فقد كتب الرصافي عن كرة القدم، والجواهري عن الملاكمة، ولايزال الجيل الجدي يغذي هذه الأغراض بما يراه من صور مغايرة لأغراض تستجد بمرور الزمن، لكنّي أعترف أن القصيدة العراقية تعاني نوعًا من القمع العاطفي، مقارنة بالقصيدة في بلدان عربية أخرى تبدو فيها حاصلة على تدريب عال في الرقة ونعومة الحرف، وتبقى القصيدة أم الحكمة أو مضيفها الأوسع مستعينًا بقول أحمد شوقي: "لا يزال الشعر عاطلًا حتى تزينه الحكمة، ولا تزال الحكمة عاطلة حتى يؤويها بيت من الشعر".

  • ما هي أبرز المقوّمات والمفاتيح السّريّة التي تهبها لقارئك؟ وإلامَ تحيل هذا التنوّع؟ ما مصادره؟

لا تستغرب اذا ما أخبرتك أني لا أعرف كنه ما أريد، ولا الغرض الذي أروم توصيله إلى القارئ، فعندما أفعل ذلك سأكون خطاط لافتات، ومروج شعارات، والكتابة الشعرية بالمفهوم الكلاسيكي تتبع سهمين يرسمان طريقها وهما التجريب والتنوع الثقافي، غير أن هذا المفهوم آخذ بالتلاشي، فهناك الكثير من الشعراء ممن لا تشبه نصوصهم ثقافاتهم، جودة أو رداءة، لكني أقر بأن قراءتي للأدب العالمي قد وهبتني عينا ثالثة، هي تلك العين التي أحاول أن أخلق ألفة ما، بينها وبين عيني اللتين أرى بهما العالم، يبدأ الشعر عندي من صوت المفتاح في باب بيتي داخلًا أم خارجًا، ولا ينتهي حتى عند محاولاتي الفاشلة في النوم خشية أن تضيع علي جملة شعرية قد يكون العثور عليها عسيرًا فيما لو نمت، كما أني أعالج عسر الحياة بالشعر، أحاول أن أقلد ذلك المنكسر الذي يقف أمام المرآة ويهتف بصورته قائلًا: أنا قوي، أنا قوي، لكنه في حقيقة الأمر يفعل ذلك كي لا يعلن عن بكائه أمام الملأ.

عبود الجابري: تعاني القصيدة العراقية نوعًا من القمع العاطفي، مقارنة بالقصيدة في بلدان عربية أخرى تبدو فيها حاصلة على تدريب عال في الرقة والنعومة

وعلي أن أعترف كذلك بالفضل لكل ما يؤسس قاموسي النفسي والذهني من حزن وفرح تبثه الأغاني واللوحات والأفلام والموسيقى والعروض المسرحية، أقر بالفضل لكل إنسان صادفته في حياتي، العابرين وغير العابرين، أولئك الذين قرأت في وجوههم ما يمكن أن يكون قصيدة لايمكن التقاطها إلا بالتماهي أو مقارنة ما يحدث لهم مع ما يحدث لي في الماضي وفي الحاضر الراهن.

  • إذا أردنا العودة إلى الشّعريّة العربيّة بأصواتها وتجلّياتها المختلفة. نشهد زخمًا عربيًا حاضرًا اليوم. ولو دقّقنا أكثر لوجدناه مدموغًا بصبغة شابّة. كيف تقرأ هذه التجارب؟ هل تتابعها؟

أتابع بطبعي كل الأصوات الشعرية، بدءًا بالشعراء الذين نضبت قواميسهم ولا زالوا مصرين على الكتابة، وليس انتهاء بمن يجربون خطواتهم الأولى، وأتعلم من ذلك كله، وأوافقك الرأي على صفة الصبغة الشابة التي تدمغ المشهد الشعري العربي، وفي رأيي أن ذلك يعود إلى الشتات الذي يتعرض له المثقفون العرب سواء أكان في بلاده أم في المنافي التي تبعثروا فيها وإليها، وقد يكون لمواقع التواصل الاجتماعي دور مهم في إصرار البعض على الاستمرار في الكتابة، ويبدو لي أن بعض تلك التجارب لا يحمل غاية سوى السطوع، والسقوط في فخاخ التقليد، واللعب على التراكيب الجاهزة، ومغازلة القارئ البسيط الذي يصفق لكل شيء، على أني أرى في ذلك كله حالة صحيّة، لأن انشغال الشباب بالكتابة يعزز مفاهيم الجمال لديهم، وحتى لو لم يصبحوا شعراء، فإنهم في نهاية الأمر سيصبحون قراء جيدين، وكما تعرف فإن الغبار يزول بأول زخة من المطر الجاد في سقاية الأرض.

