18-مايو-2022
الباحث والروائي العراقي زهير الجزائري (ألترا صوت)

الباحث والروائي العراقي زهير الجزائري (ألترا صوت)

على الرغم من مغادرته القسرية للعراق، وسنوات غربته الطويلة الممتدة منذ عام 1979، إلا أننا نجد الأخير حاضرًا في جميع أعماله السردية والبحثية. نتحدث هنا عن الكاتب والروائي العراقي زهير الجزائري الذي رصد في أعماله، على اختلاف تصنيفاتها، تحولات المجتمع العراقي وأحواله تحت نير الحروب والمآسي، التي تركت بصماتها الواضحة عليه. 

في كتابه "المستبد: صناعة قائد، صناعة شعب"، يبحث زهير الجزائري في التفاصيل التي قادت إلى صناعة النظام الشمولي وترسيخه، ويقدّم للأجيال التي لم تشهد أهوال الدولة البعثية وثيقة أخذت من عمره 11 عامًا. 

كما أن شغفه بالتاريخ والأرشفة دفعه إلى استنطاق الموتى والحفر في الذاكرة العراقية، بحثًا عن إجابات لأحداث وأسئلة من خارج زمانه. فالكلمات، بحسب تعبيره، هي كاميرته ووسيلته لجذب القارئ الذي يشاهد، عند قراءته لأعماله، صورًا خالصة. فهو يحاول، في مجمل أعماله، منح الأحداث التاريخية ما يجعلها أحداثًا حية، ويجعل من شخصياتها شخوصًا من لحم ودم. 

زار الجزائري العراق خلال احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وساهم فيها محتجًا ومؤرخًا، إذ صدر له كتاب بعنوان "يوميات الألم والغضب" عن "دار المدى" في عام 2020. وهو كتاب يؤرخ فيه، بلغته الروائية، أحداث الانتفاضة وحيثياتها. 

يجيب زهير الجزائري في هذا الحوار على جملة من الأسئلة التي تتعلق بمحطات حياته في الغربة، وذكرياته مع المقاومة الفلسطينية، والاستبداد وأسبابه في عالمنا العربي، وأهمية الأرشفة والتوثيق، بالإضافة إلى النصائح التي يقدّمها لتقويم الحركة الاحتجاجية في العراق. 


  • ثمة في حياتك جوانب لم تأتي على ذكرها بالتفصيل، رغم أنها تثير الفضول لدى كل من يطلع على سيرتك الذاتية. نتحدث هنا عن غربتك القسرية التي امتدت 24 عامًا، وتغطيتك لتسع حروب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ما الذي أضافته هذه الأحداث لزهير الجزائري، وما الذي أخذته منه؟ 

الغربة عادةً تأخذ ولا تضيف. وحياتي فيها توزعت على أربعة منافٍ و42 بيتًا. ولكي أتألف مع كل مكان من هذه الأمكنة، كان عليّ أن أزيح من ذاكرتي صورة المكان الأول. ولذلك تاهت هذه الصورة في الذاكرة لدرجة أنني أستعيدها الآن بإرادة مسبقة. 

الجزائري: عرفت خلال سنوات عملي في الصحافة المشترك بين الدكتاتوريين، ما يجمعهم وما يفرقهم، مثل القمع، وتصفية الرفاق، والنزعة الاستعراضية، والخوف من غدر الأقربين

عشت في لندن أكثر من 30 عامًا. ومع ذلك، لم تأخذ هذه المدينة من كتاباتي أكثر من 15 صفحة، ذلك أن ذاكرتي بقيت هناك تحت السماء الأولى. ففي المنفى كنت أعيش مقلوبًا، أي أنني بينما كنت في لندن، تحت سماء رصاصية، كانت ذاكرتي هناك. وكنت أكتب لقارئ بعيد لا يراني، ولا يعرفني، ولا تصلني ردة فعله.

غطيت في حياتي حروبًا كثيرة. الحروب هي من تلك التجارب الأليمة التي يعادل كل يوم فيها عشرات السنين من التجربة. لم تشغلني الأسباب السياسية، ولا حركة المجموعات. ولم تشغلني أيضًا البطولات الأسطورية، وإنما سلوك الإنسان العادي وتردده خلال الحروب. 

وخلال عملي كصحفي، غطيت أحداثًا كثيرة، ورأيت عددًا من الطغاة الذين امتلأت بهم ذاكرتي. فقد كنت في السودان حين سقط جعفر النميري، وسمعت ضحاياه يتحدثون عنه. وفي ليبيا، شهدت القذافي يتمخطر كالطاووس وهو يستعرض الجماهير التي تمر أمام منصة التحية. وعشت أشهرًا عديدة في مصر، حيث رأيت صور حسني مبارك في كل مكان، وعاينت عن كثب تملق المتملقين له. كل هذا إضافةً إلى دكتاتورنا المتميز عن كل ما سواه. 

عرفت خلال سنوات عملي المشترك بين هؤلاء الدكتاتوريين، ما يجمعهم وما يفرقهم، مثل القمع على اختلاف أشكاله، وتصفية الرفاق، والنزعة الاستعراضية، والخوف من غدر الأقربين، وكل واحد منهم هو ابن بيئته. كانت مخيلتي تطوف بينهم، وهو واحد منهم وكلهم في الوقت نفسه. 

