12-أغسطس-2015

يروج منهج "بي بي سي" إلى أن أسباب الثورات طائفية (Getty)

نشرت شاشة هيئة الإذاعية البريطانية "بي بي سي" بنسختها العربية، وأعادت نشر، الفيلم التسجيلي "حديث العلويين"، مرارًا خلال أيار/مايو الفائت. والعمل من إخراج أليكس أيوب وإيلي ملكي، تم بثه  ضمن سلسلة عن قرب، وكانت أولى مرات البث الاثنين 18 أيار/مايو2015، وسط موجة دعائية وإعلانية في بعض الصحف العربية الدولية وكذلك بعض المواقع الإلكترونية، وسط تهليل غير خاف للعمل.

ما يمارسه النظام السوري ما هو إلا توريط قسري لأبناء الطائفة العلوية في حربه للدفاع عن نفسه عبر زجهم في أجهزته الأمنية وخطوط المواجهة الأولى

يرصد "حديث العلويين" تفاعل أبناء الطائفة العلوية من قاطني لواء إسكندرون "مع إخوتهم العلويون في سورية"، هذا ما بدأ فيه "صوت الله" تعقيبه على الشريط، مبتعدًا عن تناول أن هؤلاء، أي علويي إسكندرون، هم مواطنون أتراك من أصول عربية سورية، مكتفيًا بالإشارة إلى أن أجدادهم أعتادوا على كونهم جزء من الطائفة العلوية في الساحل السوري. كما قدم ادعاء كشف ما لم يكشف سابقًا عن معتقدات هذه الطائفة المشرقية وعقيدتها، منوهًا أنهم و"للمرة الأولى سيتحدثون عن دينهم"، بينما لم يكن الحديث إلا مرافقة لبعض الأشخاص في زيارة مقامات الأولياء الصالحين وإضاءة على بعض المناسبات الدينية التي يحتفى بها العلويون مثل "عيد الغدير". هذا بدون أي تطرق لما هو عقائدي، أو كشف أي مستور يتعلق بالخصوصية العقائدية العلوية. وضمن ادعاء كشف ما هو غير معروف، كانت قمة الاكتشافات أن الاجتهاد العلوي يعبر عن محاولة ربط الإسلام بالفلسفة اليونانية، وهو ما يصرح به العلويون منذ نشأت طائفتهم، كما الدروز الموحدون.

ومما يرد في الشريط عائدًا على الطائفة العلوية "احتل دورها موقعًا هامًا من التحليل، وهذا الفيلم ليس عن دورها السياسي والعسكري"، وفي هذا إعادة إنتاج لمقولة أن النظام في دمشق علوي، أو أن الطابع المميز الأساسي في هويته هو الهوية الدينية لرأسه، وتحميل الطائفة العلوية ما لا ذنب ولا وزر لها فيه، عبر محاولة الغمز من باب أن النظام علوي، وأن للعلويين الكلمة العليا، بينما ما هو قائم فعلًا، وما يمارسه النظام، ما هو إلا توريط قسري لأبناء الطائفة في حربه للدفاع عن نفسه عبر زجهم في أجهزته الأمنية وعلى خطوط المواجهة مع الثورة منذ بدايتها، واليوم مع الجماعات المسلحة التي يقاتلها النظام دون تنظيم "داعش".

وقد غلب على الفلم طابع "اخترنا لكم" السياحي، ما بين الانتقائية في طرح القضايا المتعلقة بالعلويين، وبين التعاطي السياحي مع هذه الجماعة البشرية، وكأننا في زيارة متحف بشري كتلك التي كانت تقام في لندن وباريس حتى بداية القرن العشرين ليعرض فيها إنسًا من طوائف وقبائل يستقدمها الأسياد من مستعمراتهم.