  • ما الرّابط برأيك بين التجارب الشعرية الحديثة والتجارب الرائدة أهلها؟ وهل ما زالت ثمة سمات محدّدة تربط بين شرايينها؟

لا يمكن للفرد التنكر لتجارب من سبقوه، على صعيد اللغة، والتجريب، والإبتكار في الصورة الشعرية، وطبيعة حياتهم الشخصية، على المرء أن يتعلم من الظل القادم من بعيد أسوة بالظل المحاذي لظله، وإن كانت هناك سمات مشتركة، فهي سمات قديمة تتلخص في التجريب، ومحاولة تأسيس ما لم يكن موجودًا، على أني أرى أن الأجيال التي سبقتنا كانت لديهم محاولات أكثر في التجريب، وإطلاق البيانات الشعرية، وتأسيس الجماعات الشعرية كذلك، وربما يعود سبب ذلك إلى وجود من يحتفي بتلك التجارب انطلاقًا من الوعي النقدي الذي بات مفقودًا لدى أصحاب التجارب الحديثة مقارنة بمن سبقوهم.

  • ما الذي ينافسه عبود الجابري وهو يكتب؟ أين تجد نفسك كشاعرٍ الآن؟

 لا أنافس أحدًا أو شيئًا، أكتب كي أغطي عيني بمناديل الشعر، ولا أفكر بالمكان الذي يرسم لي موقعي، حيث الجغرافيا الملتبسة للمشهد الشعري العربي، أجد نفسي كبيرًا في التغاضي المتعمّد الذي يمارسه البعض ممن يسكنون في بيوت خارج بيوتهم للتلصص من نوافذ الآخرين، مثلما أجد نفسي في الهجران الذي يقترفه بعض الشباب الذين لا زالوا يقلدون طريقتي في الكتابة، ولكنه تقليد فج وواضح، مثلما أجد نفسي في الاحتفاء الذي أحظى به من قبل أشخاص لا يملكون مواقع تواصل اجتماعي لكنهم يحفظون قصائد عديدة لي، ولعمري فإن ذلك هو التمثال الذي أحلم به في ذاكرة الناس.

  • المكان.. كيف أثّر على شعرك؟ وما علاقة المكان بإثراء القصيدة أو ضمورها لديك؟

لم أدخل منطقة الكتابة عن المكان أو تأثيره في نصوصي التي كتبتها، كل ما كتبته هو مقارنة بين ما أنا فيه وما كنته في العراق، حنين من نوع ما، لايزال يغطي بضبابية ما أكتب، ولم أستطع الخلاص من تفاصيل المكان العراقي في وجداني ولغتي، لذلك بدأت حديثًا بالتفكير بالأماكن التي عشت بها، وقد بدأت ملامحها تظهر في كتاباتي، فقد وصلت إلى مرحلة انتصف فيها عمري نصفين، الأول في العراق، والثاني خارج العراق، وأظن أن عليّ أن أوثق تجاربي في النصف الثاني، وهي لا تقل وطأة عما عشته في العراق، الجمال ونقيضه موجودان أينما حللت، وعليك أن تترك أثرًا يشير إلى ذلك كله.

عبود الجابري: لا يمكن للفرد التنكر لتجارب من سبقوه، على صعيد اللغة، والتجريب، والإبتكار في الصورة الشعرية، وطبيعة حياتهم الشخصية،

  • اتخذت القصيدة الحديثة اليوم أشكالًا عديدة، بعضها برز في العراق كالقصيدة المؤداة أو قصيدة الأداء وغيرها. كيف تنظر إلى هذه الانتقالة؟ وهل تؤيّد اتساع رقعة القصيدة نحو الفيديو والأداء؟

أتابع جميع الأجناس المتعلقة بالشعر، ويمتعني بعضها، غير أني ما زلت على يقيني بأنّ مرجعيات قصيدة الأداء غربية الأصل، وذلك ما جعل كثيرًا من الدول غير العربية تولي روادها من العرب اهتمامًا كبيرًا وتؤويهم على أراضيها، ويبقى الأمر مرتبطًا بما تعود عليه المتلقي العربي، وقد صار لجميع ما ذكرت من فنون مريدون ومتابعون وجمهور عريض، وأن علينا أن نواكب متابعتهم، ونختار منها مايناسب ذائقتنا.

  • ما آخر أعمالك وماذا تحضّر الآن؟

آخر أعمالي هو ديوان "في البيت وما حوله" الذي صدر عن دار الدراويش في ألمانيا. أما عن عملي القادم فإنّي مشظى بين أكثر من عمل، لديّ مجموعتان شعريّتان تنتظران النشر، وقد شرعت بجمع ما ترجمتُ من نصوص إبداعيّة لشعراء عدّة، وأفكّر في نشرها. هذا إضافة إلى انشغالي العميق في البحث عن العلاقة بين الشعر والصّلاة الذي أنوي أن أصدره في كتاب عند الفراغ منه. وأيضًا محاولة جادة في إنجاز ترجمات لكتب وقع عليها اختياري، وشرعتُ بترجمتها، عسى أن أوفّق.