  • انضممت إلى المقاومة الفلسطينية في أواخر ستينيات القرن الفائت، وعملت في وسائلها الإعلامية، ودارت أحداث روايتك الأولى "المغارة والسهل" (1974) حول معاركها. هلّا حدثتنا عن تلك المرحلة؟

تنقسم مرحلة الستينيات إلى قسمين، ما قبل نكسة حزيران/ يونيو 1967 وما بعدها، حيث طرأ على جيلي، وهو جيل مثقفين، تحولات داخلية كبيرة بعد النكسة. فالقضية الفلسطينية والهزيمة هزت هذا الجيل بعنف، وأتذكر أنه حين سمعنا إعلان استقالة جمال عبد الناصر، في مقهى مقابل "سينما الخيام" في بغداد، أُغمي على عدد كبير منا جراء هذه الصدمة الشديدة. أنقل لك هذه الحادثة لأنني أريد أن أثبت إلى أي حد هزتنا نكسة حزيران.

الجزائري: أعتقد أن الديكتاتور لا يبرز إلا في فترات الحاجة إليه، وهي فترات الهزيمة العسكرية، والأزمات الاجتماعية

ظهرت بعد النكسة حركات مسلحة مختلفة في العالم العربي، منها حركات المقاومة الفلسطينية وغيرها من الحركات التي ظهرت في أماكن عديدة، فأصبحت الفكرة "الجيفارية" التي تقول إنه "ينبغي على المثقف أن يكون جزءًا من حركة المقاومة"، عامل إلهام للعديد من المثقفين الذين تركوا العراق وذهبوا إلى لبنان سوريا والأردن بهدف الانضمام إلى المقاومة الفلسطينية. وأنا كنت من العشرة الأوائل الذين ذهبوا، وكانت الرحلة بالنسبة لي عمل صحفي المثير فيها هو رؤية شعب قد تحول، بعد أن كان في طور اللجوء، إلى شعب مقاتل.

كانت هذه أول رحلة صحفية لي بصفتي مراسلًا لصحيفة بغداد "أوبزرفر"، وبقيت أكثر من المدة المقررة لي، وشهدت هناك معركة "غور الصافي" التي دارت على الحدود الأردنية الإسرائيلية، وتأثرت بالأجيال الفلسطينية الجديدة التي بدأت تقاوم الاحتلال الإسرائيلي. 

قدّمت بعد ذلك استقالتي من المؤسسة العامة للصحافة، وذهبت إلى سوريا ولبنان والأردن في رحلة أطول، فكنت ألتقي بالمقاتلين وأرصد السلوك الإنساني للمقاتل الذي يعيش على حافة الموت ويذهب إليه باختياره. وهذا السلوك، تحديدًا، هو الذي دفعني إلى كتابة رواية "المغارة والسهل"، بعد أن حوّلت المادة البصرية والمشاهدات والقصص إلى مادة روائية كُتبت بعد أحداث أيلول/ سبتمبر عام 1971 في الأردن. 

في تلك الفترة، كنت أعيش في فندق في الشام اسمه "العودة"، وكنا نتحاور حول أجواء ما بعد أحداث أيلول وما تمخض عنها من تحولات ومراجعات فكرية. كل هذا تجمع في ذهني، واستثمرته في رواية "المغارة والسهل" التي هي أول عمل في رصيدي الروائي. فتجربتي مع الفلسطينيين نتج عنها أربعة كتب هي، إلى جانب "المغارة والسهل"، "يوميات شاهد حرب"، وكتاب "الفاكهاني"، و"حافة القيامة". أضف إلى ذلك أن هذه الرواية تتضمن تجربتي الأولى في تغطية الحروب.

  • بدأت روائيًا ثم اتجهت إلى البحث وكتابة المذكرات، حيث نجد أن أخر كتبك "يوميات الألم والغضب"، هو عبارة عن مذكرات كتبتها عن احتجاجات تشرين 2019. هل تخليت عن كتابة الرواية لصالح الدراسات وتوثيق الأحداث التي عايشتها؟

الكلمات هي كاميرتي ووسيلتي لجذب قارئ مشاهد، يقرأ فيرى صورًا. وشخصيتي في حقل الكتابة تنقسم إلى ثلاث شخصيات، قسم منها تستطيع أن تسميه "الباحث"، مع أنني لا أنسب نفسي إلى الأكاديميين ولا إلى لغتهم، فأنا أحب أن أترك بصمة شخصية من تجربتي على الواقعة التي أحددها وأكتبها. 

الجزائري: الحروب هي من تلك التجارب الأليمة التي يعادل كل يوم فيها عشرات السنين من التجربة

فعلى سبيل المثال، أستطيع أن أقول عن كتاب "المستبد" إنه كتاب أكاديمي، ذلك أنه شغلني لمدة 11 عامًا من حياتي، قضيتها في التحضير له، والعمل عليه، وإعادة كتابته مرةً بعد مرة. وفي كل مرة كنت أحصل على معلومات جديدة، فأعيد من جديد كتابة فصل منه، أو أعيد كتابة الكتاب بأكمله. ذلك أن مشروعه بدأ في سبعينيات القرن الفائت، أي حينما كنت لا أزال في العراق أرى الاستبداد بأوضح أشكاله، وأسجل ملاحظاتي ومشاهداتي وأضعها في مكان سري. وحينما سافرت إلى بيروت، شعرت بالحرية لأنه أصبح بمقدوري أن أتعامل مع ظاهرة الاستبداد العراقي، فنشرت حينها عددًا من فصول الكتاب، ثم بدأت بالكتاب ككل. 