ولكن، ماذا بشأن العلويين في سوريا نفسها؟ أو من يعيشون في سوريا، كون الحديث عن سوريا بقي يحكم المسار التصاعدي للشريط، إلا أنه لم يتطرق لمن يعيشون في الداخل السوري من أبناء الطائفة، على الرغم من تطوافه في أكثر من خمسة مدن في تركيا وأوروبا ملتقيا علويين ومتحدثًا إليهم.

لا تقف الإغفالات التاريخية والأنثروبولوجية التي زخر بها "حديث العلويين" عند الطائفة وسيرتها فقط، بل يتعدى ذلك ليمس وقائع استعمارية أثرت ولا تزال في حيوات المشرق العربي، ومن ذلك إدانته فرنسا بتعاطيها الطائفي أثناء استعمارها لسوريا ولبنان، وتقسيمها للمناطق وفق أولويات طائفية إنعزالية وسعيها لإقامة إمارات طائفية بدل الاعتراف بالدولة الوطنية في هذه المنطقة، وكأن بريطاينا لم تقم بالمثل في فلسطين، أيام انتدابها، بين مسيحي ومسلم وبين سني ودرزي، ولم تعط وعد بلفور بإقامة وطن "قومي" لليهود في فلسطين!

ولم يغب عن بال العدسة التقاط شاب سوري علوي يقيم في أحد العواصم الأوروبية، يغلب على خطابه الطابع الحداثي العلماني ويتعامل مع مكونه الطائفي جزء من هويته الوطنية الأوسع، وكان باديًا حشر آرائه لتلطيف وقع الخطاب الأقلوليّ المشحون طائفيًا الذي حكم الشريط.

بقي موقف BBC على تحفظاته القديمة بشأن القضية الفلسطينية وتغليب السردية الصهيونية على ما لدى العرب

وهذا ليس أول ولا آخر إبداعات "بي بي سي" في الشأن الطائفي، فضمن السلسة عينها عرض خلال أيار/ مايو أيضًا "أثير الكراهية"، للمخرج عمر عبد الرازق، ومن تقديم الزميل نور الدين زورقي، على شاكلة تحليل صحافي "معمق"، تطرق للعنف الذي تشهده المنطقة على أن سببه يعود إلى 1400 عام، وأن ما في المشرق صراع طائفي بحت، عنوانه الخلاف المذهبي السني الشيعي بين الطوائف الإسلامية، ولم يتطرق إلى طبيعة ما هو قائم من الصراع حقًا، ولا إلى الدوافع والفواعل السياسية المعاصرة فيه، بينما اعتذرت "بي بي سي" فيه عن صراحة بث خطاب ادّعوا التعفف عنه، بينما غمزوا به في فيلم سابق. في حين كان همّ العمل تحميل سنة العراق مسؤولية العلميات التفجيرية التي تقوم بها التنظيمات الإسلامية المتشددة، والتي تتبنى العنف الجهادي سبيلًا في ممارستها، مثل القاعدة وغيرها، منذ الاحتلال الأمريكي للعراق 2003. حريصين على إعادة انتاج خطاب الثورات المضادة ودعايتها عبر إبراز محمد حسني مبارك كما بشار الأسد متراسان ضد الطائفية، وما تشهده المنطقة من احتراب ليس إلا انفجارًا طائفيًا بسبب خلع الأول وإضعاف الثاني!

يبقى التنبه إلى أداء "بي بي سي" منذ انطلاقة ثورات الربيع العربي، الذي لم يخرج عن موقف مخاتل، يحاول إبراز أن جلّ الربيع أمسى إرهابًا، بينما يبقي على تحفظاته القديمة بشأن القضية الفلسطينية وتغليب السردية الصهيونية على ما لدى العرب لقوله. لسنا بصدد محاكمة هيئة الإذاعة البريطانية بقدر ما نهتم لدعوة دافع الضرائب البريطاني إلى التنبه لما يشتريه بضرائبه من خطاب تضليليّ لاتاريخيّ وطائفي.