31-أكتوبر-2015

فادي الحموي/ سوريا

بين صفحات المعاجم والقواميس الالكترونية، وجدت عجز المعربين عن إعطاء معنى لبعض المصطلحات والمفردات، الذي أذهب نبشي سدى عن معنى يليق بعنوان عربي فصيح لهذا النص. لهذا وجدتني أسجل العنوان بلغته الأم (الانكليزية طبعًا)، بدلًا من تعريب كسيح بلغة الضاد. عنوان النص بالعربية " تهيئة"، لذلك وتنويهًا لمحبي اللغة العربية والمشجعين على التعاطي الفصيح معها، عذرًا لهذا الخرق.

كنت على الدوام من المشجعين لعمليات الـ"format"، لا أقصد هنا تلك العمليات التي نجريها للكمبيوتر وأقراصه، والموبايلات، وكروت الذاكرة، لكني أعني عمليات الـ"format"، التي نجريها لذاكرة تنهش القلب، لحياة محشوة بألف فايروس، أو حتى لتلافيف دماغ منخور.

هذا الـ"format"، يشبه في علم الطب، عمليات استئصال مرض عضال. يُقتلعُ هذا الحيوان المائي القاتل، آخذًا بطريقه عضوًا أو بعض عضو.
 عملية الـ"format"، الأخيرة التي قمت بها، بمعناها المستخدم تكنولوجيا، لم تكن إلا استئصالًا طبيًا. مع أني قمت بها الكترونيًا فقط.
الضحية الأولى لانقطاع التيار الكهربائي المتكرر وضعفه، لم تكن إلا موبايلي. لم يقاوم ذلك الجهاز المسكين، الهبوط الفجائي لتيار من 220 أمبير، إلى 100 أمبير، أو تسعين أحيانًا. هكذا لفظ أنفاسه الأخيرة بضربة كهربائية صاعقة. لم يعد قادرًا على أداء أي شيء، لا مكالمة، لا رسالة، لا لمس ينفع معه، لا ضرب، ولا حتى قنبلة. 

الطريق إلى محل تصليح الموبايلات، طال كثيرًا، رغم قربه، فالهواجس الشريرة، لم تدع تفكيري يصمت. كيف سأشتري موبايلًا جديدًا في حال نعى لي المُصلّح هذا الموبايل؟ الدولار في ارتفاع دائم، والليرة بانخفاض مستمر. ونحن البين بين، كيف لنا العيش مع صعود جنائزي وهبوط مقدس. بنظرة سريعة قال طبيب الالكترونيات: بداية يجب أن نجري له عملية فورمات، وهي أقل الخسائر. إذا لم يعمل سنقوم بإجراء آخر. 
وافقت على عملية الفورمات فورًا. وبدأت بالدعاء له. فموبايلي صلتي الوحيدة للتواصل مع العالم الداخلي والخارجي.

