10-نوفمبر-2021

(Getty Images)

افتتح الشيف التركي "نصرت غوكشه" المعروف بلقب "سولت باي" مطعمه الرابع عشر الذي يقدم فيه، من بين أصناف عديدة، شرائح اللحم المطلية بالذهب، لكن هذه المرة في لندن، بعد تأخر عامين عن موعد الافتتاح المقرر.

وكما هي العادة لم تخرج عناوين الصحف كثيراً عن المتوقع، فالرجل في النهاية "ميم إنترنت" يمشي على الأرض. فقصصه وأخباره تمثل طعمًا جذابًا لكتاب الأعمدة الصحفية المحليين المهتمين بالمطاعم، لكن هل توقع أحد أن يرد ذكره في أكثر من 774 عنوانًا صحفيًا مختلفًا حول العالم؟ هذا رقم يوحي بأن صاحبنا قد وصل إلى مستوى آخر من الشهرة. 

الذهب القابل للأكل الذي يطلي به الشيف نصرت شرائح اللحم، هو على جميع المستويات عديم الطعم والفائدة، لكنه في الوقت نفسه بمثابة مرآة يرى فيها البعض أنفسهم 

وفقًا لتحقيق أجراه موقع The Outline فإن العمر الافتراضي الأقصى لأي ميم على الإنترنت لا يتجاوز عدة شهور، لكن الشيف نصرت (سولت باي) كسر هذه القاعدة، ليس لأن شهرته أقل سطحية وهشاشة بل لأنه تحول إلى تجربة طعام كاملة بمعايير عصر السوشال ميديا، وهي التجربة التي تستحق النشر على السوشال ميديا بامتياز.

"ميم" يمشي على الأرض؟

في الأسبوع الفائت وحده كتبت عن الشيف "نصرت" أكثر من 149 مقالة على الإنترنت. وللمفارقة الطريفة، كان هذا هو نفس الأسبوع الذي أعلنت فيه ماكدونالدز طرح أول شريحة برغر نباتي في المملكة المتحدة، وهي خطوة لم تلق، نسبيًا، أي اهتمام يذكر، إلا فيما يقارب 48 مقالة فقط. في المقابل حملت المقالات عناوين عديدة ومتنوعة مثل "صورة قديمة قبل الشهرة، سولت باي بالكاد يمكن التعرف عليه" و"الأمر ليس خدعة: سولت باي يطعم الحمام في الحديقة". بل ووصل الأمر إلى أن خصصت له مجلة "ذا صان" البريطانية وسمًا خاصًا على موقعها وصفحة كاملة لمتابعة جديده.

حين افتتح الشيف نصرت مطعمه الأول في ميامي الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2017 جذب ذلك اهتمامًا هائلًا في الصحافة المحلية والعالمية، وحين افتتح مطعمه في نيويورك بعدها بعدة أشهر، كان رد الفعل والاهتمام الإعلامي غير مسبوق على الإطلاق فيما يتعلق بتغطية أخبار المطاعم. لكن بحلول الوقت الذي تحدث فيه لوك إيفانز عن تجربته في المطعم في برنامج ذا ليت شو مع جيمس كوردن، كان الاهتمام قد تلاشى إلى درجة أن مقطع الفيديو هذا لم يتجاوز الربع مليون مشاهدة. ما الذي يميز مطعم لندن إذن؟ لماذا أعاد تسليط الاهتمام على نصرت؟ ما الذي يفعله هذا الشيف ليجعل من نفسه مصدرًا فريدًا وكاسحًا لمحتوى الإنترنت.

هل السر في شرائح اللحم المذهبة؟

الذهب القابل للأكل الذي يطلي به الشيف نصرت (سولت باي) شرائح اللحم، هو على جميع المستويات عديم الطعم والفائدة، لكنه في الوقت نفسه بمثابة مرآة يرى فيها المرء نفسه. في المجتمعات الحديثة، لا شيء أكثر تجذرًا من الطبقية والرغبة بالتمايز والترقي الاجتماعي، وشريحة اللحم المطلية بالذهب هي ربما في نظر البعض حد فاصل، يفصل بين طبقة اجتماعية وأخرى. في 26 أيلول/سبتمبر نشر أحد الأشخاص فاتورة تظهر أن شخصًا آخر أنفق 2400 دولار في المطعم، انقلب تويتر رأسًا على عقب وحازت تلك التغريدة على أكثر من 25 ألف إعجاب. ومنذ ذلك الوقت نشرت كثير من فواتير مطعم الشيف نصرت حاملة أرقام مختلفة شغلت عناوين الأخبار. وصلت إحداها إلى 49 ألف دولار، ولا يبدو أن التنافس التمايزي الشهواني على قيم فواتير المطاعم سينتهي قريبًا.

