21-يوليو-2018

يشهد الشرق الأوساط أزمات وانقسامات غير مسبوقة (Getty)

بعد ما يقترب من 8 سنوات على انطلاق الثورات العربية، وبعد صعود الثورات المضادة في معظم الدول التي حصلت فيها الاحتجاجات، يبدو المشهد في الشرق الأوسط أكثر انقسامًا من أي وقت مضى، وهو ما أظهر أزمة في بنية دولة ما بعد الاستقلال العربية، التي تخفي تحت قشورها كثيرًا من الهويات الفرعية، سواء طائفيًا أو عشائريًا. يعطي هذا التقرير المترجم من مجلة The world weekly، صورة سريعة عن الانقسامات التي تحدد مستقبل الشرق الأوسط.


 من الصعب ألا يلحظ شخص يسير في شارع سوريا، الموجود في مدينة طرابلس في شمال لبنان، الثقوبَ التي أحدثها الرصاص في المباني المصطفة على جانبي الشارع الفاصل بين الحيين اللذين كانا يشهدان صراعًا في وقت سابق: باب التبانة وجبل محسن. فبينما تبقى أسباب الصراع الذي استمر عقودًا طويلة معقدة، إلا أن ما كان يؤجج النزاع العنيف في جانبي شارع سوريا يمكن أن يُعد متضمنًا للعديد من المشاكل التي تؤثر على الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

أدت مجموعة من العوامل إلى اضطرابات كبيرة شكلت منطقة الشرق الأوسط وغيَّرتها في السنوات الأخيرة

كلا المنطقتين فقيرتان، كما يفتقر العديد من الشباب إلى الفرص الاقتصادية في طرابلس، المدينة الأكبر في الشمال اللبناني غير المتطور، أو في أي مكان آخر. وعلاوة على ذلك، تفصل بين الحيين إلى حد كبير خطوط طائفية، إذ تغلب الطائفة السنية على حي باب التبانة، في حين تغلب على جبل محسن الطائفة العلوية، وهي نفس الطائفة المُسلمة التي ينتمي إليها رئيس النظام السوري بشار الأسد. وتؤجج الحرب في الجارة سوريا، حيث تلتقي العديد من الانقسامات المعروفة في الشرق الأوسط وتؤدي إلى تأثيرات مدمرة، التوترات بين الحيين. وقد ذهب كثير من سكان المنطقة للقتال في سوريا.

وشهدت الفترة الأخيرة تصعيد القوات الحكومية السورية من القصف الجوي على مناطق تسيطر عليها المعارضة في جنوب سوريا، وشنَّت هجومًا بريًا على مدينة درعا وريفها. وتعتبر درعا، المُحافظة التي تقع بالقرب من الحدود الأردنية، مهد الانتفاضة ضد نظام الرئيس الأسد.

خرج السوريون الذين ألهمتهم الاحتجاجات الضخمة في تونس ومصر وأماكن أخرى، إلى الشوارع سنة 2011 للمطالبة بإسقاط النظام بعد أن عانوا من الاستبداد لعقود. وردَّت الحكومة بقوة غاشمة، ما أدى إلى دوامة من العنف تطورت إلى حرب حقيقية ما زالت تعصف بالبلاد إلى يومنا هذا. لقد عانى الجيل الشاب في سوريا من "العنف والاعتقال والاستبداد والقصف والهجرة" كما تقول مارسيل شحوارو، وهي ناشطة سورية بارزة تعيش حاليًا في المنفى.

اقرأ/ي أيضًا: بلقنة الشرق الأوسط

وقال عماد سلامة، وهو مراقب محنك لسياسات الشرق الأوسط من الجامعة اللبنانية الأمريكية في بيروت  لمجلة The world weekly، إن الانتفاضات العربية كشفت عن "أزمة شرعية عميقة للأنظمة القومية".

