06-مايو-2017

تظاهرة لعمال مصريين بالقطاع الحكومي (أرشيفية/ أ.ف.ب)

"لو كل موظف تبرع بجنيه، سنجمع سبعة ملايين جنيه"، و"إحنا كدولة لازم نتحمل عبء الموظفين، لأن عندهم أسر وأبناء"، و"لدينا سبعة ملايين موظف، نحتاج منهم مليونًا واحدًا"، تصريحات عديدة من هذا النوع، أطلقها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي متحدثًا عن موظفي القطاع الحكومي باعتبارهم السبب الأول والأخير للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد.

ولم تكن العلاقة بين الدولة وموظفي الجهاز الحكومي علاقة ودودة على طول الخط، وإنما علاقة كانت المنحنيات فيها حادة، وكأنهما يشدان حبلًا من المنافع والمصالح بينهما، ولابد أن أحدهما لن يصمد طويلًا.

ولطالما خلّفت الأنظمة المتعاقبة، السابقة على ثورة 25 يناير، عدة قواعد لتوطيد سلطاتها، وتنظيم عملية التفاعل بين أجهزة الدولة والمجتمع. واستطاعت تلك الأنظمة الحفاظ على نفوذها و توغلها داخل مفاصل الدولة، عبر خلق مؤسسات وسيطة تحصل على امتيازات متعددة، هي الامتيازات "الميري" التي لطالما تغنى بها المواطن المصري العادي، الذي يعرف أن عمله الحكومي يضمن له معاشًا متصاعدًا و تأمينًا صحيًا وإن كان متهالكًا، و في العديد من الحالات، يستطيع من خلال دائرة علاقاته داخل المؤسسة، أن يُكوّن مصادر ربح غير شرعية، تمكنه من مضاعفة ما يجنيه.

تدعيمًا لسلطته، حاول النظام العسكري في مصر الحفاظ على تأييد العاملين في بيروقراطية الدولة

واستغلّ المسؤولون في كثير من الأحيان، لوائح بعض القطاعات الاقتصادية، لتحقيق الربح بطرق غير قانونية، كالرشوة أو لحماية الاحتكارات التي يتمتع بها القطاع العام، والحدّ من المنافسة من جانب القطاع الخاص، أو لتحصيل الرسوم بصورة قانونية لقاء إجراءات مشبوهة.

اقرأ/ي أيضًا: قانون الخدمة المدنية يثير غضب عمال مصر

وفي ظل محاولات النظام العسكري في مصر إلى تدعيم سلطويته، فقد سعى إلى الحفاظ على تأييد العاملين في بيروقراطية الدولة والقطاع العام. راميًا بذلك إلى  إحياء روح نظام  الرئيس السابق جمال عبد الناصر، التي كانت في جورها تسعى إلى تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم السياسية مقابل أن توفر لهم الدولة بعض الامتيازات الإقتصادية، وكثير من هؤلاء كانوا الخرّيجين الذين وجدوا فرص عمل في الجهاز البيروقراطي الحكومي والشركات المملوكة للدولة.

ونتيجة للأزمات الاقتصادية المتتالية التي عصفت بقدرة الاقتصاد المصري على الوفاء بالتزماته تجاه هذه الفئة الداعمة له، ولأن الأوضاع الاقتصادية وقفت له بالمرصاد، فقد اضطر النظام إلى النظر في اعتماد تدابير تقشّفية، ما يحدّ أكثر من المزايا التي يتمتّع بها موظفو جهاز الدولة والعاملون في القطاع العام.

وحين وجد النظام نفسه في ورطة، تفهم أنه للحفاظ على وجوده عليه أن يعمل على محورين، الأول توطيد دعائمه من خلال دعم قطاعات الشرطة والجيش والقضاء، فزادت الرواتب والمزايا والمعاشات التقاعدية الممنوحة لضباط الجيش والشرطة وللقضاة، مُبقيًا على المعاشات والأجور والإعانات الضخمة التي استهلكت 75% من إجمالي الإنفاق الحكومي، وفقًا لوزارة المالية.

وفي دراسة أعدها مرز كارنيغي للشرق الأوسط، توضح بشكل عام طبيعة العلاقة بين الدولة التي يتحكم الجيش في معظم مقدراتها، وبين موظفي جهاز الدولة، ليتبين أن هؤلاء الموظفين، وعلى سبيل المثال، هم الذين قادوا الاحتجاجات العمالية في مصر منذ عام 2004، كما أنهم شاركوا في 68% من الاحتجاجات خلال الفترة ما بين 2007 و2014، بما فيه ذلك احتجاجات ثورة يناير في 2011.

وكانت خصخصة الشركات المملوكة للدولة أحد العوامل الأساسية وراء الاحتجاجات. ومع أن الخصخصة تقلصت بشكل كبير بعد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، إلا أن موظفي القطاع العام واصلوا احتجاجاتهم وتظاهراتهم لأسباب تتعلق في العادة لظروف العمل والأجور. ووفقًا للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، نظّم العاملون في القطاع العام 86% من مجمل الاحتجاجات العمالية خلال الفترة ما بين 2013 و2014.

الموظفون و"مجزرة الإصلاح"

في الفترة الأخيرة بدأت الأذرع الإعلامية للدولة، في تهيئة الرأي العام لما أسمته بالإصلاح الاقتصادي "القاسي"، الذي بدأ بتعويم الجنيه فالارتفاع غير المسبوق في الأسعار على كل المستويات من دواء وغذاء وسلع وخدمات.

