31-يناير-2018

هنري روسو/ فرنسا

ليتهم يعطونني فرصة للتثاؤب فقط. خمسة وأربعون دقيقةً، تليها خمسة وأربعون أخرى وأنا أعلو مرّاتٍ وأهبط، دون حساب الوقت المستقطع. ستكون مصيبتي كبيرة إذا تمّ التمديد لشوطين إضافيين.

ألتقط أنفاسي دائمًا خلال خمسةَ عشرَ دقيقةً يمنحها إيّاي القانون. فالقانون مفيدٌ في بعض الأحيان. حيث يحملني رجل لطيف بين ذراعيه لبضع ثوانٍ. يالَلحنان!!

هؤلاء الرجال، لا يعرفون من الأخلاق التي تحكم عالمَهم إلا الرّكل! بصراحة، إنهم لا يفهمون أنوثتي وطفولتي وبراءتي. والأسوأ أنّ هناك متفرجين، يلاحقونني بنظراتهم دون أدنى شفقة، وأنا أتدحرج من قدم لأخرى. فلستُ أكثر من: كرة قدم.

أطير... أحطّ...

أحطّ... أطير...

وبناءً على ذلك فإن مكاني الطبيعي على الرؤوس، وتحت الأقدام. بعيدًا عن ذراعَيْ الكرة الأم. فحتى اللقاء الخاطف معها يكون مرتدًا. التماس بيننا محض خبطة محكمة، أتلقّى على إثرها ضربة صاروخية تأخذني بعيدًا عنها، وهي تتفقد عطب حواسها متكوّرةً ألمًا.

أترنّح مثل السكارى ألمًا وضياعًا، في الوقت الذي يترنّحون فيه من نشوة جدل أقدامهم البيزنطي. إذا دخلت المرمى الأول سجّلت هدفًا، وإذا دخلت الثاني سجّلت هدفًا أيضًا. من أنا؟! مع من أنا؟؟

ملايين العيون ترمقني من خلف الشاشات. الآلاف منها جاءت لتراني مباشرة. كل هؤلاء، جمهورًا ومشاهدين نسوني! الجمهور المنتصب مثل جدار متحرّك مطلي بالأزرق والأبيض، لم يتسنَّ له أن يشاهدَ ألواني. إنهم قادمون للصراخ فقط، فما إن أعانق شباك أحد المرميَيْن حتى يهتفوا: خسارة!

أو: Goooooooooool

حسب هذا اللون أو ذاك...

وعلى امتداد المباراة، تتواصل الكلمات البذيئة واللعنات.

دعوني أسترحْ قليلًا من ضرباتِكم، فأنا لا أحب هذا المرمى ولا ذاك، لا شأن لي بركلات الجزاء، ولا حتى بالضربات المباشرة أو غير المباشرة، وأمقت الضربة الركنية، ولا أتلذّذ برؤوسكم المتناطحة ورفستِاكم الهمجية. ما شأني إذا تسلل أحدُكم وأدخلني غشًّا في مرمى خصمه. لماذا تنهالُ عليّ رفساتُكم بكل تلك الأحقاد؟ لست أنا من كسر قدمَ اللاعبِ الأبيض. الأزرقُ من فعل. الحارسُ فقط كان رحيمًا معي.. كان يدلكني ثم يقذفني بيده، لم يستعمل قدميه إلا ثماني مرات فقط.

لا أريد أمجادكم، لست معكم ولا معهم. بعد قليل سأكون وحدي. فعند إطلاق صفارة النهاية ستعلو هتافاتُ بعضِكم، وترتفع راياتُهم. وأنا بقدم غريبة سأُقذَف بعيدًا. ثم أرحل دون وداع لأرقدَ هناك في زاوية مظلمة. أجلس وحيدةً في أقبية ملعبٍ غريب، بينما اسمي يرتفع عاليًا مسبوقًا بصفات كثيرة:

كأس العالم.. كأس القارات.. كأس أوروبا.. كأس أمريكا الجنوبية.. كأس آسيا.. كأس الجمهورية.. كأس القبيلة.

أنا.. كرة القدم!

في لحظات التهميش الباردة، لا يسأل أحد أين أنا. فمن ارتفعت عاليًا لست أنا، بل كانت كرة ذهبية، انهالت دموعُكم عليها، حضنتموها بعنف، رفعتموها فوق رؤوسِكم، قبلتموها بشفاهكم وقلوبكم، كأنما هي من حافظَتْ على رؤوسكم وأقدامكم، ورُكِلت في كل الاتجاهات. تفاجئني هذه الرقة التي لم أنل منها شيئًا. لم يسأل أحد منكم عن عذابات الكرة الجلدية بعد نهاية المباراة.

لا أريد لأحد أن يتاجر بي. لا أريد أن أتدحرج بين أقدامكم مثل جمجمة الأعداء.

أريد أن ألعب. فقط أن ألهو. أنا كرة المتعة، متعة الكرة أنا. كيف أسجن في حسابات الربح والخسارة؟

أريد أن أطير كما تشتهي كل كرات العالم.

يومًا ما سنلعب مباراة العشق الكروي، في ملعب كروي. مدرجاته كرات، لاعبوه كرات، متفرّجوه كرات، حكّامه كرات، أهدافه كرات.

الكرات لا تعرف التمييز بين الأقدام. الكل يسجل، الكل يهتف. حينها ستبدأ ابتسامة الأم الكروية بالانبعاث. ستنشقّ من قلب المتوسط، ممتدّة في خطوط الطول والعرض، لتنتهي بضحكة مجلجلة بين القطبين. ضحكة تتدحرج معنا، نحن الكرات الطليقة، قبل أن ننطلق سويّةً لتسجيل هدفٍ في شباك السماء.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن أدب العناكب

إلى نفسي