كنت آنذاك لا أكتب على الكمبيوتر وإنما بخط اليد. وأثناء علمي على الكتاب، أُهديت أول كمبيوتر في حياتي، وبدأت أعمل عليه من جديد. وبينما كنت أطبع، كانت تتشكل الأفكار في رأسي بشكل كامل، حيث سلطت الضوء على ظاهرة الفاشية في العراق، وأساسها الفكري ثم التطبيقي، وصولًا إلى فكرة الأمة المقدسة والأمة العليا، فالاعتزاز العنصري بالقومية، ثم قضية التشكّل الحزبي، والحياة العملية في سوريا والعراق، وانتهاءً بظاهرة صدام حسين التي أعتبرها ظاهرة تاريخية واجتماعية. ففي اعتقادي أن الدكتاتور لا يبرز إلا في فترات الحاجة إلى دكتاتور، وهي فترات الهزيمة العسكرية والأزمات الاجتماعية. وهناك أيضًا فكرة القائد الخالد الذي يظهر للأمة في الفترات العصيبة كما يرى ميشيل عفلق، الذي يقول أيضًا إن الأمة المقدسة، أو الأمة ذات الرسالة التاريخية، تمر بفترات انحطاط تبرز فيها شخصية تاريخية قادرة على إيقاظ مجتمعها، وهي فكرة مشابهة لتلك التي ظهرت في ألمانيا وإيطاليا. 

تشكّل الكتاب عندي في الوقت الذي كنت أكتب فيه رواية من جزئين، وهي "حافة القيامة". وهنا يبرز الجزء الثاني من شخصيتي كروائي. وأستطيع أن أقول في هذا السياق إن لدي طاولتين، طاولة لكتابة البحث وأخرى لكتابة الرواية. فعندما تراودني أي فكرة أو معلومة، أتساءل في نفسي: هل تصلح لعمل روائي، أم لكتابة بحثية، أم صحفية؟

مع ملاحظة أن العمل الصحفي، وخاصةً التحقيقات، هو أقرب إلى لغة الرواية، ذلك أنه يقوم على المشاهدة والاستماع وتسجيل الملاحظات، ما يعني أنه يجعلك تتحكم في نفسك أكثر. فالصحافة والبحث والرواية، سارا عندي بشكل متواز، ويخرجان في فترات زمنية متفاوتة. وجميع ما سبق يتداخل ببعضه البعض، فأشعر مثلًا أثناء الكتابة أنني نزلت إلى مستوى الرواية أو الوصف الصحفي. وهكذا أتنقل بين الأقسام، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى حرفة هي نتاج أكثر من خمسين سنة من الكتابة. 

  • بين هذه الأجناس الكتابية الثلاثة، أين تجد نفسك أكثر؟

أجد نفسي روائيًا بالتأكيد، فالرواية هي الأقرب لي. لكني لا أشعر، إطلاقًا، بأنني انتقلت إلى عالم آخر إذا كتبت في الصحافة. أحيانًا أضع بين مزدوجين كلام المتكلم حتى حينما أكتب كتابة تحليلية، مثل الكتاب الذي أشرت إليه "يوميات الألم والغضب"، ذلك أنني أحب أن أتنقل بين المشاهدة العيانية والأسلوب الروائي، وبين الاستقصاء الصحفي. 

الجزائري: الأرشيف يشغلني، لكن مشكلته أنه مادة جافة، لم يكتبه الروائي وإنما المؤرخ، والأخير يحكم على فترات زمنية طويلة

أفضل التنقل بين الأساليب. أكتب في منطقة تتطلب أخذ اقتباس المتكلم، وهذا من أشكال الكتابة الصحفية. وأحيانًا أشعر بأنه يجب أن أكتب في منطقة أخرى بشكل تأملي عن شخص رأى حدثًا، فأختبر كيف تكون انفعالاتي فيها وأكتب. وهذه الكتابة لا تعتبر أكاديمية على الإطلاق. 

  • كيف ترى المشهد الثقافي في العراق الآن؟ وهل من أسماء تبشّر بها في عالم الكتابة؟

طبعًا. أتابع اليوم بإعجاب شديد الكثير من الروائيين وحتى الشعراء الذين لم أكن أعرفهم سابقًا، وخصوصًا شعراء قصيدة النثر. أما بالنسبة إلى الروائيين الشباب، فقد عاشوا تجارب غزيرة ومؤثرة لا يستطيعون نسيانها، ولذلك ويحاولون روايتها للآخرين. وفكرة القص، أن أقص تجربتي وما شاهدته، تدخل في نسيج أي إنسان. لكن كيفية فعل ذلك ونقل التجربة إلى الآخرين، هي التي تحسم ما إذا كان عملًا روائيًا أم لا. 

ولا بد لمن يراقب المشهد الثقافي العراقي أن يلاحظ تجديد الشباب لشكل الرواية، وتقديمهم لتجارب غير مألوفة، ذلك أنهم يملكون تجارب واسعة ومؤثرة، وهذه ربما موجودة داخل كل عراقي، حتى سائق التاكسي، لكن الذين أتحدث عنهم تعلموا أن سرد تجاربهم بدقة، ودون انفصال يشوش على المشهد.

