11-أغسطس-2017

من المسلسل

كثيرًا ما تتردد  كلمات مأثورة تحاول أن تمايز بين الإنسان وباقي الكائنات الأخرى، كأن يقال إن "الإنسان حيوان مفكر" أو ضاحك أو ناطق، وهو ما يمكن اختزاله في صفة واحدة -تحتوي ضمنيًا على حزمة من الصفات الأخرى بداخلها- حين نقرر أن "الإنسان كائن متخيِّل". وإذا كان الإنسان لا يستطيع اختيار عائلته ولا مكان ميلاده ولا مستواه الاجتماعي، لكنه يستطيع اختيار مستقبله. وعندها، يمكنه الارتفاع بطموحه، فيرفع منزلته ومنزلة أسرته، ويغيّر فقره إلى رضا أو غنى، وذلّه إلى عز، وحاجته إلى قناعة. أما كلمة السرّ في كل ذلك فهي الإبداع والخيال.

إذا كان الإنسان لا يستطيع اختيار عائلته ولا مستواه الاجتماعي، فإنه يستطيع اختيار مستقبله

الخيال كمنقذ من وطأة الظرف الاجتماعي، تيمة أساسية حفلت بها العديد من قصص وروايات الأدب الغربي في القرن الـ19 وبدايات القرن العشرين التي تناولت بؤس الفقراء، خاصة الأطفال منهم، ومن هذه الأعمال رواية "آن في المرتفعات الخضراء" أو "Anne of Green Gables" للمؤلفة الكندية لوسي مود مونتغمري. ظهرت الرواية للمرة الأولى عام 1908، وهي أول أجزاء سلسلة روائية مكونة من 8 روايات نُشرت في الفترة من 1908 إلى 1939، وتعتبر من كلاسيكيات الرواية الكندية، يدّل على ذلك بيعها لأكثر من 50 مليون نسخة وترجمتها إلى 20 لغة، وتقديمها عشرات المرات في أعمال سينمائية وتلفزيونية ومسرحية وموسيقية، بل وحتى تحوُّل المكان الذي تدور فيه أحداثها إلى معلم سياحي يقصدة قرّاء السلسلة الروائية.

اقرأ/ي أيضًا: "The Crown".. ملحمة تلفزيونية تكشف أسرار العائلة الملكية

رواية "آن المرتفعات الخضراء" تحكي قصة فتاة يتيمة تدعى آن شيرلي، تبلغ من العمر 11 عامًا ويسوقها القدر إلى تبنّيها من قبل إحدى الأسر الريفية الصغيرة بجزيرة الأمير إدوارد في كندا، بعد خطأ غير مقصود في دار الأيتام التي نشأت بها. كانت خطة عائلة كوثبرت، التي استضافت آن، أن تحصل على صبي قوي يساعدهم في الأعمال اليدوية ويقدم الدعم العملي حين تمرّ السنين، ولكن في المقابل حصلوا على فتاة ثرثارة ذات نمش وشعرها أحمر، عنيدة لا يمكن تقويمها وحساسة لأبعد الحدود.

وفي أثناء تمدد هذه الحكاية واستكشاف تجربة الفتاة الصغيرة في "بيتها" الجديد، تعرّج رواية "آن المرتفعات الخضراء"على موضوعات وقضايا عدة يعايشها الناس في كل مكان، مثل الهوية الفردية والنسوية والتنمّر والتحيّز. في البداية، طلبت آن من السيدة ماريلا كوثبرت مناداتها بـ كورديلا، وقوبل طلبها بالاستغراب والرفض، ثم أصرّت الطفلة على أنه إذا كان لا بد من مناداتها باسمها القديم "Ann" فيجب أن يُضاف إليه حرفًا مميزًا ويصير "Anne". في رواية "آن المرتفعات الخضراء" مواقف أخرى تحتفي بمزايا "داخلية" كالخيال والإبداع، فعلي العكس من الشخصيات الروائية النسائية الأخرى في تلك الفترة المبكرة من القرن العشرين، لم تعتمد سلطات آن على رفض القيم الأنثوية ضمنًا، فهي لم تكن مسترجلة خائفة بل إنها تهتم كثيرًا بمظهرها. في المقابل، كانت آن قلقة من كونها قبيحة، وفي سبيل ذلك اعتمدت تدابير جذرية لإحداث تغيير "خارجي": في الكتاب الأول من السلسلة تضبغ شعرها بالأخضر، وفي الكتاب الثاني تحوّل أنفها إلى الأحمر القاني بعد محاولة لتخليص نفسها من النمش.

