19-ديسمبر-2016

مجلة "نظرة سورية جادة" (فيسبوك)

في الكثير من الأحيان نجد ارتباطًا قويًا بين هويتنا وبقعة جغرافية محددة من بقاع الأرض، إن كانت دولة أو مدينة أو بلدة، أو حتى كوخًا صغيرًا في الخلاء اللامنتهي. كلٌ منا يُعرِف نفسه، حينما تأتي لحظات التعارف، بمكان في هذا العالم. عادةً ما يكون هذا المكان هو المكان الذي تتعلق ذكراه بروح المرء فلا تفارقه، كما لا تفارق يداه حرارة الخبز الذي لا يخبز إلا هناك، ويتشبث لسانه بمذاق الطعام الذي ليس له مثيل رغم المحاولات الكثيرة لإعادة طهيه، وقد يكون هذا المكان هو الذي تشكلت فيه قسمات وجه المرء وروحه، المكان الذي فيه فقط يستطيع أن يعبر الشارع دون أن ينظر يمينًا ويسارًا لأنه يحفظ إيقاع سياراته عن ظهر قلب، المكان الذي يتعايش مع قبحه دون أن يقبله.

إن عرَّف كلٌ منا "مكانه" على هذا النحو، دون الانجراف صوب التعصب، ولكن اعتمادًا فقط على شحنة من العواطف، ستظهر لنا قدرة الغياب عن المكان وتجربة الاغتراب على القسوة. فرغم أن تلك التجارب قد تكون عكس القسوة تمامًا إلا أنه في جميع الأحوال ثمة ثقل مادي وروحي في الرحيل والترحال.

مجلة "نظرة سورية"، الصادرة في برلين، تعاين علاقة فنانين ومثقفين مع أماكنهم وثقافتهم

لا شك أن التجربة السورية هي أكثر تجارب الرحيل قسوةً في السنوات الأخيرة، لكن رغم ذلك هناك من يبعثون الأمل في ظلمة الموقف. صدر يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر العدد الأول من مجلة "A Syrious Look" (نظرة سورية جادة) لتعلن عن فنانين ومثقفين سوريين حملوا "أماكنهم" وثقافاتهم وحطوا رحالهم في برلين.

اقرأ/ي أيضًا: ألمانيا ونظريات اللجوء السوري

تجد المدينة منفذًا ثقافيًا لأصوات سورية تتحدث عن الثقافة السورية في المنفى، بعد أن تحدث ونظَّر الجميع إلا هم. القضية السورية من القضايا الحية في برلين مع ازدياد عدد الوافدين السوريين، لذلك يختار مؤسسو ومحررو المجلة – الشاعر والسيناريست محمد أبو لبن والمخرج المسرحي زياد عدوان والناشر ماريو مونستر - أن يستغلوا هذا الاهتمام لعرض الثقافة السورية في برلين باللغة الإنجليزية، فتصبح المجلة متاحة للمجتمع العام وليس متحدثي العربية فقط.

يقول المؤسسون في كلمتهم الافتتاحية: "أتت هذه المجلة إلى الوجود لأن التاريخ مهد لقاء مجموعة محددة من الناس في برلين عام 2015 – شاعر وسيناريست فلسطيني سوري ومخرج مسرحي سوري وناشر ألماني. مُلهَمون بقصص بعضنا البعض أرادنا أن نشهد بحيوية الثقافة السورية في إطارها الجديد، وأن نسلط الضوء ليس فقط على إسهامات الفنانين السوريين بالمشهد الإبداعي الألماني، بل أيضا على الأصداء التاريخية بين البلدين".

لهذا لا تحصر "نظرة سورية جادة" نفسها في أن تكون مجلة عن ومن سوريين إلى جمهور سوري؛ أي أنها ليست صحيفة لاجئين. إنها وثيقة مكرسة لاستكشاف الثقافة السورية في المنفى من أوجه نظر وطنية وإبداعية مختلفة، ولتأريخ اللحظة التاريخية الإستثنائية، إن لم تكن أيضًا البشعة، التي تجمعنا نحن السوريين والبرلينيين سواء. لأننا نتحدث الإنكليزية بيننا، ولأن الإنكليزية هي لغة العالم الأولى، قررنا أن ننشر نحن أيضًا مجلتنا بالإنكليزية".