في بعض الأحيان، تبدو هذه الروايات أقرب إلى شهادة منها إلى رواية، ذلك أنها لا تنطوي على التقنيات الروائية المتعارف عليها. لكنها، مع ذلك، تبقى شهادة مهمة جدًا، خاصةً تلك التي تتحدث عن الحرب العراقية - الإيرانية، التي نقلها من عايشها بعد أن نضجت في ذهنه. 

لذلك أرى أن المشهد الثقافي مؤثر جدًا، وأقرأ ما يصدر باستمتاع، وأحيانًا أغار من بعض الأعمال وأسأل نفسي: لماذا لم أستطع كتابة مثل هذا العمل؟

  • من يقرأ كتبك يلمس شغفك بالأرشيف. تقول في كتابك "يوميات الألم والغضب": "مرت مجازر جماعية هائلة... دونما صورة أو ذكر في الإعلام كأن ما حدث كان مجرد كابوس"، وهذا ما دفعك إلى زيارة كردستان بعد مجزرة الأنفال متتبعًا أثر الجريمة في ذاكرة ناسها. هل نجحت في توثيق الأحداث؟ وهل يكون عمل الارشفة خائبًا ما لم تحتضنه مؤسسة راسخة الجذور؟ 

أرى أن الأرشفة هي دراسة المادة التاريخية بوثائقها الحيّة، وقد استخدمتها في روايتي "باب الفرج" التي هي أول رواية أكتبها عن أحداث لم أعشها لأنها وقعت في زمن سابق، إذ كتبت فيها عن تاريخ لم أعشه ولم يرويه لي شهود عايشوا أحداثه. ومع أن التاريخ كان مادتي، إلا أنني لم أكتب رواية تاريخية، ولم أكن أكاديميًا مخلصًا للتاريخ أيضًا. 

الجزائري: ثمة جيل جديد يحن إلى صدام حسين، ويعتبره ممثلًا للعصر الذهبي في العراق، لأنه لم يعرف شيئًا عن القمع والمجازر التي حدثت في عهده

غزو الوهابيين للمدينة والطاعون حدثا في زمن آخر. مع ذلك، كنت أمسك بلحظات من هذا التاريخ، وأحدّد عناصر هذه اللحظة المعاشة، وأشحن الآنية الحسية في مواجهة الواقع الموضوعي، إلى جانب التاريخ الموضوعي، الذي كتبه المؤرخون. هكذا صنعت في الرواية تاريخي المتخيل. راوية الرواية يطير فوق الأحداث ويرويها لنا، وهو لا يطير فوق الأمكنة وحسب، إنما فوق الأزمنة أيضًا، فيرى أحداثًا عاشها أجداده الموتى، ويرى أخرى لم تحدث بعد. أنا صنعت تاريخي الخاص، وحاولت أن أكسو الأحداث التاريخية بلحم ودم من شخصيات أعرفها في زمن آخر.  

فالأحداث تجري من عام 1906 إلى عام 1914، فترة انتقال العراق من الاحتلال العثماني، إلى البريطاني. الشخصيات الأساسية في الرواية هي شخصيات أعرفها، عائلتي وأجدادي. لكن الأحداث ذاتها لم أعشها، ولذلك لجأت إلى المادة الأرشيفية كثيرًا، ووظفت في العمل كل لمسة شعرت بأنها حيّة في التاريخ. فهناك، على سبيل المثال، فصلًا كاملًا عن الطاعون، وكذا عن تجارة العبيد الذين رأيت أخر واحد مهم عند أجدادي، لكن لا أعرف من أين أتى وكيف وصل، فذهبت إلى قراءة الأرشيف إلى جانب أطروحات الدكتوراه التي تناولت هذا الموضوع لأعرف كيف كان يتم التعامل معهم من قبل البائع والمشتري، وما هي وظائفهم. إنها لذلك مادة أرشيفية بحتة.

مادة كتاب "المستبد" هي أيضًا جاءت، في معظمها، من الصحف العراقية التي صدرت في تلك الفترة، فقد كنت أقرؤها وأضع الخطوط تحت أي تصريح أو حديث ينفعني في المادة التي أسعى إلى كتابتها. فالأرشيف يشغلني، لكن مشكلته أنه مادة جافة، لم يكتبه الروائي وإنما المؤرخ، والأخير يحكم على فترات زمنية طويلة بأن يقول لك: حكمَ العراق في تلك الفترة حاكم مستبد، لكنه بنى دولة قوية!

أما أنا، فأحاول أن أفكك النص الأرشيفي، وأبحث بين السطور، لأن السطح هو التاريخ المجرد، وفي العمق فقط يوجد المجتمع وما يوضح لنا طرق وأنماط عيش بشره في فترة معينة. ولذلك أقوم بالتقاط أي إشارة يمكن أن تخدمني في هذا الجانب. فأنا، على سبيل المثال، لم أرى لمحمد سعيد الحبوبي في المادة التاريخية أي وصف يوضح من هو، أو كيف كان شكله. كل ما لدينا عنه هو صورة فوتوغرافية التُقطت له وهو يعتمر العمامة، مما اضطرني إلى أن أقرأ كثيرًا حتى أتعرف إلى هذه الشخصية.

الأرشيف إذًا مهم جدًا للروائي، ولبناء مخيلته. فالخيال أحيانًا يستند إلى الواقع. حتى الكوابيس التي يراها أحيانًا المريض في منتهى الخيال، لكنها تستند إلى أشياء واقعية، ذلك أن الحركة العضوية للجسم، والمشاهدات التي يشاهدها الإنسان، تنعكس في هذه الكوابيس وتُكتب بشكل أو بآخر في المادة الروائية. 

