11-نوفمبر-2015

تجهيز لـ عصام كرباج

أجلس على طاولة المحقق، يبدأ بالأسئلة ويملأ بياناتي لتقديم طلب اللجوء، أسترسل بالإجابات: نعم.. لا.. لا.. لا.. ثم يسأل فجأة: هل لديكَ رصيدٌ في البنك؟. أصمتُ لحظةً ثم أضحكُ، أضحكُ دونَ القدرة على الإجابة، يتركُ لوحةَ المفاتيحِ التي يكتبُ بها حوارنا، يخلعُ نظارتَهُ ويضحكُ، يضحكُ، المترجمُ على السماعة لا يتمالكُ نفسه فيضحكُ.

وبينما يسيطرُ الضحكَ على المشهد، أفكرُ كيف سأفهمُه أنّني تزوجتُ بالدين حبيبتي التي أحَبّتني وكانَ حبّها دينًا، وأن بيتي الذي قضيتُ فيه شهرَ العسلِ استأجرتُه بالدين، وأن العسلَ كانَ بصلًا بلديًا وبالدين؟ كيف سأقنعه أنني عشتُ عامًا في لبنان أسبحُ وأستجمُ ببحرِ الدَّين، وأتمشى على كورنيشِ الدين، وأن رحلتي هذه كلّها بالدين؟ كيفَ سأخبرهُ أن رصيدي في البنك عكسيّ، وأنّني أملك رصيدًا بستةِ آلافِ دولارٍ أمريكيّ دينًا عليَّ لا لي؟
ستة آلاف دولار تقبع فوق ظهري كصخرةِ سيزيف، وما أثقل الدين! فكيف إن كان بهذا المبلغِ الذي لم أفكرْ أن أحلمَ يومًا بامتلاكه، ستة آلاف دولار تساوي ثلاثة مليون ومائة ألف ليرة سورية، مبلغٌ خياليّ بالفعل.

هل سيعيد طرحَ السؤال بعد أن ينهي ضحكته، لأجيبهُ أن لديَ رصيد أحلامٍ لم تنتهِ بعد، سأسدّد ديوني وأبدأ بتحقيقها؛ سأصبحُ مذيعًا في إذاعة "BBC"، وسأعدّ برنامجًا يُحدثُ نقلةً في عالم الأدب، سأكون كاتبًا وشاعرًا ذا حضور، سأتعلم العزف على البيانو وأجنّ بهدوء أوتاره، سأؤلف مقطوعة الفصول الخمسة حيث سأضيف فصل الانتظار على مقطوعة فيفالدي، سأطبعُ ديواني بكل أخطائه اللغوية والعروضية، وسأطلعه على العنوان؛ "لا عناوينَ للغيابِ"، وبعض القصائد، ستكون لوحة الغلاف من تصميمي ورسمي لأنّني سأصبحُ حروفيًا.

سأحدثه عن دمشق وعن حلمي بالعيش بها لولا الحرب والخدمة العسكرية، سأحدثهُ عن حلب وجامعتها التي لم أستطع أن أحضر محاضرة واحدة بقسم الفلسفة الذي أدرسهُ، فأوقفت تسجيلي وبقيت أحلم بتسجيل الحضور، سأقصّ عليه قصص الحبّ التي كنتُ أعيشها مع نساءٍ لم يكنَّ على قيدِ الحياة ولا الموت، كُنّ على قيدِ الحلم والخيال.

هل سيعيد طرحَ السؤال عليّ لأخبرهُ أنّني لم أدخل بنكًا في حياتي، وأن أكثر مبلغٍ استطعت جمعه هو ألف دولار تصوّرت معه وأبقيته ليلة واحدة في حضني، وفي صباح اليوم التالي سدّدتُ بعضَ ديوني بهِ. ليته يعيد طرح السؤال لأجيبهُ أن القروي لا يملكَ أرصدةً ومالًا، القروي يملك حقلًا من الأحلام البائرة، بقرةً وستَ نعاج، كشةَ حمامٍ بريّ وعشرينَ دجاجةً، خمس منها تبيضُ بيضًا يختلف عن كل البيض. كيف سأوضحُ له أن القرويَ لا يحلمُ بأبعدَ من موتور الهوندا (الدراجة النارية) ولا ينام وفي جيبهِ أكثر من قوتِ الشهر. كيف سأخبره بالمثل الذي يقول: "الشاوي ما ينام وتحت رأسه حلاوة"؟

 كيف سأوصل له فكرة أنّنا مجرد أن نضع رؤوسنا على الوسادة ننامُ بعمق، لأنّ قلوبَنا نظيفةٌ تمامًا من أي غِل، ولأنّنا لا نخاف من الغد، نؤمن بأنّ الله سيقسم قوتَ غدٍ غدًا، رغم أن الحرب زعزعت هذه الفكرة عبر مخيم اليرموك والغوطة. كيف سـَ.... ، ينهي ضحكته، يرتدي النظارة ثم يطلب من المترجم أن يوضح لي أنه يعرف بأن هذه الأسئلة ليست لي لكن يتوجب عليه طرحها، وهو الآن سيختصر عليّ العناء ويجيب عن كل الأسئلة بـ لا.

اقرأ/ي أيضًا:

حبيبتي تستيقظ من كابوس قناص

أمتعة الحرب