04-مايو-2022
الفنان اللبناني مارسيل خليفة (ألترا صوت)

الفنان اللبناني مارسيل خليفة (ألترا صوت)

هذه المساحة مخصصة، كل أربعاء، لأرشيف الثقافة والفن، لكل ما جرى في أزمنة سابقة من معارك أدبية وفنية وفكرية، ولكل ما دار من سجالات وأسئلة في مختلف المجالات، ولكل ما مثّل صدوره حدثًا سواء في الكتب أو المجلات أو الصحف، لكل ذلك كي نقول إن زمن الفن والفكر والأدب زمن واحد، مستمر دون انقطاع.


في الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1996، ادعى النائب العام الاستئنافي في بيروت، القاضي عبد الله بيطار، على الفنان والموسيقي اللبناني مارسيل خليفة، بتهمة "تحقير الشعائر الدينية" عبر تلحينه وغنائه لآية من سورة يوسف في أغنيته "أنا يوسف يا أبي"، التي وردت في شريط كاسيت صدر عام 1995 بعنوان "ركوة عرب"، وهي في الأصل قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، لحّنها خليفة وقام بغنائها تضامنًا مع قضية الشعب الفلسطيني.

اتهم القضاء اللبناني مارسيل خليفة بـ تحقير الشعائر الدينية" بسبب تلحينه وغنائه لآية من سورة يوسف في أغنيته "أنا يوسف يا أبي"

أثارت الدعوى جدلًا واسعًا ورود فعل مختلفة في الأوساط الثقافية والسياسية والدينية في لبنان والعالم العربي، حيث اعتبرها عدد كبير من المثقفين والفنانين اللبنانيين والعرب محاولة لمصادرة حرية التعبير، وإنهاء هامش الحرية الذي يميز لبنان عن غيره من الدول العربية.

وفي الوقت الذي نفت فيه "دار الفتوى" في لبنان مسؤوليتها عن الدعوى، انقسم موقف رجال الدين والمؤسسات الدينية في لبنان بين مؤيد لخليفة، وآخر للدعوى القضائية التي رأى بعضهم أنها لا تمس حرية التعبير أو تصادرها، لأن الغاية منها هي صون مشاعر الناس وعقائدهم الدينية.

وتحت تأثير ردود الفعل وحملات التضامن التي قادها مثقفون وفنانون لبنانيون وعرب، إلى جانب عدد من المؤسسات الثقافية والحقوقية العربية والأجنبية، طلب رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، رفيق الحريري، من القضاء اللبناني وقف ملاحقة خليفة، لينهي بذلك ما اعتبره البعض سابقة خطيرة في تاريخ لبنان، ومحاولة للقضاء على هامش الحريات فيه.

لكن القضاء اللبناني أعاد تحريك القضية مجددًا بعد نحو ثلاث سنوات على إثارتها، حيث أصدر قاضي التحقيق الأول في بيروت آنذاك عبد الرحمن شهاب، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر عام 1995، قرارًا ظنيًا ضد مارسيل خليفة يقضي بسجنه من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات بالتهمة ذاتها، وهي تحقير الشعائر الدينية في أغنيته "أنا يوسف يا أبي".

استغرب الفنان اللبناني حينها إعادة تحريك القضية بعد إسقاط حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري لها، ونفى مجددًا أن تكون أغنيته مسيئة للشعائر الدينية، الأمر الذي شددت عليه أيضًا حملات التضامن والعرائض الموقعة في دول عربية وأجنبية مختلفة طالبت بوقف ملاحقته.

وبعد أيام قليلة من صدور القرار الظني، أصدرت "دار الفتوى" في لبنان بيانًا اعتبرت فيه أن إدخال آية أو آيات من القرآن الكريم في الغناء المعروف والشائع، بصرف النظر عن النيات والمقاصد، هو: "أمر محرم وغير جائز مطلقًا، لأن القرآن الكريم هو للتلاوة والتعبد والتفكير والتشريع لحياة الناس وتزكية نفوسهم، وأن المراجع الفقهية الشرعية حافلة بتحريم قراءته بالمعازف وعلى غير الوجه المعهود في التلاوة، وفقًا لقواعد علم التجويد في الشريعة".

وأوضح البيان: "إن المغني خليفة الذي أدخل آيات من القرآن الكريم في أغنية ليس قارئًا بحسب قواعد التجويد، بل مغن أدخلها في أغنية غناها بالمعازف كسائر الأغاني الشائعة على وجه يعتبره فقهاء الإسلام استخفافًا وتحقيرًا وتهاونًا غير لائق بكلام الله تعالى، وهو ليس من الاقتباس الجائز". في حين اعتبر مفتي الجمهورية اللبنانية آنذاك، محمد رشيد قباني، أن لا علاقة للتحريم بمصادرة الحريات العامة أو حقوق الإنسان أو المس بحرية التعبير.

اعتبرت "دار الفتوى" في تعليقها على قضية خليفة بأن إدخال آية من القرآن الكريم في الغناء المعروف أمر محرم وغير جائز مطلقًا

وأضاف قباني في تعليقه على قضية خليفة وبيان "الفتوى": "نحن مع حرية الفكر والرأي، وهي من أساسيات الإنسان، ومن ضوابطها عدم المس بمشاعر الناس وعقيدتهم الدينية، وإلا انقلب معناها إلى التعدي والإساءة من كل جانب". أما المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، فقد اعتبر في فتوى أصدرها رئيسه محمد مهدي شمس الدين، بأن حكم الشريعة الإسلامية يمنع بالمطلق تحويل النص القرآني إلى مادة مغناة وملحّنة. وهي فتوى متطابقة مع تلك التي أصدرها مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني.

انتهت قضية مارسيل خليفة، أواخر 1999، بتبرئة القضاء اللبناني له من تهمة "تحقير الشعائر الدينية"، لتطوى بذلك صفحة واحدة من أكثر القضايا إشكالية في لبنان والعالم العربي أواخر القرن الفائت.