الجزائري: الديكتاتور يظهر في البلدان المهزوزة غير المستقرة التي تفتقر الى المؤسسات، وتعيش انقسامات طائفية وعرقية وحزبية

وفيما يخص الشق الآخر من السؤال، أي هل سيلاقي الجهد الأرشيفي ثماره ويصبح مادة يقرأها الناس، فهذا سؤال مطروح للمستقبل، إذ يبدو لي أننا في تعاقب الحكومات ننسف كل التاريخ السابق. فثمة فترات طويلة منقطعة في ذهن أجيال عديدة. ثمة جيل جديد يحن إلى صدام حسين، ويعتبره ممثلًا للعصر الذهبي في العراق، لأنه لم يعرف شيئًا عن القمع والمجازر التي حدثت في عهده، ولم تدخل هذه الأحداث في ذاكرته، بسبب هذه الانقطاعات التاريخية. لذلك أعتقد أن الدمج بين علم الاجتماع والتاريخ والرواية بهدف بناء أرشيف وتشكيل ذاكرة جماعية، هو أفضل ما يمكن تقديمه للأجيال الجديدة.

الحكومة الآن غير مهتمة بالتاريخ، ونرى تمظهرات عدم اهتمامها في هدم البيوت والأماكن التاريخية، وبناء الأسواق ومراكز التجارة "المولات" مكانها. ولهذا السبب يظهر العراق وكأن تاريخه قد بدأ بعد عام 2003، وهذا يتطابق مع ما فعله صدام حسين الذي قام بمحو التاريخ الذي سبق وصوله إلى السلطة، تمامًا كما لو أنه لم يبدأ إلا منذ 17 تموز/ يوليو 1968، فكل فترة تأتي تقطع وتمحو ما قبلها.

أعتقد أيضًا أنه من المهم أن يكون هناك تعاون بين منظمات المجتمع المدني والأكاديميات لتكوين أكبر ما يمكن من المتاحف والأرشيفات، التي يمكن للأجيال الجديدة أن تستند إليها، وتدخل كمادة للدراسة. وهذه مسؤولية كبيرة لتجذير وخلق الوطنية وتكوين الذاكرة التاريخية. 

  • اشتغلت على "الديكتاتور" وما يتعلق به في ستة كتب، أهمها ربما كتاب "المستبد: صناعة قائد، صناعة شعب". برأيك، كيف يُصنع الديكتاتور في عالمنا العربي؟ هل هناك بيئة تهيئ صناعته؟ ولماذا تعيش أشباحه بيننا بعد سقوطه؟

حين كنت في المنفى، بعيدًا عنه، أخذ الديكتاتور 15 عامًا من حياتي، و300 صفحة من البحث، وثلاث روايات، وكتاب تاريخي، وعشرات المقالات، وما يزال بعض منه في مخيلتي. وكلما قرأت أو كتبت عنه، أزداد قناعة بأن هناك عملية تبادل بين الديكتاتور وشعبه. فالشعب في ضوء هزيمته الوطنية وفي عز ضعفه أيضًا، يبحث عن قائد كاريزما ينقذ الأمة من غفوتها ويعيد لها كرامتها المهدورة، والقائد الكاريزما يصنع القبول والطاعة بالقمع والديماغوجيا. نحن الآن نعيش الفترة الأصعب، فقد تناسل الديكتاتور إلى مجموعة ديكتاتورين صغار، ما يعني أن الماضي الذي عشناه على مدار 35 عامًا لم يمضي.

ومازال هناك، في عز الأزمة واليأس من قدرات الذات، من يبحث عن ديكتاتور عادل. فالديكتاتور يظهر في البلدان المهزوزة غير المستقرة التي تفتقر الى المؤسسات، وتعيش انقسامات طائفية وعرقية وحزبية. في مثل هذه البلدان، حيث لا يوجد اتفاق على ثوابت وطنية عامة، يظهر الديكتاتور الذي يصعد أيضًا في ظل الهزائم العسكرية، ومثالنا هنا صعود "حزب البعث" في سوريا والعراق، والقذافي في ليبيا، والنميري في السودان، وغيرهم ممن كنسهم الربيع العربي.

الجزائري: يظهر العراق وكأن تاريخه قد بدأ بعد عام 2003، وهذا يتطابق مع ما فعله صدام حسين الذي قام بمحو التاريخ الذي سبق وصوله إلى السلطة

كلهم ظهروا في فترة أزمة وانعطاف حاد إلى الأسفل بسبب وضع سياسي منقسم أو ضع هزيمة. ففي مثل هذه الفترات، يستنجد الشعب بشخص كاريزما ذو طبيعة حادة، وينتظره مثل انتظار الفرج بعد أن فقد الثقة بذاته. ومن المؤسف أن فترات حكم الديكتاتوريين طويلة بحيث تأخذ 30 عامًا أو أكثر. ومن المؤسف أن بعد سقوطهم لا يتوحد المجتمع، ولا يصل إلى حلول جذرية، ولا يستطيع تأسيس مؤسسات ديمقراطية. المجتمع المدني يبقى ضعيفًا، وفي مثل هذه الحالة يحن إلى الديكتاتور أو ينتظر ديكتاتور يظهر من المجتمع وينقذه من التفتت السياسي والاجتماعي.

