19-يونيو-2022
لا ينبغي للفرد أن يتباهى بكمية كتبه (Getty)

لا ينبغي للفرد أن يتباهى بكمية كتبه (Getty)

"لا تقرأوا أي كتاب لأنه مشهور أو حديث أو قديم

يجب أن تكون القراءة أحد أشكال السعادة الخالصة

اقرأوا من أجل متعتكم ولأجل أن تسعدوا".

  •  خورخي لويس بورخيس

 

في جلسةٍ ثقافية جمعتنا تحت سقفٍ قليلاً ما نلتقي تحت ثرياته المنخفضة، بالرغم من تكرار لقاءاتنا في ملتقيات وزوايا أخرى من مقاهي وأندية المدينة التي نمكث بها بعضًا من الوقت المسروق في بلدٍ تمضي ساعاتها هرولةً مذ أن خرجنا من سوريا، وصرنا فيها ضيوفًا ثقلاء بالنسبة لشريحةٍ عنصرية من أبنائها؛ تنحنح الأخ في ذلك اللقاء العابر ليخبرني بعدها عن كتابٍ مهم أبهرته فكرة المؤلف، التي جعلته يندم على السنوات التي مضت من دون أن يحفر على صخور الأرض شيئًا مما يعرفه قبل أن يضيع بين ذرات ترابها، فقال إن عنوانه ملفت وجذاب! قلتُ: "ما هو عنوان ذلك الكتاب"، قال "مت فارغًا"، قلت: "عرفته، هو لتود هنري، وموضوع الكتاب خلاّق وسبق لي أن قرأته السنة الماضية مطبوعًا ثم عدتُ إلى النسخة الإلكترونية للاستئناس بها بما أن الكتاب الورقي ما يزال قيد الانتقال من يدٍ لأخرى"، وأضفت بأن العنوان يفتح أمام القارئ أبواب التأويل على مصاريعها، وأضفت بتصوري أن القارئ قد ينسى المؤلف وينسى عنوان الكتاب ولكنه على الأغلب سيبقى يتذكر قصة أغنى أرض في العالم التي يحكيها المؤلف في كتابه.

ثمة آلاف العناوين الشيقة والمهمة من الكتب، ولكن ليس على القارئ إلا اختيار ما يحتاج إليه ويناسب مزاجه وحاجته وطبيعته

فتململ الرجل بدايةً وتردد في إتمام الكلام عما اكتشفه في الآونة الأخيرة، وحاول أن يخبر زميله به حتى يكون مدخلًا لمواضيع أخرى، ولكن شاءت الصدف أن يكون زميله على اطلاع بذلك المُنتج المعرفي من قبل، عندها غيّر منحى السؤال ودفعه باتجاه العتابِ لعله يفتح بابًا جديدًا بعد أن أُغلقت الكوة الأولى.

فقال: "لمَ لمْ تخبرني عن هذا الكتاب ونحن كثيرًا ما نلتقي؟"، فوددت حينها أن أقول له هذه الجملة التي أوردها دانيال بناك في كتابه "متعة القراءة": "ما نقرأه نصمت عنه، فنحن غالبًا ما نحتفظ بمتعة الكتاب المقروء في قرارة غيرتنا، إما لأننا لا نجد في ذلك مادة لحديث يُروى، وإما لأنه ضروري أن ندع الزمن يقوم بعملية التخمر الرائعة قبل أن يكون باستطاعتنا أن نتكلم عمّا قرأنا"، إلاّ أن جملة بناك كانت طويلة نسبيًا ولكن تذكر مضمونها فكان سهلًا عليّ ذلك، إلاّ أن تلاوتها كما هي مدونة فصعب عليَّ أمرها، لذا فعوضًا عنها جئته من بابٍ آخر وقلتُ له: "إن أخبرتك في كل لقاء عما تناولته من الأطعمة والمشروبات على مدار الأيام التي لم أراك فيها ماذا ستقول في سرك عني؟".

