20-مايو-2022
لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

في عام 1983 كنت في منزل الحبيب الراحل محمود درويش في باريس عندما وصله ديوانه الأوّل المترجم إلى اللغة الفرنسيّة الصّادر عن دار مينوي (minuit)، والّذي يحملُ توقيع قصيدة معروفة له "سنة أخرى فقط".

تزداد أهمية وحضور الترجمة الشعرية كل يوم بعد عصر العولمة والإنترنت، الذي يتدرب حاليًا على إعداد ترجمة ميكانيكية فورية ستأتي علينا بوابل من الكوارث

 كان درويش يومذاك حديث العهد بفرنسا وباللغة الفرنسيّة، إذ لم تمض إلا بضعة شهور على إقامته في باريس. وذلك بعد احتلال الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982 وخروج الفلسطينيين الّذين توزّعوا بين تونس وعدن. أما هو فقد اختار باريس.

المهم وضع درويش بين يديّ الديوان المترجم إلى الفرنسيّة وبعد أن فتحته بشكل سريع ودون تعيين نصّ بذاته وقع بصري على أبيات أثارت فضولي واستغرابي وهجنتي.

قرأتها؛ أعدت قراءتها، لاحظ درويش استغرابي وبادرني قائلًا: "ايش شو في!". بلكنتها الدارجة تلك. قلت له هذه أبيات غريبة لست متأكدًا أنك كتبتها؛ سأعيدها إلى اللغة العربية كمعنى لا كصياغة ربّما ستجد أنت الصّيغة الأصليّة التي كتبتها فيها.

 الأبيات كانت تقول بما معناه: "امرأة تدخل إلى سنواتها الأربعين تحمل معها سلة من المشمش". ما أن أكملت النطق بهذه الكلمات وإذا به يأخذ الديوان من يدي ويرميه على الكنبة بغضب. قلت له ماذا حصل؟ اقرأ لي البيت الأصلي، فقال لي بعد أن حاول أن يهدئ من روعه: "وسيدة تدخل الأربعين بكامل مشمشها".

مرّت بيننا لحظات صمت كانت تقول الكثير. عندها بادرته بالسؤال، ألا تعتقد أن ترجمة الشعر هي أصعب أشكال الترجمة؟ ثم كيف نقول "المشمشة" هذه في لغة أخرى يختلف فيها اسم الفاكهة هذه كليًا حيث أن اسمها بالفرنسية "abricot"، "آبريكو" هكذا تنطق. وبين المشمشة والآبريكو بحور وجبال وسماوات. ضحك وقال لي: "طبعًا ولكن أنت تعرف أن المشمش فاكهة سريعة الزوال إذ لا يدوم فصلها أكثر من بضعة أسابيع"، المقصود إذًا بقوله: "تدخل الأربعين بكامل مشمشها" أنها تعيش فترة سريعة من النُضج والجمال وستذوي بسرعة بعد ذلك.

قلت له صدقت يمكن إعادة ترجمة البيت بهذا المعنى ولكن من أين آتيك بالمشمشة؟ ضحكنا كطفلين وما زلنا..

هذه الحادثة كبيرة الدلالة وتلقي الضوء على خصوصية الترجمة الشعرية، التي -كما أعتقد - غمار أزلي لا بد من خوضه وهو يزداد أهمية وحضورًا كل يوم بعد عصر العولمة والإنترنت، الذي يتدرب حاليًا على إعداد ترجمة ميكانيكية فورية ستأتي علينا بوابل من الكوارث.

 حادثة أخرى لتضيء جانبًا مهمًا من الترجمة الشعرية عشتها أنا شخصيًا حين ترجمت دیوان "مفرد بصيغة الجمع" لأدونيس الى الفرنسية، وكان يشاركني الترجمة الشاعر الفرنسي الراحل سيرج سوترو (Serge Sautreau). وقد بدأ التساؤل من العنوان؛ العنوان كما يبدو ظاهريًا سهل الترجمة لأنّ جميع مفرداته موجودة في اللغة الفرنسية: مفرد (singulier)، صيغة (forme)، الجمع (pluriel).

النصوص العظيمة دائمًا تجد طريقها إلى لغات غريبة مهما كانت مختلفة عن اللغة الأصلية. إن جذر الشعر واحد في كل اللغات، لكن علينا أن نعثر عليه ونعرف كيف ننقله إلى اللغة الجديدة

 بدا الأمر سهلًا لكن زميلي الشاعر الفرنسي فاجأني بالقول هذه عبارة فرنسية الكلمات والقواعد، ولكنّها غير مقبولة في المعنى. قلت له كيف؟ قال ما المقصود بصيغ الجمع؟ قلت عندنا في العربية صيغ الجموع عديدة: جمع المذكر والمؤنث والتكسير.. إلخ. عندها ابتسم وقال: يا صديقي هذا في العربية. أما في الفرنسية فلا توجد إلا صيغة واحدة وهي أن نضع (s) في آخر الكلمة، أو (x) عندما يكون آخرها حرف علة ولا يتغير شكل الكلمة عندما تصبح جمعًا من هنا، فإنك إن ترجمت حرفيًا هذا العنوان ستنقله إلى كلمات فرنسية لا إلى منطق اللغة.

وهنا صارت ترجمة العنوان بأن وضعنا (s) في آخر كلمة مفرد بالفرنسية "singuliers"، فصارت الكلمة وحدها "مفرد بصيغة الجمع"، ونجحت الترجمة لأنها قدمت تعبيرًا جديدًا في الفرنسية وهو المفرد/ الجمع. كلمة واحدة احتوت كل المعنى المراد. حظيت هذه الترجمة بالكثير من الأصداء الايجابية بحيث نشرتها دار غالیمار، أهم دار نشر فرنسية، وعندما نشر المستشرق الفرنسي الكبير الراحل جاك بيرك (Jacques Berque) ترجمة لنفس الديوان بالفرنسية اختار العنوان نفسه، إلا أنّه -وللأسف- لم يشر إلى المصدر.

في الواقع، أردت وعبر هاتين التجربتين في الترجمة الشعرية الإشارة إلى شدة التعقيد والصعوبة في عملية النقل الشعري إلى لغة أخرى، علمًا بأن النصوص العظيمة دائمًا تجد طريقها إلى لغات غريبة مهما كانت مختلفة عن اللغة الأصلية. إن جذر الشعر واحد في كل اللغات، لكن علينا أن نعثر عليه ونعرف كيف ننقله إلى اللغة الجديدة. مثلًا أن نتعلم في الترجمة إلى الفرنسية كيف ننقل جبل قاسيون إلى جبال البيرنيس والعكس. قد تكون هذه هي المغامرة وذلك هو التحدّي من يعلم؟