والآن في العراق توجد لدينا مثل هذه الظاهرة الاجتماعية، خصوصًا عند الجيل الذي لم يعيش في فترة صدام حسين، ولا يملك ذكريات من هذا النوع، فنراهم ينتظرون شخص قوي، وينظرون إلى التعددية الحزبية والسياسية باعتبارها رذيلة، لأن التعددية عندنا تشير إلى الصراعات والاقتتال، فصاروا يبحثون عن قوة أحادية تقود المجتمع وتوصله إلى بر الأمان. والآن نرى، على سبيل المثال، أن التعاطف مع بوتين يقوم على اعتباره زعيمًا قويًا وصلبًا، وذلك على حساب التعاطف مع الشعب الأوكراني الذي يدمّر بسبب غباء رئيسه وقسوة الغزاة. وهذا التعاطف يظهر في هكذا فترات لا توجد فيها حلول نابعة من الذات.

ألمانيا مرت بمثل هذه المرحلة، حيث كانوا في فترة الهزيمة بعد الحرب العالمية الأولى التي أذلتهم بما فيه الكفاية، إذ اقتطعت فرنسا أجزاءً منها، وجُرِّدت من سلاحها ودُمِّر جيشها، مما ساهم في تشكيل أرض خصبة لنمو الديكتاتور وعبادته. فهتلر وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات، وتوج من خلالها، والأمر نفسه حصل مع موسوليني. لا تستطيع أن تتصور أن هذا الشعب الذي أنجب بيتهوفن وشيلر وغوته، ولديه تراث عقلاني هائل، سينتخب في نهاية المطاف ديكتاتورًا مثل هتلر!

  • تقول في إحدى عباراتك "تمنيت أن نجفف الديكتاتور بدلًا من أن نقتله ونهينه بسهولة.. نضعه في مسلة زجاجية جالسًا مثلما كان يحكم وهو حي، مسلة يقف تحتها طلاب المدارس ليعرفوا الديكتاتور وما فعل". في سياق هذه العبارة، كيف ترى محاكمة صدام حسين التي تمت سريعًا بعد اختزال جرائمه كلها في مجزرة الدجيل التي تُعتبر، بحسب البعض، أبسط جرائمه؟ 

المحاكمة كانت باهتة ولقضايا حزبية بحتة. كنت أتمنى لو بدأت محاكمته على مجزرة قاعة الخلد لتقطع الطريق نهائيًا عن الثقافة الدموية، وأن تكون محاكمة ذات طابع وطني. 

في إحدى رواياتي كنت أتخيله جالسًا في مسلة زجاجية كما هو، وأُريه لطلاب المدارس والأجيال الجديدة حتى يعرفون التاريخ، بدل أن تنهي قضية إعدامه كل شيء. وكنت أريد لتمثاله أن يبقى ليقول للناس هكذا عشنا، فالتاريخ عادةً يشكل مناعة ضد عودة أي ديكتاتور، على عكس ما نراه في عراق ما بعد 2003 من تحطيم للنصب والتماثيل دون فائدة، إذ استُبدلت بأخرى لرجال دين وشخصيات موغلة في الفساد والدم. 

  • بعد 2003، تحولت دار الكتب والوثائق العراقية إلى ما يشبه الكعبة التي يطوف حولها بعض مثقفي السلطة السابقة الذين كتبوا الدراسات والمقالات والقصائد بحق حزب البعث وقائده، لكي يقوموا بسحب هذه الوثائق وإتلافها حتى يبقى ماضيهم مطمورًا ونراه بعيونهم لا بعيوننا. هل نجحوا في ذلك؟ وهل نشهد يومًا يظهر فيه ما جهدوا لإخفائه؟ أم أنه سيبقى مجهولًا إلى الأبد؟

أعتقد أن الكثير من الحقائق تبقى مجهولة إلى الأبد، فقسم من الوثائق أتلف من شخصيات متعاونة مع النظام، بسبب ما كتبوه من نصوص شعرية ومقالات وأبحاث، وقسم حجب وصودر. فخلال الفوضى الشعبية في بدايات 2003، كان واحد من هموم البعثيين هو إخفاء الوثائق واحراقها، وهذا جزء من برنامج صدام حسين في قضية اتلافها. والجزء الآخر من هذه الوثائق أتلفه الشعب، الذي لم يكن يملك الحرص الواضح على أن يبقى هذا التاريخ بهدف معرفته ومعرفة شخوصه، لذلك قام بحرق المقرات الصور والكتب.

الجزائري: انتفاضة تشرين حققت أشياء عظيمة جدًا، وهي بالتأكيد ليست الأشياء المباشرة مثل اسقاط الرئيس وإجراء انتخابات مبكرة

 في بلدان أخرى، جرى الاحتفاظ بهذا التاريخ الذي اعتُبر جزءًا من سيرة الأمة، ووثيقة مهمة ومفيدة في دراسة الشخصية بكامل أبعادها، فتحولت الأنصاب والوثائق والمتعلقات التي تخص الديكتاتور إلى متاحف على اعتبار أنها تساعد في التعرف إلى الحقب المظلمة التي عاشها الناس. 