وقبل أن تجيب سأجيب أنا عنك حتى لا أدفعك لديار الإحراج، فمن المرجح جدًا أنك ستقول بأن الرجل فجعان، لا هم لديه غير بطنه، وأن كل ما يشغل باله هو الطعام، يقضي عمره بالأكل والشرب، ومن هذا الكلام.

"أليس هذا ما سيخطر على بالك حتى لو لم تقله لي وجهًا لوجه؟".

قال: "بلى".

فقلت له: "يا صديقي، ما نقرأه مثل الذي نأكله لا يستدعي الأمر بأن نتكلم عنه ليل نهار، ولا يستدعي الأمر بأن نفتخر بما قرأناه ماضيًا أو ما الذي نقرأه راهنًا، كما يفعل بعض البرجوازيين في أحاديثهم المملة عما تناولوه من المآكل والمشارب في المطعم الفلاني المشهور، وكيف قُدمت الأطباق ووضعت أمامهم، وكيف التهموا المأكولات المقدمة لهم، وذلك طالما أن المأكول والمقروء عائدان للشخص نفسه وفوائدهما تعود للشخص نفسه وليس للذي يخبره عما تناول".

إلاَّ اللهم أن الفرق بين المأكول والمقروء هو أن مَن يقرأ قد تتحسن سلوكياته إن قيَّم نفسه بناءً على ما ورد في سياق ما قرأ، وفي ذلك الأمر ثمة فائدة له وللمجتمع من تحصيله المعرفي الذي يغير سلوكه نحو الأفضل، ولكن حتى هذه الزاوية لا يمكننا الجزم فيها باعتبار أن هناك أناس ولعشرات السنين لا يقرؤون غير كتابًا واحدًا ألا وهو كتابهم الديني المقدس. ولكنك حين الاصطدام مع واحدهم، أو حين الجدال والمشاحنة، ستكتشف بأنه لم يتشرب شيئًا مما قرأ، وأن قراءته لم تفده ولا فادت غيره باعتباره كان نوعًا من التقليد أو العادة اليومية أو الطقس.

خسر البعض ذواتهم عندما قرؤوا ما لا يقدرون على هضمه فكريًا، وصار معهم استعصاء في المخ كعسر الأطعمة لدى غيرهم في الأمعاء

لذا فإن لم تكن ثمة مناسبة لا ينبغي الكلام عن شيء، أي شيء كان، كما أنه من غير المعقول أن نتكلم عن الطعام في جلسة جدية تتعلق بإيجاد حل للمشكلة قبل تفاقمها وبالتالي تعميم ضررها، كذلك الأمر لا ينبغي التدرج في الكلام عما عرفناه من الكتب في كل جلسة من جلساتنا، وإلاّ لغدا كلامنا مملًا وشبيهًا بكلام الراعي الذي لا يتكلم ليل نهار إلاَّ عن النعاج والمعيز ومشكلاتهم اليومية، والصعوبات التي يصادفها في السفوح والوديان والبراري.

كما أن الكتب بالآلافات، ومثلها مثل المقويات والمكملات الغذائية، أو حال الأدوية الموجودة في الصيدليات. فليس من المعقول أن تتناول كل الأدوية معًا، وليس من المنطقي أن يعطيك الصيدلي على هواه، ولا أن تأخذ منه كيفما شئت، إنما أنت بحاجة إلى وصفة لحالتك، وبحاجة لدليل يرشدك ويدلك على ما ينفعك، وإلاَّ فإنك قد تخاطر بحياتك إن تناولت أي شيء لا على التعيين، كما أن بعضهم خسروا ذواتهم عندما قرؤوا ما لا يقدرون على هضمه فكريًا، وصار معهم استعصاء في المخ كعسر الأطعمة لدى غيرهم في الأمعاء.

