26-يناير-2023
بيكاسو مع أولغا

بيكاسو مع أولغا

تكاد لا تخلو حياة فنان من مغامرات عاطفية، ولا من انعكاس هذه المغامرات على الجانب الإبداعي عنده. وقد تعرض هذا الجانب إلى كثير من البحث والنقد لفهم مدى تأثيرات هذه العلاقات والمغامرات في حياة الفنانين وغيرهم من الشخصيات التي شكلت منعطفًا في التاريخ البشري، في مجالات عدة كالفنون والأدب والسياسة والعلم.. ويعتبر هذا الجانب حيوي جدًا لفهم الفترات التي مر بها الفنان ولفهم فنه عن كثب بلسان من عايشه من النساء عن قرب في حياته اليومية. فلا يزال التاريخ يقرن أسماء كثير من الشخصيات هذه بأسماء نساء واكبوهم في حياتهم، وخير مثال على ذلك الشعراء: قيس وليلى، عنتر وعبلة، الأعشى وسعاد، جميل بثينة، كثير عزة، نزار قباني وبلقيس...

سبع نساء ظهرن في حياة بيكاسو، وكانت له معهن حكايات حب وصداقة وزواج وغيرة وطلاق وإنجاب أطفال، وكانت لهن أيضًا تأثيرات على حياته وبصمات على فنه

نرصد في هذا المقال النساء في حياة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو، المولود بتاريخ 25 تشرين الأول/أكتوبر 1881 في مدينة مالغا الإسبانية المشهورة بالتحف الفنية وشتى الابتكارات الصناعية المتنوعة. اسمه الكامل بابلو خوزيه روبز بلاسكواو بيكاسو. توفي في باريس يوم 8 نيسان /أبريل 1973 عن عمر ناهز 92 عامًا تقريبًا.

هن سبع نساء ظهرن في حياته، وكانت له معهن حكايات حب وصداقة وزواج وغيرة وطلاق وإنجاب أطفال، وكانت لهن أيضًا تأثيرات على حياته وبصمات على فنه.


1- فرنانده.. الحب الأول

كان بيكاسو يبلغ من العمر 24 عامًا حين حل في العاصمة الفرنسة باريس عام 1904 وأقام في شارع مونمارتر. في إحدى الأمسيات التقى بيكاسو بتلك الفتاة الممشوقة الفاتنة لتكون بذلك حبه الأول إذ اجتاز معها أولى مراحله الصعبة. كان بيكاسو يقيم في مشغله البارد دون أن يملك ثمن المحروقات اللازمة للتدفئة، ورافقته فرنانده في تلك الرحلة وأنارت حياته وأحاطتها بدفء المحبة، حين كان يرسم بريشته بينما يحمل في يده الأخرى الشمعة. ومع فرنانده ابتسم الحظ له فباع 25 لوحة لأحد الأثرياء دفعة واحدة، وكانت فرنانده بذلك فأل خير عليه وبسمة حظ. لكن هذه القصة انتهت مع فرار الحبيبة منه في 1911 مع شاب إيطالي، كان صديقًا للرسام موديغلياني بعدما أمضت مع بيكاسو سنوات حافلة بالتقلبات، سيما إذا ما عرفنا أن بيكاسو يصف نفسه بالقول: "أنا إسباني، لذلك أنا بدائي، وحاد المزاج".