وقد أدت مجموعة من العوامل إلى اضطرابات كبيرة شكلت المنطقة وغيَّرتها في السنوات الأخيرة. ويضيف الدكتور سلامة إلى أن أزمة الشرعية هذه كانت حادة، خصوصًا في الدول التي "يشكل فيها الإقصاء التاريخي من الاستفادة من المنافع الاقتصادية والاجتماعية، السياساتِ المجتمعيةَ"، ضاربًا سوريا والعراق واليمن وليبيا كأمثلة. أما في بلدان أخرى مثل مصر وتونس، فقد أدى "الحرمان الاقتصادي والسياسي" إلى الشعور بالاستياء وعدم الرضا. وفي الوقت الذي يسير فيه الأسد في طريقه للاستيلاء على آخر معاقل المعارضة، تتعمق الأزمة الإنسانية في اليمن ويشكُّل التشريد الجماعي السياسة في الشرق الأوسط وما وراءه.

تتحدث صحيفة The world weekly مع خبراء بارزين، لمعرفة الانقسامات الرئيسية التي من المرجح أن تُملي مستقبل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

الحروب الجارية

لا يزال الصراع يشكل الواقع المعاش لكثير من سكان المنطقة. وليست سوريا البلد الوحيد الذي تحولت فيه الاحتجاجات المناهضة للحكومة إلى صراع مسلح. فقد أدت حملة العقيد معمر القذافي لقمع المتظاهرين إلى تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2011، ما أدى في النهاية إلى إسقاط نظامه. وفي أقصى الجنوب من شبه الجزيرة العربية، تحول فراغ السلطة الناجم عن الاحتجاجات ضد الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ومشاكل فرض السلطة التي حدثت لاحقًا، إلى حرب كاملة شهدت تدخل تحالف بقيادة السعودية بعد عدة سنوات من ذلك.

كان لهذه الصراعات وغيرها أثرٌ مدمرٌ على حياة البشر والبنية التحتية المدنية. ويُذكر أن أكثر من نصف مليون شخص قد قُتلوا في سوريا منذ عام 2011، ونزح حوالي نصف السكان، وأصبح أكثر من 5.5 مليون شخص لاجئين. لقد خلقت الحرب السورية أكبر أزمة لجوء وتهجير في الذاكرة الحديثة.

وتوجد مبادرات دبلوماسية مختلفة تهدف لتهدئة العنف في سوريا، والوصول إلى حل سياسي. ومع ذلك، وبعد أكثر من نصف عقد من الصراع، لا يزال التوصل إلى اتفاق كبير ييسر المصالحة السياسية للبلد بأسرها بعيد المنال. ويصر الأسد، مستغلًا موجة نجاحات عسكرية كان قد حققها بدعم من روسيا وإيران، على  استرجاع الأراضي السورية بالكامل.

أما في ليبيا، التي خرجت في سنة 2011 من 40 عامًا من حكم القذافي، بقيت السلطة السياسية والعسكرية مشتتة بين التحالفات المتنافسة. وأصبحت البلاد المليئة بالميليشيات والمفتقرة إلى سلطة مركزية مركزًا لانطلاق المهاجرين الذين يقطعون البحر المتوسط في رحلات خطيرة. وفي الوقت الذي كانت فيه مجلة The world weekly تستعد لطبع إصدارها، كانت عمليات الرجل القوي عسكريًا خليفة حفتر لاستعادة السيطرة الكاملة على مدينة درنة الشرقية مستمرة.

 تتصدر ليبيا وسوريا العناوين الرئيسية في الغرب، بسبب الدور الذي يلعبه البلدان في أزمة المهاجرين واللاجئين

قادت فرنسا حملة دبلوماسية لتوحيد الفصائل المتحاربة في باريس في أيار/مايو. وقد وافق جميع الحاضرين، بمن فيهم رئيس الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس واللواء خليفة حفتر، ظاهريًا على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في 10 كانون الأول/ديسمبر. وقالت كلوديا غازيني، وهي محللة للشؤون الليبية في مجموعة الأزمات الدولية، للمجلة، بأن الدفع لإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن في ذلك الوقت كان بمثابة "مقامرة خطيرة ومن غير المحتمل أن تتوفر ظروف أمنية وشرعية مناسبة لإجرائها".