وحيال تشوقنا لقراءة كتب معينة في أوقاتٍ ما ومن ثم فتورنا منها، ففيها أيضًا ما يشبه الطعام. إذ كما أن واحدنا عندما يتناول طبخة معينة عند صديق أو قريب أو مطعم وأعجبته تلك الطبخة وقتها، وفكّر جديًا بأن يأتي بموادها ويطبخها في المنزل، وفعلًا قام مع الوقت باستحضار موادها ووضعها بين مواد المونة في البراد أو خزانة المطبخ، ولكن بسبب تغيير برامج العائلة أو بسبب حدوث طارئ ما على أهل البيت وانشغال الأهل بالأمر الطارئ، ومع تتالي الأيام تراهم قد نسوا تمامًا طعم تلك الطبخة التي كانوا يودون تحضيرها في المنزل، بل ويهملون لبعض الوقت حتى موادها التي جلبوها من السوق. ومع مضي الأسابيع والشهور ربما يكونوا قد فقدوا حتى رغبة استحضار الطبخة برمتها. وهذا الأمر يحصل مرات مع بعض الكتب التي يُروَّج لها في وسائل الإعلام، أو التي يصادف أن نسمع بها في نفس المدة الزمنية من أكثر من ناقد أو قارئ نثق بذائقته. وبناءً على "البروباغندا"، نقتني الكتاب ونضعه في الخزانة أو على الطاولة إلى حين وصول دور القراءة إليه، ولكننا مع تزاحم عقلنا بعشرات العناوين والمواضيع غيره تبرد همتنا تجاه ذلك الكتاب، وقد لا نعود نتذكره أو نرغب بقراءته إلاَّ بعد مضي شهور من تاريخ اقتنائنا له، بل وثمة كتب قد لا نعود نرغب بقراءتها أصلًا بعد أن نكون قد فقدنا مع الزمن الحافز أو الدافع لقراءته.

ويمكننا أن نشبه الكتاب بالملابس أيضًا فيما يخص حاجة الإنسان إليها شريطة ألا تتجاوز حدود التعامل معها حد الحاجة، فالهندام ضروري لستر الجسد وحمايته من الحر والبرد إضافة إلى دوره الشكلي وإضفائه نوعًا من الجمالية على هيئة مرتديه، وخاصة إذا كان الفرد يجيد التعامل مع الألوان التي تناسب جسمه وبشرته. كذلك الأمر فالكتب تساعد على حقن المرء بالقيم الجيدة التي تجنبه الخطأ والزلل في دروب الحياة، وتحميه من الوقوع في مطبات الدنيا، وتنقذه من المواقف المحرجة، لذا على القارئ أن يعرف ما يناسبه من الكتب، وماهي حاجته بالضبط، وما الذي يفيده ويحدث التغيير المحمود والمرتجى فيه.

وبخصوص العلاقة بين الكتاب والملابس، فإن بعضنا ربما أغرته الإعلانات المخصصة بألبسة معينة. وبناءً على إغراءات الإعلانات التلفزيونية، يشتري تلك الملابس. لكنه، بعد تجريبها على أرض الواقع، سرعان ما يرى بأنها لا تناسب جسده، ويندم على شرائها أو على أقل تقدير يهملها ويتركها مركونة في الخزن.

لا ينبغي للفرد أن يتباهى بكمية كتبه/ أوانيه المعرفية، كما لا ينبغي الافتخار قطُ بعدد الكتب التي اشتراها أو قرأها

والكتاب أحيانًا يخضع لنفس تلك الشروط، إذ إن بعض الكتّاب المشهورين ترى من يروج لهم في وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي، ووفق تأثرنا بالمشوقات الإعلانية، قد يسارع واحدنا إلى اقتناء ذلك الكتاب. إلاَّ أنه بعد فتحه وتصفح فهرسه أو تقليب صفحاتٍ منه، تبتر همته ولا يعود لديه أي شغف أو رغبة بقراءته، وعندها يحشره بين باقي الكتب ولا يضعه على الطاولة القريبة منه لقراءته في أقرب فرصة، ما يعني بأن حاله حال صاحب الملابس، اشترى من وراء تأثير الإعلان عليه، وليس لأن ثمة حاجة ماسة لديه تدفعه لقراءته.