2- إيفا.. جميلتي

جاءت إيفا لتحل محل فرنانده بعد أن اختطف بيكاسو قلبها واستمالها من الرسام ماركوسي عام 1911. تحمل إيفا الكثير من الغموض في شخصيتها، خصوصًا أنها حملت اسمًا مستعارًا هو مارسيل هومبير، وماضيها غير معروف. وقد عاش معها بيكاسو قصة حب عظيمة، وخلال وجوده معها بنى بيكاسو علاقة صداقة قوية مع الرسام الفرنسي جورج براك، في مرحلة مهمة جدًا من مراحل نشأة التكعيبية. كان بيكاسو يدون فوق لوحاته وقتذاك اسم إيفا إثباتًا لحبه لها، واسم إيفا يقترن بالأغنية الشعبية "جميلتي". وعندما ترك بيكاسو حي مونمارتر نهائيًا صحبته إيفا في تنقلاته، حيث مكث في بعض القرى والمدن الفرنسية، إلى أن استقر أخيرًا في حي مونبارناس الذي أصبح مركز أهم الفنون في العالم حينها. كان مشغله يطل على مقبرة، وكانت إيفا مريضة ومتشائمة، وما لبثت أن فارقت الحياة شتاء 1916، فحزن عليها بيكاسو حزنًا كبيرًا لم يفارقه طيلة حياته، بحسب ما أشارت الروائية والشاعرة الأمريكية غيرترود شتين بقولها: "من وقتها لم تسمع من بيكاسو أي ضحكة".

3- أولغا.. جحيم الغيرة

موت حبيبته إيفا أغرقه بمشاعر الأسى العميقة، وانتشله من حالته هذه صديقه الكاتب الفرنسي جان كوكتو الذي اصطحبه معه إلى روما الإيطالية ربيع 1917. هناك التقى بيكاسو بابنة أحد الجنرالات وتدعى أولغا كوكلوفا، والتي كانت ترقص ضمن فرقة الباليه الروسي. وسرعان ما شغف بيكاسو بجمال أولغا وفتنتها وتزوجها في صيف العام نفسه، وأقيم له احتفال مهيب في الكنسية الروسية بروما بحضور رتل من الفنانين والأدباء.

كانت أولغا تعيش عيشة أغنياء ذلك الزمان، وتحت ضغط منها جرت بيكاسو معها ليعيش حياة الأثرياء وعلية القوم

 

كانت أولغا تعيش عيشة أغنياء ذلك الزمان، وتحت ضغط منها جرته معها إلى عيش حياة الأثرياء ومخالطة أوساط النخبة وعلية القوم والتنقل بسيارة أنيقة يقودها سائق أنيق. ومع مرور الوقت تحولت مشاعر زوجته إلى نوع من الغيرة المجنونة المتطرفة أدت إلى افتراقهما عام 1935 وبعد توقفه عن الرسم لفترات طويلة. لم يستطع بيكاسو الحصول على الطلاق من أولغا وظلت تربطهما علاقة زوجية ورقية أثرت على حياته واستقرار. توفيت زوجته أولغا عام 1955.

4- ماري تيريزا.. الصديقة المثالية

التقى بيكاسو بها عام 1931، وكان متزوجًا حينها من أولغا كوكلوفا. فتنه شباب هذه الفتاة السويسرية البالغة من العمر 17 عامًا، وكانت في مقتبل عمرها تعوزها الخبرة وتتسم بالبساطة وقلة التعقيد. اتخذها بيكاسو، المثقل بهمومه الزوجية، عشيقة له، وكان يبلغ من العمر 50 عامًا في وقتها. أعطته هذه العلاقة توازنًا لحياته لا سيما أن ماري تيريزا أنجبت له ابنته مايا عام 1935 فطار فرحًا بها، وتبين أثر الطفلة الوافدة على رسوماته، وكذلك في طريقة رسمه لأجسام النساء.

5- دورا.. بجانبه في الغرونيكا

دورا! لعلها من أكثر نساء بيكاسو ثقافة، خصوصًا أنها رافقته في مرحلة رسمه لإحدى روائعه وهي لوحة الغرونيكا بكل ما تحمله من مواقف سياسية وإنسانية نبيلة. ومن بين جميع النساء اللواتن مررن في حياته، كانت دورا هي الوحيدة التي استطاع أن يتحدث معها حول الفن. بدأت دورا حياتها كرسامة لكنها تحولت فيما بعد إلى مصورة استطلاعات بعدما رأت أن لوحاتها لا تتناسب مع طموحاتها. التقى بها بيكاسو عام 1935 فكانت تلك بداية علاقة ملتهبة بينهما. خلال إعداد بيكاسو للوحته الشهية "الغرونيكا" أصبحت دورا مساعدة له، وساهمت في هذا الإعداد عام 1937، إذ كانت تلتقط صورًا فوتوغرافية لجميع مراحل العمل. وإذا كانت هي الأقرب إلى عقل بيكاسو، فهذا لا يعني أنها كانت الأوفر سعادة بين نساء بيكاسو، وقد انتهت علاقتهما بمجيء فرانسواز جيلو عام 1943، فانزوت دورا في منزل منحها إياه بيكاسو نفسه.

