23-يونيو-2022
لوحة لـ فيكتور براونر/ رومانيا

1

اخترعنا نحن والحيوان بيوتًا. ابتكر كلانا لها الأبواب.

عشنا في الكهف والخيمة والكوخ حتى وصلنا إلى البيت، وكانت كلها تمتلك بابًا. وعاش الحيوان في الكهف والجُحر والعش، وكلها تمتلك أبوابًا أيضًا، باستثناء العش الذي غالبًا ما بدا بيتًا وبابًا في الوقت نفسه.

ما أعظم الدهشة في تلك العيون البرّاقة للكائنات الحية، من الفأر إلى القرد، وحتى الصقر والنمر. الضعيف والقوي، الكبير والصغير، اللاحم والعاشب.. كلهم يحملون في عيونهم سرًّا

فيما بعد تفوّقنا على أخينا الحيوان حين اخترعنا النوافذ. جاءت الفكرة من رغبتنا بإدخال الضوء إلى المنازل، ثم رحنا، مع كل خطوة نقطعها في طريق التحضّر، نرى إلى تلك النوافذ صلة وصل مع العالم أكثر من الأبواب.

قسّمنا الحياة إلى نوعين: داخل وخارج بينهما باب. وصرنا نرسّخ طريقتنا الجديدة التي بدا الحيوان غير مهتم بها؛ داخل يمكنه النظر إلى الخارج، واستجرار الضوء منه، وخارج نريد حدودًا بيننا وبينه على شكل جدران تحمل نوافذَ.

والآن ندرك أنه كلما ابتعدنا عن الحياة البرية ازدادت نوافذنا.

2

أقوى صور التشابه بين حياة الإنسان والحيوان نراها في حياة القبائل التي تسعى وراء الماء والمرعى، فهنا تختفي الفروق بين قطعان الحيوانات وأسراب الطيور والبشر، حتى كأن الإنسان ليس أكثر من حيوان يتكلم.

من تلك الخيام، من تلك الرحلات، يجب أن نفهم بقية الكائنات.

3

ما أعظم الدهشة في تلك العيون البرّاقة للكائنات الحية، من الفأر إلى القرد، وحتى الصقر والنمر. الضعيف والقوي، الكبير والصغير، اللاحم والعاشب.. كلهم يحملون في عيونهم سرًّا لا يمكن ترجمته في صيغة أفضل من أن الحياة هي هذه الدهشة الأبدية في عيون كائناتها.

4

في وثائقي من إنتاج نتفليكس، يقع رجل من جنوب أفريقيا مصاب باحتراق وظيفي (Burnout) في حبّ أخطبوط. وخلال سنة كاملة من التواصل بينهما، والتي هي حرفيًا العمر الكامل لهذا الأخطبوط، اكتشف الرجل المريض أنه أصيب بالمرض كونه معزولًا عن العالم. فالأخطبوط، كما أي حيوان سواه، لا يمكن له أن يصاب باحتراق وظيفي أبدًا.

تلك العلاقة العجيبة علّمت الرجل اليائس الدرس الذي نحتاج أن نتعلّمه كلّ يوم، بل كل ساعة، وهو أن قيمة الحياة كامنة في كل كائن، لهذا لا ينبغي علينا القبول بفصلنا عن العالم، كي لا يبقى الواحد منا إنسانًا وحسب، بل ليكون أخطبوطًا أو طائرًا أو غصنًا.. أو سواها، حتى النهاية.

يرى الرسامون والسينمائيون والمهندسون الحياة صورًا ومجسّمات، ومن المستحيل أن نحكي دون عين

 

5

بأية لغة يتحدّث هذا العالم؟

بالنسبة للنحاة وعلماء اللغات هو يستعمل الكلمات، مرةً حين يضع على شفاهنا تسميات الأشياء من حولنا، وأخرى حين يُرغمها على ابتكار أسماء لمَا لمّا يُسمَّ بعد.

لكنَّ أهل الرياضيات يرفضون هذا المذهب، فالعالم عندهم يستعمل الأرقام بدلًا من الأبجديات، والحسابات بدلًا من الجمل، وفي آخر المطاف لن يفهم الطبيعة والحياة، بل واللغة نفسها، إلا المتمكنون من الخوض في المنطق المجرّد.

في حين يرى الرسامون والسينمائيون والمهندسون الحياة صورًا ومجسّمات، ومن المستحيل أن نحكي دون عين.

أما الحيوان فصامت لا يُفصح، لا شكّ أن له أفكاره ومنطقه وكلماته وصوته وعيونه، غير أن الأكيد بالنسبة له أنه العالم، لأنه لم يحدث له أبدًا أن شعر بأنه بعيد عنه، أو أن بينهما مسافةً. لهذا هو، في كلِّه أو بعضه، كلمة في فم الطبيعة، إلا أننا لا نجيد القراءة.