نحن الآن إذا أردنا أن ندرس شخصية صدام حسين من ناحية الصور، سنرى مثلًا التحولات التي أصابت شخصيته، فخلال الحرب العراقية الإيرانية كان صدام يرتدي البزة العسكرية، وبعد انتهاء الحرب يرتدي الزي المدني، وفي حروب أخرى كان يصور نفسه الملك الأكدى "نارام سين" يركب عربة بعجلتين ويحمل سيفًا وهكذا. وأمام بيته في تكريت هناك تمثال له وهو يعتمر خوذة صلاح الدين، ويشير إلى القدس بالسيف.

هذه الرموز لها علاقة بالتاريخ ومعرفة الشخصيات، وحينما تحطم هذه النصب والتماثيل يثلم التاريخ، وتحصل فجوة في مسيرة الأمة. صحيح أن بعض الصحف تبقى، وكذا الوثائق، لكنها لا تعطينا فكرة واضحة عن مخيلة الديكتاتور عن نفسه.

  • في كتابك الأخير "يوميات الألم والغضب" كتبت: "كنت مع المتظاهرين، بين الأكبر سنًا وسط سيل حيوي من الشباب. أمشي الهوينا على إيقاع الماضي وأراهم حولي يركضون نحو القادم وقد بدت لهم الأهداف قريبة." هل ما زالت أهداف انتفاضة تشرين قريبة؟ وهل ما حققته يتناسب مع حجم التضحيات والدم المسفوح؟

انتفاضة تشرين حققت أشياء عظيمة جدًا، وهي بالتأكيد ليست الأشياء المباشرة مثل اسقاط الرئيس وإجراء انتخابات مبكرة، فهذه مثلما يقال تحصيل حاصل. والأشياء العظيمة التي أقصدها هي تلك التي خلقت فجوة كبيرة بين الجيل الجديد والجيل القديم الذي نشأ على الخوف والطاعة. الجيل المسجون داخل أسوار الأيديولوجيا، ولا يكاد يرى إلا حدود الدائرة التي يدور فيها. هذا الجيل هو من حرك الانتفاضة وأصبح له ثقل سياسي، من خلال وصول المنتفضين الى قبة البرلمان.

الأحزاب التقليدية حاولت أن تتماشى مع هذا الجو، فأتت بشخصيات تدعي أنها مستقلة لكنها في الأساس تابعة لهم. الشخصيات المنتفضة التي وصلت الى البرلمان، وتُعتبر من خارج الطيف السائد، من الممكن أن تحطم المحاصصة وتراقب الفساد وتكون وفية لدماء الشباب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن تشرين خلقت الأمل، وحركت في المجتمع الشعور الحقيقي بالانتماء إلى الوطن الذي افتقدناه كثيرًا، وحفزت الناس على أن يحتجوا لنيل حقوقهم في أي لحظة. فعلى العكس مما سبق، حين كان الناس ينتظرون من السلطة أن تقوّم نفسها وتقدّم لهم المكرمات، أصبحت الحقوق الآن تنتزع من خلال الاحتجاج، وهذا أمر مهم يجعل الأهداف قريبة.

الجزائري: إحساس المثقف العراقي بالتهميش جعله يشعر بضعف داخل نفسه، لذلك أخذت تنمو في داخله فكرة أن يكون تابعًا للسلطة

انتفاضة تشرين ثورة فكرية وحقوقية في آن واحد، لها منجزات ملموسة في ساحة التحرير على صعيد الرسم والفن والنشر، وكذا على صعيد فك الارتباط بين الدين والسياسة، وإنهاء هذا التداخل في خطاب أحزاب السلطة الإسلامية، بحيث أصبح الجمهور يراها أحزاب سياسية نفعية.

أما عن حجم التضحيات، فأقول إن ثمة فجوة كبيرة بين التضحيات والنتائج للسبب التالي وهو الطهرانية التي حكمت انتفاضة تشرين، بمعنى أننا لا ندخل في السياسية ولا نريد ممثلين سياسيين ولا نريد قادة. باختصار وعي الاحتجاج لأجل الاحتجاج هو ما كان سائدًا للأسف، غياب الوعي الاحتجاجي وغياب خطة العمل وآلية استحصال الحقوق وكيفية اسقاط الطبقة الحاكمة، هذا ما جعل التضحيات كثيرة ولا تتناسب مع النتائج. 

 كما أن تشرين خلقت قوة ردع لمن هم في السلطة لا يجرؤون على كسرها، فهي خلقت لهم كابوس دائم، ذلك أنه من الممكن أن تنفض غبارها وتظهر من بين الركام. هذا الارتباك الذي خلقته داخل الطبقة السياسية نجد تجلياته في الخصومات والانشقاقات، بحيث لم يستطيعوا الاتفاق على شيء، وجعلتهم يسرعون في عملية النهب والإثراء لأنهم يدركون أن مستقبلهم غير مأمون، وسوف يأتي اليوم الذي يتغير فيه كل شيء.

  • يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إن مهمة المثقف الأولى هي إزعاج السلطات. لماذا ينحاز المثقف العراقي إلى صف السلطة إذًا؟ أو يختار المناطق الرمادية التي تتيح له العزف على وتر الجماهير والسلطة في آن واحد؟ 

تاريخ المثقف في العراق تاريخ تهميش. في العهد الملكي تشكلت أربعون وزارة لم يصعد مثقف واحد لشغل منصب فيها إلا مرة واحد مع صعود رافائيل بطي، لمدة سنة ونصف، وصدرت وقتها قرارات شديدة للرقابة. 