وبينما تتصدر ليبيا وسوريا العناوين الرئيسية في الغرب، بسبب الدور الذي يلعبه البلدان في أزمة المهاجرين واللاجئين التي تجري حاليًا في أوروبا، يجذب الصراع في اليمن اهتمامًا أقل، رغم وصفه بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم. وفي حزيران/يونيو، شنت القوات التي تقودها السعودية والإماراتية هجومًا على مدينة الحديدة الساحلية، وهي شريان الحياة الحيوي للإمدادات الإنسانية التي تصل اليمن.

معركة إقليمية

وبينما تبقى جذور الأزمات في ليبيا وسوريا واليمن محلية، إلا أنها تشكل أمثلة جيدة لكيفية أن الصراعات المسلحة في المنطقة نادرًا ما تظل شؤونًا داخلية. ويرى الدكتور سلامة أن هذه العلاقة علاقة تبادلية، إذ يقول إنه "عادة ما تحتد النزاعات المحلية بسبب النزاعات الإقليمية والعكس صحيح". ويرجع جزء كبير من تورط دول المنطقة في هذه الصراعات لصراع التفوق الدائر بين إيران والمملكة العربية السعودية. وتقف طهران والرياض كجانبين متعارضين في دول مثل سوريا واليمن والعراق ولبنان والبحرين.

ولا تقف المنافسة الإيرانية - السعودية عند حدود الشرق الأوسط، بل تتعداه "إلى مستوى عالمي، حيث ناضلت الدولتان من أجل كسب القلوب والعقول في جميع أرجاء العالم لمدة عقدين على الأقل"، كما يقول ثيودور كاراسيك، المستشار الأقدم لدى شركة الاستشارات التحليلية لدول الخليج Gulf State Analytics consultancy .

اتخذت الرياض نهجًا أكثر عدوانية تجاه إيران تحت قيادة الملك سلمان وابنه ولي العهد محمد بن سلمان. وقد وصف الأخير المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي بالزعيم النازي أدولف هتلر، وتعهد بمقاومة نفوذ إيران.

وترى السعودية أن المتمردين الحوثيين في اليمن هم وكلاء إيرانيون - وهي تهمة ينكرونها - وتعارض بشدة حزب الله، وهي جماعة مسلحة لبنانية قوية وحزب سياسي متحد بشكل وثيق مع طهران. كانت إيران وحزب الله حليفين محوريين للرئيس الأسد في سوريا. وقال الدكتور كاراسيك لـ The world weekly: "في البيئة الحالية، تستغل المملكة العربية السعودية كل جهودها لردع إيران". وهذا يشمل محاولات لكسر العلاقة بين روسيا وإيران والاستفادة من الاحتجاجات في إيران. وتستثمر الدولتان بشكل كبير في برامج للوصول للمجتمعات الإسلامية لزيادة نفوذها فيها في جميع أنحاء العالم.

الفرار وإعادة البناء ومحاربة التطرف

أدى الصراع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى نزوح جماعي، حيث اضطر ملايين الأشخاص إلى مغادرة منازلهم. تمثل سوريا مثالًا أساسيًا لمدى إمكانية تشكيل سياسات المنطقة بناءً على التشريد على هذا النطاق الواسع. إذ استقبلت تركيا ولبنان والأردن حوالي 5.2 مليون لاجئ. وقبل اندلاع الحرب السورية، كان لبنان والأردن يستضيفان بالفعل أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين وكانت الأردن تستقبل اللاجئين العراقيين أيضًا. ودعا العديد من القادة اللبنانيين إلى عودة السوريين إلى ديارهم.

وبتزايد الضغوط السياسية في العديد من الدول من أجل عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، أصبحت قضايا المصالحة وإعادة الإعمار أكثر إلحاحًا. ويقول المراقبون إن هذا أمر مصيري فيما يخص الجهود الدولية لمحاربة الجماعات المتطرفة مثل "داعش".