ورغم أن الدولة اتخذت خطوات استباقية لامتصاص الغضب الناتج من هذه "الإصلاحات"، بزيادات في المعاشات، إلا أن المواجهة بين النظام وموظفي القطاع العام، تبدو وشيكة، ولكن كيف؟

تكمن مشكلة النهج الذي يتبعه النظام في عدم وجود ما يكفي من الإيرادات للاستمرار في كسب رضا الموظفين والعاملين وأسرهم الذين يعتمدون على الدولة بشكل أساسي، من دون تدفّقات رأسمالية كبيرة ومتواصلة من الخارج. فقد تزايد عجز الموازنة المصرية والدين العام منذ عام 2011، وذلك أن عجز الميزانية الذي يبلغ حوالي 13%، يعني المزيد من التضخم وارتفاع أسعار الفائدة، ومنع القطاعات الإنتاجية تدريجيًا من الحصول على القروض المصرفية، ما يؤدي إلى مزيدٍ من التدهور الاقتصادي.

اقرأ/ي أيضًا: عمال مصر.. كلمة السر في الثورة!

أما البداية فكانت في وزارة التخطيط التي انطلقت لتنفيذ خطة للاستغناء عن ستة ملايين موظف، من خلال خطة ستنفذ على خمس مراحل، على أن يكون عاملو الخدمات المعاونة والحرفيون، المحطة الأولى لتنفيذ الخطة.

ويهدف المشروع أيضًا، والذي تحدثت عنه أكثر من وسيلة إعلامية مصرية، إلى تخفيض أعداد العاملين بالجهاز الإداري، بحيث يكون هناك موظف واحد لكل 40 مواطنًا، ما يعني تسريح ستة ملايين موظف، وخفض كبير في الموازنة العامة للدولة.

هذا ولا يُمكن التغافل عن التضخم الشديد في الجهاز الإداري للدولة، من حيث أعداد الموظفين، ومن ثم الفساد الكبير المتغلغل بين تراتبية ملايين الموظفين، فتضيع الحدود بين المال العام والخاص، وتنتشر الرشاوى والمحسوبيات، فترتفع التكلفة الاقتصادية لهذا الفساد على البلاد. ولا يُمكن تسمية وصف هذا الفساد بالممارسات الفردية، كونه يتحرك في أطر شبكية تمنحه نوعًا من المؤسسية أو غطاءً من البيروقراطية، ومن ناحية اجتماعية، فإن "اقتصاد الفساد"، يُؤدي إلى إعادة توزيع غير عادل للدخول.

ماذا عن رجال الجيش والشرطة في القطاع العام؟

من المعروف أن النفوذ الاقتصادي للجيش المصري منذ الإطاحة بمبارك ومن بعده محمد مرسي، وتهميش أي منافسين سياسيين على الساحة السياسية في مصر؛ قد فتح الباب على مصراعيه لسيطرة الجيش، وبخاصة في المناصب الكبرى، على العديد من القطاعات الاقتصادية في البلاد.

لكن ذلك ليس بجديد، وإنما تصعيد في هذه السيطرة، وتوسيع لدائرة النفوذ، فمنذ أوائل التسعينات، كانت السياسة العامة تسير في طريق استمالة كبار الضباط بوعود بتعيينهم، بعد تقاعدهم، في مناصب هامة في الوزارات والهيئات الحكومية ومؤسسات القطاع العام. وخلق هذا ما يُسميه الخبراء الاقتصاديون "جماعات مصالح داخل الدولة"، وهؤلاء لا علاقة لهم بدورتها الإنتاجية، سوى وجودهم على ذروة سنام المصالح الحكومية ودوواين الوزارات.

يسيطر ضباط متقاعدون على الوظائف الرئيسية في عديد هيئات القطاع العام، مستهلكين جزءًا ضخمًا من الموازنة العامة للدولة

ويعد أهم الذين عينوا محافظين على أهم المحافظات في مصر، هم ألوية سابقون في الشرطة أو ضباط جيش متقاعدين، أو مساعدون لهم. هذا فضلًا عن التوغل في القطاعيْن المدني والاقتصادي، ومشروعات البنية التحتية، وحصولهم على وظائف أساسية في الدولة، مشكّلين بذلك الأغلبية الساحقة من كبار الموظفين الدبلوماسيين، ونسبة كبيرة من رؤساء ومديري وأعضاء مجالس الشركات الحكومية، وغير ذلك، فضلًا عن أنهم مثلوا نسبة كبيرة من الوزراء ومساعدي الوزراء ووكلائهم، وكذا المدراء العامين في الوزارات المختلفة، وأعضاء رئيسيين في دواوين وزارات عديدة.

هؤلاء الذين يضعون أيديهم على جزء ضخم من الموازنة العامة المصروفة للدولة، وبخاصة منهم أعضاء دواوين الوزارات الرئيسية، كوزارة الصحة على سبيل المثال؛ هل ستطالهم إجراءات الإصلاح الاقتصادي "القاسية"، بخاصة وأن أدوارهم غير فعلية في هذه الوظائف، لا على مستوى الإنتاج، ولا الخدمات الإنتاجية والكفاءة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

سياسات حكومة الجنرال قتل المواطنين

لماذا يتحسن الاقتصاد المصري بالنشرات الحكومية فقط؟