تطمح مجلة "نظرة سورية جادة" إلى مخاطبة الثقافات الأخرى، من منظور سوريي المنفى

فكما توضح هذه الفقرة، محتوى المجلة لا يقتصر على سوريين يخاطبون سوريين آخرين، بل تستخدم الإنجليزية كمساحة للمراوغة بين الثقافات، فنجد في هذا العدد ثلاث مشاركات من غير سوريين: مقال لكاتب وموسيقار ألماني يسرد فيه تاريخ عائلي من الهروب بين الحرب العالمية الثانية والانقسام الألماني إبان الحرب الباردة؛ ومقال من ألماني آخر يطالب فيه الأوروبيين أن يتعاطفوا ويتفاعلوا مع القضية السورية؛ ومقال أخير من الناشر والمحرر الألماني عن ما نواجهه كجيل الآن ومسؤوليتنا تجاه الأحداث الراهنة. فوضع الأصوات الألمانية بجانب السورية يخلق حالة من التزامن الثقافي ويكسر أي شبهة من انعزال الثقافة السورية في برلين.

اقرأ/ي أيضًا: مهرجان القصيدة السورية الأول في ألمانيا

إلى جانب المقالات المشار إليها، يحمل العدد بشكل عام نظرة شاملة لمفهومي الفن والثقافة. يجد الرسامون والصحفيون والفنانون والسينمائيون والمسرحيون والمصورون والمفكرون والكتاب والشعراء والراقصون، الرجال منهم والنساء، مساحة للتعبير بجانب الآخر، فتأتي المجلة لتشكل عرضًا للثقافة السورية في برلين، منتقلة بين الحوارات والمقالات والرسوم والصور لتكشف عن إنفجار إبداعي ونضوج ثقافي لمن حملوا ثقافتهم وغادروا أماكنهم.

حينما قرأت المجلة أخذت وبدون وعي أقارن بين هذه المجلة والمجلات الثقافية الصادرة في العالم العربي. فيكتشف المرء أولًا لذة في أن يقرأ ويطلع على ثقافة عبر فن لا يخشى رقابة تصادره، ولا مواطنين وسلطات تسحبه إلى المحاكم لما يتخيله العقل ويكتبه أو يصوره الفنان أو المثقف.

ثانيًا، ورقيًا تظهر المجلة في حلة طباعية ذات جودة عالية لا تقارن بالمستوى السائد في العالم العربي، فتلك الجودة تمكن القائمين على المجلة من إصدار إخراجًا فنيًا مميزًا وتقديم مادة بصرية تحترم، فربما لم يرتق في السنوات الأخيرة إلى هذا المستوى من الإخراج الفني إلا أحمد اللباد حينما كان يشرف على مجلة عالم الكتاب بالقاهرة.

مجلة "نظرة سورية جادة" وثيقة لاستكشاف الثقافة السورية في المنفى

اقرأ/ي أيضًا: في إسطنبول.. معرض للكتاب العربي

رغم هذا التميز في جودة المجلة البصرية تعاني "نظرة سورية جادة" من بعض المشاكل في اختيار الخلفيات، حيث تصبح بعض الأسطر غير مقروءة بسبب اختلاط الألوان. إلى جانب ذلك، ورغم الاحترام والتفهم لقرار أن تصدر المجلة بالإنجليزية، فقد تحتاج المجلة في الأعداد القادمة إلى مراجع أو محرر إنجليزي قوي، لتفادي الأخطاء المطبعية والجمل الملتبسة الظاهرة في هذا العدد.

أخيرًا، يجب القول إن هذه المجلة الثقافية، التي يحررها ويعرضها شباب دون أن يحتكرونها، تحتوي على فن صادق وحوارات إنسانية يستجمع فيها الفنانون شجاعتهم وجرائتهم للحديث عن الماضي في سوريا والحاضر في برلين، وكل ما مروا به بين برلين وسوريا.

المجلة مواجهة إنسانية وفنية لواقع آليم وقاس مس كل المشاركين بشكل أو بآخر، وهي مواجهة لا تحاول إرضاء أحدًا على حساب الآخر، فقط تتكلف بالإخلاص للثقافة السورية.

ولهذا، تحية واجبة للذين ضربوا جذورهم في تربة جديدة.

اقرأ/ي أيضًا:

الثورة التي في الكتب.. الثورة التي في الواقع

رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم