09-يناير-2022

كاريكاتير لـ حسن بلبيل/ لبنان

الديمقراطية هي ملجأ المواطنين الأفراد، وبعضهم يقول جنتهم. ماذا لو لم يعد تعريفنا بالمواطنة كافيًا؟ أين، والحال هذه، يمكن أن يكون ملجأنا؟

الأرجح أن هذه التعريفات ما زالت مركبة ومعقدة. فما زالت المواطنة مراتب. أن تكون مواطنًا أمريكيًا لهو أمر يختلف عن أن تكون مواطنًا صربيًا أو ليتوانيًا. وإذا كنت مواطنًا أمريكيًا ومستهلكًا ومستخدمًا ومؤثرًا في الوقت نفسه، فهذا يعني أنك أرفع كعبًا من المواطن الأمريكي الصرف.

هذه الأوطان تفرض علينا أن نكون أولياء أمورها لكي ننتمي إليها. تريدنا أن نطعمها ونكسوها، لأنها بمعنى من المعاني، أوطان ناقصة

وعليه، واستنادًا على معاينات لا تحصى، فإن المواطنة، بوصفها انتماء فرد لوطن، ونيله حقوقه فيه وقيامه بواجباته تجاهه، لم تعد مسألة عصبية. لنقل إن ثمة هويات مواطنية مركبة. لن يكون الأمريكي الذي يتحصل على جنسية صومالية يشبه في علاقته بالوطن الأم، الذي هو أمريكا، ما ستكون عليه علاقة مواطن صومالي حصل على الجنسية الأمريكية بوطنه الأم الذي هو الصومال. في كلا الحالين، يبدو المواطنان يعطفان على البلد الأضعف والأصغر، في الوقت الذي يشعران بعلو كعبيهما بسبب انتمائهما للوطن الأقوى والأغنى. والحال، أنا لبناني لا يمنحني لبنان حقوقًا، لكنه يفرض علي واجبات، بعضها، أو جلها، ليس مفروضًا بقوة القانون. كأن أتظاهر في واشنطن تضامنًا مع المتظاهرين في بيروت، أو أرسل حقيبة ملأى بالأدوية لمن يحتاج من اللبنانيين. ولا يحدث أن أفعل العكس.

اقرأ/ي أيضًا: العالم المضاء الذي لا يريد استغلالنا

ألا تطرح هذه المفارقات أسئلة عن المواطنة وأنظمة الحكم، تستعصي على الإجابة؟ أنا لبناني بمقدار ما أكون قادرًا على المساعدة، لكنني حين أحشر في الموقع الآخر، أبذل قصارى جهدي لأن أصبح أمريكيًا.

هذه المعادلة هي على الأرجح التفسير المبسط للمعادلات التي تحاول أن تبدو معقدة في الفكر السياسي الذي يحكم القوى والأحزاب السياسية في بلد كلبنان. بلد يكاد يكون إنجازه الوحيد الذي يفخر أهله وساسته به، أنه هجّر شعوبًا لبنانية تفوق بأضعاف من بقوا في الوطن الأصلي. هذا ليس شأنًا مختصًا بلبنان طبعًا، فالسوريون والعراقيون والأرمن والأثيوبيون والسودانيون يخوضون البحار الشاسعة من دون عدة، ويواجهون الموت مرات لا تحصى ليتمكنوا من العبور إلى أوروبا القريبة على مرمى بحر واحد. كما لو أن العيش في أوطانهم الأصلية أصعب من الموت.

قصارى القول إن هذه الأوطان تفرض علينا أن نكون أولياء أمورها لكي ننتمي إليها. تريدنا أن نطعمها ونكسوها، لأنها بمعنى من المعاني، أوطان ناقصة. وتاليًا فإن الحديث عن المواطنة التامة والكاملة أصعب من أن نجد له تفسيرًا مقنعًا.

المواطنة المجردة في البلاد المتقدمة لم تعد امتيازًا. أي أن المرء في بلد متقدم لا يكون محميًا بجنسيته، بل يحتاج في كل وقت لأن يكتسب صفات أخرى

مع ذلك يجدر بي أن أفكر مليًا بمعنى المواطنة. لأن المواطنة المجردة في البلاد المتقدمة لم تعد امتيازًا. أي أن المرء في بلد متقدم لا يكون محميًا بجنسيته، بل يحتاج في كل وقت لأن يكتسب صفات أخرى. من دون هذه الصفات يصبح جل همه أن يعتني بوطن من الدرجة الثانية الذي هو وطنه الأصلي. ومعنى هذا الحكم أن اللبناني في لبنان لا يصير مواطنًا مهما اجتهد، قصاراه أن يكون لاجئًا محظوظًا. وما إن يحوز جنسية دولة متقدمة، حتى يصبح بإمكانه أن يصير مواطنًا في بلده الأم. لكن حيازة هذه الجنسية لا تخوله أن يصبح مواطنًا تامًا في البلد الجديد.

اقرأ/ي أيضًا: الهويات الآفلة والعصبيات الناهضة

هذه الورطة التي يجد المهاجرون أنفسهم في دوامتها هي التي تجعل البلاد المتقدمة مصنعًا لأولياء الأمور، وتمنع البلاد المتأخرة من بلوغ سن الرشد في الوقت نفسه. ولو شئنا التدقيق في الخطاب الاستقلالي المتعصب الذي يطلقه وطنيو تلك البلاد ويجهرون به، لبدا لنا الأمر كما لو أنه دعوة ملحاحة لمنع المواطنين (المهاجرين) من الاهتمام بالشأن العام وقصر الاهتمام به على عصبة الأهل ورابطة العائلة أو الطائفة أو العرق. في الوقت الذي تحض المواطنين السابقين المطرودين من تلك البلاد على الاكتفاء بالمواطنة الصرف في بلادهم التي لجأوا إليها وتجنب السعي لاكتساب صفات أخرى تجعل من مواطنتهم في تلك البلاد غير منتقصة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التاريخ بتنورة قصيرة

قدر الأغراب