Jacqueline Roque
جاكلين وبيكاسو

أثرت الحرب العالمية الثانية كثيرًا في نفس الفنان بابلو بيكاسو، وقد كان لقصف مدينة غرونيكا الإسبانية من قبل الطائرات النازية أثرًا عظيمًا في نفسه. شكلت هذه المرحلة منعطفًا فريدًا في حياته وفكره السياسي وانعكس ذلك في رسوماته سيما لوحته الشهيرة "الغرونيكا" والتي أسماها تيمنًا بالمدينة الإسبانية المنكوبة التي قتل فيها أكثر من ألفي ضحية. كشفت هذه المرحلة عن إنسانيته الصادقة ومشاعره. تراوح طول اللوحة ثمانية أمتار وبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار ونصف المتر واختصر حال النكبة والذهول تجاه ما حدث. ولدت اللوحة في باريس عام 1937، ولم يوقع بيكاسو اسمه عليها ولم يسجل تاريخًا، وانتهى من رسمها وهو يبلغ من العمر 56 عامًا واعتبرها صرخة إنسانية في وجه الظلم، وشهادة أبدية ضد العدوان، ودعوة عالمية تنادي بالسلام في كل مكان وزمان. حيث أوصى بيكاسو بألا تدخل إلى الأراضي الإسبانية إلا بعد انتهاء حكم فرانكو الدكتاوري وإلى حين عودة الديمقراطية، وهذا ما حدث حيث عادت اللوحة إلى إسبانيا في العام 1981 لتنضم إلى متحف برادو في مدريد.

6- فرانسواز.. بهجة حياته

طوال ثلاث سنوات لعب بيكاسو وفرانسواز جيلو لعبة القط والفأر. التقى بها أثناء الاحتلال النازي لفرنسا عام 1943 في إحدى المطاعم الباريسية، وجذبه إليها قوة شخصيتها. كانت فرانسواز رسامة وعلى علاقة قريبة بفناني ذلك الزمن في مونبارناس وسان جرمان، فدعاها بيكاسو إلى مشغله لمشاهدة لوحاته في شارع جران أجستان، ولم تقرر الدخول في علاقة معه إلا في عام 1946 وكانت تبلغ من العمر حينها 24 عامًا بينما كان هو في السادسة والخمسين من عمره، وقد انعكست هذه العلاقة بهجة على حياة بيكاسو وأعماله. وذات يوم من عام 1985، وبعد سأم من العيش، استقلت فرانسواز القطار إلى باريس برفقة ولديها، وهناك تزوجت من الدكتور سالك، مخترع لقاح ضد شلل الأطفال.

7- جاكلين.. هدوء الشيخوخة

لم تكن جاكلين فقط زوجته، بل أرملته أيضًا. التقاهاه بيكاسو عام 1954 في معمل خزف "مادورا" حيث كان يعد أعماله من السيراميك وولدت بينهما صداقة، في الوقت الذي ابتعدت فيه فرانسواز جيلو عن حياته. تآلف بيكاسو مع تواجد جاكلين معه في مسكنه الكبير الشبيه بالمتحف لكثرة ما يحتوي من مقتنيات ولوحات. بلغ حبها واهتمامها به حدًا أوجب زواجهما عام 1961 وكان يبلغ من العمر 80 عامًا. صحبته جاكلين في مرحلته الأخيرة وفي آخر سنوات حياته وأعماله الفنية. أما دورها ومدى تأثيرها في حياته فكان كبيرًا، إذ كفل وجودها لهذا المسن الهدوء الذي كان في أمس الحاجة إليه لمتابعة إبداعه.