في الحقيقة، يبدو غير مفهومًا -بالنسبة لي على الأقل- السبب الغامض وراء اعتبار الشعر الأحمر والنمش من الأمور غير الجذابة في الفتاة (يرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى ليندسي لوهان، التي كانت لا تزال في بداية مشوارها الفني عندما أدت دورها في فيلم "Parent Trap")، في حين يبدو نفس الأمر حاليًا مرغوبًا فيه ومنتشرًا بكثافة. ومع ذلك، يمكن تفهُّم حالة شخص يريد يائسًا أن يصبح مختلفًا، في وقتٍ لا يتوانى الناس عن وصفه بالقبيح.

في مناسبتين ستفقد آن أعصابها بمواجهة مَن ينتقدون مظهرها: حين تصرخ في جارتها العجوزة راشيل ليندي، وحين تضرب رأس زميلها (الذي سنعرف حبه لها بعد وفاته) جلبرت بليث بعد أن أثار هياجها بحديثه عن شعرها. أفعال رعناء ربما، ولكن حقيقة المعاناة التي تختبرها الفتاة الصغيرة أعمق من ذلك. فرغم قولها مرارًا وتكرارًا أن نظرات الناس ليست مهمة وأن المهم حقًا هو الشخصية، ومع توقها إلى ارتداء ملابس بأكمام طويلة ومنتفخة ورغبتها اليائسة في الحصول على شعر داكن؛ تحدس آن بأن العالم لا يسير بهذه الطريقة وتعرف أن "الأرواح الطيبة" لا توجد بكثرة.

"آن المرتفعات الخضراء" تحكي قصة فتاة يتيمة تدعى آن شيرلي، يسوقها القدر إلى تبنّيها من قبل إحدى الأسر الريفية الصغيرة

مؤخرًا، قامت الكاتبة والمنتجة مويرا والي بيكيت (بريكينغ باد) بتقديم معالجة جديدة لرواية "آن المرتفعات الخضراء" وحوّلتها إلى مسلسل تلفزيوني عُرض عالميًا على شبكة نتفليكس في أيار/مايو الماضي. الموسم الأول من المسلسل جاء في 7 حلقات، ومثلما وعدت بيكيت "باستخراج الجانب المظلم من رواية مونتغمري"، سلّطت الحلقات الضوء على كآبة حياة آن قبل تبنّيها، وإظهار الصدمة التي عانت منها نتيجة سنوات من الإهمال وسوء المعاملة، ومجابهتها الصعاب والتحديات في سبيل الحب وتقبُّل الآخر، والأهم من أجل إيجاد مكان لها في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل 13 Reasons Why.. بحث في الهشاشة

ومثلما تقول مونتغمري في ختام روايتها "دائمًا سيكون ثمة منعطف في الطريق"، طرأت بعض التغييرات على سيناريو المسلسل، فتم الاستغناء عن الفصول الأولى من رواية "آن المرتفعات الخضراء" التي تظهر معاناة آن في دار الأيتام ولدى الأُسر التي عملت عندها كخادمة واكتفى السيناريو بتضمينها في مشاهد استرجاعية "Flashbacks"، لكنها ستحدث تأثيرًا كافيًا لتحويل شخصية آن من فتاة حالمة لطيفة إلى شخصية عصابية غريبة الأطوار. لتبدأ أحداث المسلسل بوصول آن (آمبيث مكولتي) إلى قرية بجزيرة الأمير إدوارد، بعد إرسالها عن طريق الخطأ إلى الأخوين المسنّين كوثبرت الطامحان لتبني طفل يساعدهما في أعمال المزرعة التي يمتلكانها. ورغم صدمة الأخوين من قدوم طفلة غير مرغوب بها وقرارهما بإعادتها إلى الملجأ الذي جاءت منه، فإن آن سرعان ما تجبرهما على تغيير رأيهما وذلك بفضل روحها الفريدة وذكائها المتقد وخيالها الخصب.

هي فتاة ثرثارة ولكن تدفُّق الكلمات من فمها يعكس رغبة في معرفة كل جديد تراه، كما يعكس مقارنة بين ما تراه وما قرأته، فهي تعيش في عالم خيالي شيّدته حكايات كثيرة قرأتها في في الملجأ، حتى إنها أحيانًا تردّ على محدّثها بعبارات مقتبسة من هذه القصص والروايات، وسرعان ما ترتد إلى واقعها البائس  أو تسترجع موقفًا حزينًا من معاناة الماضي، غير أنها تتغلب على أحزانها بالغوص مرة أخرى في الخيال. أما مخاوفها فتتلخص في أمرين، العودة إلى حياة البؤس التي عاشتها، وشعرها الأحمر.