أدى الصراع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى نزوح جماعي، حيث اضطر ملايين الأشخاص إلى مغادرة منازلهم

ويقول جوشوا جيلتزر، المدير السابق لمكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إنه و"من الناحية العسكرية، خطت الولايات المتحدة وشركاؤها خطوات كبيرة للتصدي للمتطرفين العنيفين في أجزاء رئيسية من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". ومع ذلك، يقول الدكتور جيلتزر الذي يعمل الآن عضوًا في مركز أبحاث أمريكا الجديدة  لـ The world weekly: "إعادة الإعمار على المدى الطويل في الرقة وسرت والمدن والمناطق الأخرى التي دمرها تنظيم داعش عمل قيد التنفيذ "، وأكد على الحاجة لـ "زيادة الجهود الدبلوماسية والمالية وغيرها" لتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة.

اقرأ/ي أيضًا: اقتصاديو الشرق الأوسط يدعون لإنهاء الارتهان للنفط

ليست الصراعات هي الدافع الوحيد للهجرة داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنها، حيث أن عدم توفر الفرص الاقتصادية جعل العديد من الشباب يبحثون عن حظهم في الخارج. وفي المنطقة التي تحظى بثاني أكثر السكان شبابًا في جميع مناطق العالم، لا يزال السخط الاقتصادي متفشيًا على مدى سبع سنوات بعد أن اجتاحت الاحتجاجات الجماهيرية المنطقة وأطاحت بالحكومات.

 وقال حارث القروي، كبير الزملاء غير المقيمين في المجلس الأطلسي مؤخرًا لـ the world weekly: "يعاني الشرق الأوسط برمته من مشاكل هيكلية" بعد "سنوات عديدة من الركود  والنمو السكاني، وغياب التنمية الاقتصادية. وأظهرت موجة الاحتجاجات التي شهدتها الأردن في وقت سابق هذا العام كيف يمكن أن تخلق البطالة المرتفعة والدين العام، وتخفيضات الإعانات التي يمنحها المقرضون الدوليون، تركيبة سامة. ومع ذلك، وبعد الانخفاض الحاد في النمو الاقتصادي عام 2017، يتوقع البنك الدولي أن يرتفع النمو الاقتصادي مجددًا، حيث وصل إلى 3.1% في عام 2018 (مقارنة بـ 2% سنة 2017)، و من المرجح أن يصل إلى  3.3% في عام 2019 و3.2% في 2020. ومع ذلك، فقد حذر البنك "أن تفسد التوترات الجيوسياسية، والتحديات التي يفرضها النزوح القسري للناس، وتصاعد مستويات الديون في المنطقة هذه النظرة الإيجابية".

يحذر الدكتور سلامة من أن الوضع فى الشرق الأوسط يعد "أزمة مطولة"، مضيفًا أن القادة غير قادرين على الاستجابة بتقديم "حلول مناسبة إذ إن التحديات أصبحت متعددة الطبقات، وتتطلب تعاونًا دوليًا وإقليميًا لمعالجة القضايا المحلية".

وتقول السيدة شيهوارو إن حقيقة أن أولئك الذين يسعون إلى التغيير قد سُحقوا، تعني أن "هناك حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى النضال من أجل العدالة والحرية والمساواة".

في شارع سوريا في طرابلس، جمعت منظمة غير حكومية محلية في عام 2015 شبابًا من الجانبين المتحاربين للقيام بمشروع مسرحي. ولتحقيق تأثير أكثر استدامة،  تم افتتاح مقهى في الشارع لاحقًا، لتعزيز الوحدة وإنشاء مكان يجتمع فيه الناس من الحيين الذين كانا في يوم من الأيام حيين متحاربين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جحيم "سايكس بيكو".. الشرق الأوسط 73 دولة؟

هل كان يمكن لحدودٍ مختلفة أن تنقذ الشرق الأوسط