لكن الأمر برمّته وصفة رابحة لجذب القراء والمشاهدين على الإنترنت، بما يضمن استمرار عمل سلسلة المطاعم التي يملكها الرجل. فالشيف نصرت لا يقدم محتواه للصحفيين والمؤثرين وحدهم، بل يقوم نموذج عمله بأكمله تقريبًا الآن وبشكل أساسي على تقديم محتوى "قابل للنشر" لزبائنه الذين يرتادون مطعمه بحثًا عن هذه اللحظة، لحظة التصوير والنشر على السوشال ميديا. ففي حال قررت مثلًا تناول الطعام في مطعمه وطلبت وجبتك، فإنها ستقدم إليك مصحوبة بالرجل نفسه الذي يرش الملح على شريحة اللحم بطريقته الدرامية العجيبة، وقد يقوم حتى بوضع شريحة اللحم في فمك بنفسه. هكذا تكون رسميًا قد أكلت في مطعم "نصرت". أما لو أكلت طعامك هناك دون أن يحصل هذا اللقاء، أو لو حصل هذا اللقاء ولم تصوّره وتنشره على السوشال ميديا، فربما يصعب القول بأنك قد تناولت اللحم فعلًا في مطعم "نصرت". 

والشيف نصرت بطبيعة الحال مستعد دائمًا وأبدًا لتقديم استعراضاته أمام كاميرات الزبائن، وغير الزبائن. وتأكد ذلك ماكيز أرغانديوال، وهي متطوعة تعمل في مجال إعادة توطين اللاجئين وتبلغ من العمر 24 عامًا، وزارت مطعمه في اسطنبول وسكنت نفس الفندق الذي نزل فيه وقاطعت جلسة تمريناته الرياضية لتلتقط له مقطع فيديو. تقول "إنه سعيد جدًا بما يحدث ويمتاز بالصبر والتفهم لحاجة الناس إلى محتوى وسائل التواصل الاجتماعي". مكيز نفسها حصدت أكثر من 37 ألف متابع على حسابها على تيك توك، بفضل 31 مقطع فيديو نشرته على حسابها، سبعة منها ي ظهر فيها الشيف نصرت. وأكثر مقاطعها شهرة والذي وصلت مشاهداته إلى 13 مليون مشاهدة تصوره وهو يقطع شريحة اللحم المطلية بالذهب، بينما لم تجذب مقاطع الفيديو الأخرى التي لا تصوره سوى ما يقارب 600 مشاهدة فقط.

 

 

لقد بنى الشيف نصرت إمبراطوريته ووسائل التواصل الاجتماعي لا تغيب عن تفكيره وإستراتيجيته. ومن الطبيعي إذن أن تكون الخطوة التالية للمطاعم التي صمم ديكورها الداخلي خصيصاً لوسائل التواصل الاجتماعي أن تجعل قوائم طعامها متاحة فقط باستخدام رمز تعريف عبر الهاتف المحمول أو الآيباد. يدين الشيف نصرت الذي جمع حسابه على انستغرام أكثر من 39 مليون متابع بشهرته إلى الإنترنت. هذا رجل يصور ويشارك كل عنوان خبر نشر عنه على قصص الانستغرام الخاصة به حتى تلك التي تنتقد الرواتب القليلة التي يدفعها لموظفيه، فنصرت يعرف أن كل زخم إعلامي حوله، مدحًا كان أو ذمًا، هو أمر مدر للربح وضامن للمزيد من النموّ.

غادر نصرت لندن في 7 تشرين الثاني/نوفمبر ليفتتح مطمعًا آخر في الرياض في المملكة العربية السعودية. بترحاله عبر العالم ومحاولة جذب الصحفيين والزوار المحليين تستمر ماكينة ميم الإنترنت بحصد الأرباح والمشاهدات والمتابعين. أولئك الذين يتناولون عشاءهم في مطاعم الشيف نصرت حول العالم يستمرون في التقاط مقاطع الفيديو والصور التي لا تنتهي لينشروها على منصات التواصل الاجتماعي والصحف المحلية ومواقع الانترنت، ليقولوا شيئًا ما عن أنفسهم بهذا السلوك.

يدرك الشيف نصرت أن كل زخم إعلامي حوله، مدحًا كان أو ذمًا، هو أمر مدر للربح وضامن للمزيد من النموّ

وأولئك الذين يسخرون من مقاطع الفيديو هذه وينتقدونها إنما يعبرون بالأساس عن واقعهم. هذه المعركة المحتدمة بين نخبة "الشيف نصرت" وفقراء الطبقات الأدنى هي في واقعها صورة كرتونية أنيقة لصراع طبقي أعمق يحدد فيه كل شخص موقعه من الآخرين الذي يرى نفسه متباينًا عنهم. فهي حرب ثقافية خالية من اللغو الاصطلاحي، يعاد فيها تدوير نقاش وحجج تكررت لمئات الأعوام، حتى اختزلت أخيرًا في "الشيف نصرت" وشرائحه اللحمية المطلية بالذهب. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سلمى حايك: نجوت من التحرّش الجنسي بقوّتي وعلاقاتي في هوليوود

وفاة مبتكر حلوى "التيراميسو" عن 93 عامًا في إيطاليا