وكما أن الملابس إذا ما دخلنا المجمّعات بآلاف الألوان والموديلات والمقاسات والأشكال، وما على المرء من بين كل تلك النماذج التي أمامه إلا اختيار ما يناسب ذوقه وحاجته وإمكانياته، كذلك الأمر نفسه مع الأوعية المعرفية. فالكتب بالآلاف من العناوين الشيقة والمهمة، ولكن ليس على القارئ إلا اختيار ما يحتاج إليه ويناسب مزاجه وحاجته وطبيعته.

ويبقى المريض في المثالين هو أن يكون الواحد منهم مهووسًا بالشراء، كأن يشتري عشرات الأطقم من الماركات العالمية وعشرات القمصان والبناطلين بينما هو عمليًا لا يستعمل إلاّ القليل منها. كذلك الأمر هناك من لديه هوس شراء الكتب، فقد ترى من يشتري مئات الكتب أو يوصي على مكتبة بحالها ولكن لا يقرأها، إنما يكتفي بالفرجة عليها واستخدامها كنوع من أنواع الاكسسوار في المنزل، والنموذجين غير صحيين لأنهما يهدران الأموال فيما لا يستفيدون منه.

وصحيح أنه لا حصر لفوائد القراءة كتلك التي أوردها دانيال باناك في كتابه الآنف الذكر، ولكن مع ذلك بودي أن أقول للماكث على أريكة الخمول والكسل ويدعو أولاده صبح مساء ليكون واحدهم في مقدمة الماراتون الرياضي، والحريص على أن يكون الكتاب هو المنهل الأول والأهم لدى أطفاله، ينما عمليًا لا تحتل القراءة ولو نسبة واحد بالمئة من زمنه اليومي، بألا تأمر أولادك بالقراءة ليل نهار، وألا تكرر جملك أمامهم عن أهمية القراءة ودورها التكتيكي والاستراتيجي وأنت نفسك لم يروا يومًا كتابًا في يدك ورأسك مطمور في  تلفونك، فحالك وقتها مثل حال من يتكلم ليل نهار عن التضحية والعطاء بينما حياته برمتها مصنوعة من سبائك الأنانية والنرجسية. لذا، فبكونك مدخن غليظ، فلا تتوقع أبد بأن ينتبه أحدهم لأهمية نصيحتك بخصوص مضار التدخين، فلا تأمرهم ولا تصدع رؤوسهم بكثرة دعواتك المتعلقة بالقراءة، إنما بدلًا من ذلك كن خلاقًا وجِد طريقة خاصة بك وبطبيعة أولادك عن كيفية زرع رغبة القراءة فيهم من دون النقر المتواصل لدعواتك التي تنفّر وتجفل وتبُعد، بدلًا من أن تُحبب وتُقرب الشخص من المكان الذي تريده فيه أو الحالة التي تريده فيها.

وفي الختام، لا يسعني إلا القول إن الكتاب في نهاية المطاف هو وعاء معرفي يمد العقل بما ينير زواياه المظلمة ويقوي الذاكرة وينشط الذهن ويوسع المدارك، وهو شبيه بقدور الطعام التي تمد البدن بالقوة والصحة والنشاط. وكما لا يستحسن الافتخار بعدد القدور والصحون والأواني الخاصة بالطعام التي يمتلكها أهل منزل ما، ولا بعدد المرات التي طبخوا فيها وتناولوا محتوياتها الغذائية، كذلك الأمر لا ينبغي للفرد أن يتباهى بكمية كتبه/ أوانيه المعرفية، كما لا ينبغي الافتخار قطُ بعدد الكتب التي اشتراها أو قرأها، باعتبار أنها تخصه هو وحده مثل الطعام والشراب بالضبط.