قطع الرجل دعائي بصوت مُنبه، كل شيء على الموبايل سيمحى، صور، أسماء، أرقام، أغاني، مقاطع فيديو. إذا كنتِ بحاجة لأي معلومة اسحبيها قبل البدء بعملية التهيئة. سأفتحه لدقائق قليلة فقط. عليك استغلالها.
بحسبة صغيرة وجدتني لا أريد من الموبايل إلا الأرقام. أنهيت حيرتي بترك أرقام العائلة وزملاء العمل فتلك يمكن استعادتها بسهولة. ما احتاجه الآن أرقام الأصدقاء فقط. 
متحدية الزمن بدأت بتفقد الأرقام.
 الأول: إنه لصديق غادر الوطن. تركته ولحقت بالثاني فهناك أصدقاء يتكفل الفيسبوك بأرقامهم. 
الثاني: الثاني، أيضًا خارج البلاد.
الثالث: كذلك الأمر.
الرابع: اعتقل منذ سنتين ولا خبر عنه.
الخامس: مات.
السادس: خارج البلاد.
السابع: مات. 
الثامن: مات. 
التاسع: مخطوف من قبل المتطرفين الإسلاميين ولا أخبار عنه.
العاشر: بائع الغاز. سجلته سريعًا على ورقتي الصغيرة.
الحادي عشر: بائع الماء. سجلته أيضًا.
الثاني عشر: مات. 
الثالث عشر: مات.
الرابع عشر: معتقل.
الخامس عشر: مخطوف.
السادس عشر: غادر البلاد.
السابع عشر: مات.
الثامن عشر: بنزين سوق سوداء. سجلته سريعًا.
التاسع عشر: يقطن بمنطقة ساخنة ولا تغطية ولا خبر عنه.
العشرون: شركة تأمين السيارات. لكنها أغلقت أبوابها ورحلت خارج البلاد أيضًا. فهي ليست مسؤولة عن أي عمل إرهابي ولم يبق بهذه البلاد إلا الإرهاب.
الحادي والعشرون: تصليح كهرباء، سجلته سريعًا.
الثاني والعشرون: تصليح براد، سجلته أيضًا.
الثالث والعشرون: تصليح مولدة الكهرباء. سجلته طبعًا.
الرابع والعشرون: معتقل.
الخامس والعشرون: مات
السادس والعشرون: بائع ماء 2، سجلته فورًا.
مات، خارج البلاد، معتقل، مخطوف، خارج البلاد، خارج البلاد، خارج البلاد، يسكن بمنطقة ساخنة حيث لا تغطية.
تكسي بيروت: لا طريق إلى بيروت، الطريق مغلق.
تكسي عمان: لا طريق إلى عمان، الطريق مغلق أيضًا,
تسعون: مغسل لسيارتي "نسمة"، لا حاجة لي به فقد أغلق بسبب انقطاع الكهرباء. 
مئة: دكتور عظمية، خارج البلاد.
مئة وسبعة: دكتور هضمية، خارج البلاد.
مئة وعشرة: دكتور جراح، معتقل.
مئة وأحد عشر: دكتور أطفال، معتقل أيضًا. 
مئة وثلاث وعشرون: دكتور أسنان، خارج البلاد.
مئة وأربع وعشرون: دكتور أسنان، معتقل. 
مئتان: مطعم البيت السويسري: لا حاجة لي به، لا مطاعم في الحرب.
مئتان وأحد عشر: مزرعة في خان الشيخ. لا حاجة إليها أيضًا.
مئتان وتسعة عشر: مازوت أبو أيمن. سجلته فورًا.
مئتان وعشرون: بائع الخبز، سجلته طبعاً.
مئتان واثنان وعشرون: بنزين، مازوت، ماء، غاز، تصليح، تصليح، أسجل، أسجل، أسجل.
 
مات، مات، مات، معتقل، معتقل، معتقل، خارج البلاد، خارج البلاد، خارج البلاد، لا أسجل، لا أسجل، لا أسجل.
أهي حرب أم البلاد غادرت!؟ تغادر إلى الجنة، تغادر إلى جهنم، تغادر إلى ما بينهما من برزخ. ونحن الباقون هنا بانتظار قطار سيوصلنا إلى إحدى تلك المحطات. 
لم أستطع إكمال تفقد الأسماء، فالورقة بيدي لم يسجل عليها إلا أرقام البنزين والمازوت والغاز والماء والخبز. مزقت الورقة. رميت الموبايل إلى ورشة التصليح. افعلوا ما شئتم. وغادرت.

ملاحظة لا بد منها:
إنها الحرب لا تقعوا بفخها يا أصدقائي.  
ها أنا أقع في فخها، وأنهي نصًا لم أذكر به اسمًا واحدًا. يا للعار! اللعنة على الحرب تلك التي تستبدل هوياتنا وأسمائنا بمجرد أرقام.
الحرب أرقام، الهجرة أرقام، الشهداء أرقام، الجرحى أرقام، اللجوء أرقام، النزوح أرقام... 
هي الحرب توحدنا رقميًا. 

اقرأ/ي أيضًا:

فم بملايين الأسنان

المدينة برسم الخوف