هناك بعض الشخصيات الرئيسية الأخرى في المسلسل طالها التغيير، مثل ماثيو كولبرت (روبرت هولمز تومسون) وهو فلاح كندي مسنّ خجول مصاب، يعاني مشكلات في القلب ولا نعرف شيئًا عن ماضيه، لكن معاملته لهذه الطفلة الصغيرة تنبئ عن رقة، فمنذ أن تقع عيناه عليها يعاملها بحنان بالغ ويقرر استبقاءها في منزله. التغيير الذي يجلبه المسلسل الجديد يتمثل في خلق شخصية جديدة يقع ماثيو في حبها، ثم يندفع بعدها للانتحار بصورة تتعارض مع كونه مسيحيًا ملتزمًا أولًا وشخصًا مسالمًا ثانيًا.

هناك أيضًا ماريلا كوثبرت (المخضرمة جيراليدن جيمس)، شقيقة ماثيو، والتي يبدو من الوهلة الأولى امتلاكها شخصية قوية وعملية، فهي المتحكمة الفعلية في المنزل ولذلك سيكون قرارها نافذًا برفض وجود آن، لكن شيئًا ينبض بداخلها سيخوّفها مما قد تلقاه الفتاة المسكينة إذا عادت إلى الملجأ وخدمة البيوت، فتقرر الإبقاء عليها ومنحها فرصة لإثبات جدارتها. في ماريلا، تتنازع الأمومة والصرامة، العملية والعاطفية، فعندما تشك في سرقة الطفلة لإحدى مجوهراتها يكون قرارها صارمًا بطردها فورًا، وحين تكتشف الحقيقة وتجد المجوهرات بنفسها توافق على سفر أخيها في إثر الفتاة للبحث عنها وإرجاعها.

مسلسل "آن" يقدّم رؤية جديدة لحكاية كلاسيكية يجد فيها فرصة لطرح أفكار ملحّة حول أزمة الانتماء والاندماج وقبول الآخر

تفرح آن بعودتها إلى المنزل ولكنها تشترط توقيع الأخوين على وثيقة تبني بعد إقامة أي طقس احتفالي، كما يحدث في القصص الخيالية التي قرأتها. في المدرسة، ستواجه تنمّر زملاءها، بينما ستنضم ماريلا إلى مجموعة "الأمهات التقدميات" المهتمة بتربية وتعليم الأطفال، لكن سرعان ما ستتسبب ذكريات آن في تركها المدرسة واستبعاد ماريلا من المجموعة "التقدمية". ولكي تعود من جديد إلى المدرسة، بوابة الاندماج مع الوسط المحيط، سيكون على آن تقديم نموذج للبطولة والفدائية في إطفاء الحرائق. وتتوالي الأحداث بسرعة مغايرة كثيرًا لما في الرواية، بين صعود وهبوط، وانفراجة وضيق، وبعض التغيرات التي ربما لا يهتم بها من لم يقرأ الرواية الأصلية، لكنها ستدعم الخط الجديد الذي ينتهجه سيناريو بيكيت من تطعيم الدراما بمزاج سوداوي وخطوط تأكيدية على حقوق المرأة والنسوية، بشكل يمكن وصفه بالساذج والفجّ أحيانًا، ولكنه يبدو مفهومًا في ظل السيطرة النسائية على طاقم العمل في مراحله المختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل Westworld: في المشترك بين السينما والفلسفة

غير أنه لا يمكن إنكار الجهد المبذول من جانب "نتفليكس" في إزالة الغبار عن رواية الأطفال الكلاسيكية وإعادة إحيائها، بسيناريو مغاير وصورة رائعة تناسب اعتماد رواية "آن المرتفعات الخضراء" على وصف الطبيعة وجمالها والشخصيات بشكل كبير، فضلًا عن الاستعانة بطاقم تمثيلي نجح في تقديم أداءات تمثيلية مميزة، خصوصًا جيمس ومكولتي. وبغض النظر عن مسألة الأمانة والالتزام بالنصّ الأدبي، فإن المسلسل يقدّم رؤية جديدة لحكاية كلاسيكية يجد فيها فرصة لطرح أفكار ملحّة حول أزمة الانتماء والاندماج وقبول الآخر، وهي قضية تتجاوز حدود المسلسل لتتصل بما يشهد العالم أجمع حاليًا من صراعات عرقية ومذهبية وسياسية تودي بأرواح وتدمر حياوات، فضلًا عن إفرازها أزمة ممتدة ومتشعبة تتعلق بقدرة ملايين الوافدين من بلاد أنهكتها الحروب على الدخول في ثقافات جديدة واستكمال الحياة بالقدر الأدني من "الطبيعية" و"العادية".

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسل "المملكة الأخيرة".. المصير هو كل شيء

"الفايكنغ".. عندما غزا "الشمال الوثني" الغرب