إحساس المثقف بالتهميش جعله يشعر بضعف داخل نفسه، لذلك أخذت تنمو في داخله فكرة أن يكون تابعًا للسلطة. والأحزاب المعارضة لها تشعر أيضًا بأن المثقف تابع للسياسي، وهذا موجود في عموم البنية السياسية العراقية. المثقف إما خادم للطبقة السياسية، أو الأحزاب المعارضة. وفكرة أن ثقافته هي الأساس غير موجودة في أعماقه بسبب عدم ثقة في عمله، وإبداعه، ودوره كمصلح للمجتمع. يتذرع بالفردانية وينفي صلته بالسياسة باعتبارها دنسًا، لكن السياسة تدخل إلى بيته، وتوقظه من نومه.

الجزائري: لقد كان الحدث التشريني بالنسبة لي مفاجئًا على كل الأصعدة، سواءً لناحية جمهوره وتوقيته واستمراره، وكذا العنف الذي وجّه إليه.

فمع ضعف ثقة المثقف، ومع تهميش السلطة له أيضًا، نجده مترددًا بين اختيار السلطة، بما هي باب للرزق، أو المعارضة. وهذه هي المشكلة التي نعاني منها. فالمثقفين في العراق ليسوا موحدين، وإنما منقسمين بين السلطة وأحزاب المعارضة، إلى جانب بعض المثقفين الخاملين الذي تخلوا عن الاهتمام بوجودهم الاجتماعي، لصالح فردانيتهم. 

  • يدرك من كان منغمسًا في الحراك الاحتجاجي الأخير، أن الشباب هم الذين أشعلوه وسط تخوين وتشكيك من قبل بعض النخب الفكرية والثقافية والدينية، التي تبددت هواجسها فيما بعد وأصبحت في مؤخرة الركب الاحتجاجي. هل ما حصل هو فك ارتباط بين الجماهير وهذه النخب نتيجة خذلانها لهم؟ أم أن الأمر يرتبط بوعي الشباب وعدم حاجتهم إلى من يوجههم؟

لم يكتفي شباب الانتفاضة بالاحتجاج وحده، وإنما أزاحونا نحن الآباء جانبًا. وفي أحسن الأحوال، أبقونا عينات طيبة من ماض سيئ، وتصرفوا بصفتهم قادة الدولة الوطنية المقبلة والمسؤولة عن مستقبلهم في مواجهة سلطة فاسدة ومخترقة السيادة. 

لقد كان الحدث التشريني بالنسبة لي مفاجئًا على كل الأصعدة، سواءً لناحية جمهوره وتوقيته واستمراره، وكذا العنف الذي وجّه إليه. قبل ذلك، شاركت في مظاهرات عديدة بعد عام 2003، ولكنني كنت دائمًا مع مجموعة مدنيين ويساريين أعرفهم. أما هذه المرّة، فكنت وسط جمهور آخر تمامًا. جيل عجيب لديه إصرار، لا يعرف الخوف الذي عشناه في ظل النظام الديكتاتوري، جيل يتواصل أفقيًا خارج الأحزاب.

لم أكن قائدًا ولا موجهًا، ولا حتى ناصحًا، فقد عرف الشباب بأنفسهم كيف يوجهون بعضهم ويخففون الغلواء، فحل العقل محل الغضب. ورأيت بعيني خلال الأيام المجيدة في تشرين 2019 كيف تجسدت تلك الانعطافة في وعي الشباب. فخلال وجودي في الساحة، طوال شهرين ونصف، تعرفت على شباب الساحة من خلال المشاهدة وأحاديث مطولة تحوّلت إلى كتاب. وطالما أن الأهداف لم تتحقق بعد، فإننا سنشهد حراكًا ربما أكثر زخمًا وديمومة وإصرارًا من احتجاجات تشرين. 

  • كنت دائم الحضور في الاحتجاجات التي شهدها العراق، وأخرها احتجاجات تشرين. ما هي النصيحة التي تقدمها للشباب المحتج حتى لا يقعوا في أخطاء الماضي؟

أن يحاولوا تشكيل تنظيمات ليس بالضرورة أن تكون أحزابًا، وإنما شكلًا من أشكال التنسيق بين الشباب والحركة الاحتجاجية، ومظلة جامعة تمثلهم في التفاوض مع السلطة. 

وأن يكون عندهم أيضًا القدرة على انتزاع الأهداف لا مرة واحدة فقط. فإما أن يأخذوا كل شيء، أو أن يتراجعوا، لأن الحقوق تنتزع بالتدريج. أضف إلى ذلك أن عليهم أيضًا وضع خطة زمنية لتطوير تكتيكاتهم، ذلك أن فكرة التجمع في ساحة واحدة لم تعد مجدية، بل ينبغي عليهم الانتشار في كل منطقة وزقاق ومحلة، الأمر الذي يجعل السلطة عاجزة عن قمعهم من جهة، ويضمن لهم استقطاب جماهير جديدة وتوسيع رقعة انتفاضتهم من جهة أخرى. 

وأخيرًا، أرجو أن يكون من همومهم تقليل التضحيات، فالطابع السلمي الذي ساد الانتفاضة مهم جدًا، لكن لا نستبعد أن الغضب قد يفلت من حدوده ويخرج المحتج من الإطار السلمي. أنا شاركت في احتجاجات كثيرة ولم، أرى خروج تظاهرة نظيفة بالكامل. ما أريد قوله في النهاية إن شخوص السلطة تافهين لا يساوون قطرة دم تسفك دماء من شباب العراق.