27-يناير-2019

لوحة مستلهمة من موراكامي لـ جيزي دفورسك/ التشيك

1

ما هي قدرة الأدب على إنتاج التغيير؟ هل بمقدوره أن يُساهِم مثلًا في الحدّ من عدد الفقراء في العالم؟ وهل تستطيع قصيدة شعرية أن تخفّف على المواطن البسيط أثقال الضرائب التي ترهق جيبه؟ كان الرومانسيون، ثمّ لحِق بهم الحداثويون، يقولون بنوع من الثقة أنّ الغاية من الأدب ليس تقليد الواقع بل تغييره! (تيري إيغلتون). لكن لم يُحدّثونا بصراحة: ما الذي يدخل في نطاق الأدب حتّى يكون هدفا لذلك التغيير؟ هذا السؤال يُقلقني شخصيًا، خاصة عندما أجد صعوبة في إقناع البعض بجدوى الأدب، وما هي حاجتنا إليه. ويزداد هذا القلق الممزوج بنوع القرف لما أقرأ ذلك النوع من الكتابات الغارقة في حالة من التصوّف، خاصة وأنّها تتكلّم عن أمور لا وُجود لها على أرض الواقع، تشعر أنّها تنقِّب عن أشياء لا يراها إلاّ كتّابها. لقد بلغت هذه الكتابات مستوى من اللاكتابة، لأنّها فارقت شكلها الطبيعي، وعطّلت وظيفتها الاجتماعية، وأضحت أشبه بصلوات يتضرّع بها كاتبها إلى آلهة مجهولة. هل نأمل في هذا النوع من النصوص المنغلقة على نفسها أن تنتج التغيير؟ علمًا أنّنا إلى اليوم لم نحسم في أمر هذا السؤال.

2

نصيحة للكتّاب: احذروا من لفظة "التجديد"، فبقدر ما تُغريكم، فهي لفظة مُبهمة إلى حدّ بعيد، وليس مُستبعدًا أن تضعكم في مواقف مُحرجة جدًّا. السؤال المبدئي الذي أطرحه هنا هو: ما الذي يمكن أن يقوله الأديب من كلام لم يسبقه إليه غيره؟ أي: ما الذي يُشكّل إبداعًا جديدًا؟ ما يستعمله الأديب في نصّه قد استعمله غيره، فكما قال تيري إيغلتون، فهذا الشاعر كولردج لم يخترع ملاّحيه القدامى، ولم يصنع كيتس الجِرار الإغريقية من بنات أحلامه. فليس هناك شيء صنعه الأديب بنفسه! إنّ العالم الذي يتحدّث عنه الأديب سابق لأدبه، بل هو العالم نفسه الذي تحدثت عنه الأعمال الأدبية السابقة. فما الذي يبدعه إذًا؟ ما الجديد الذي سيأتي به طالما أنّ النصّ الذي يبدعه، هو أيضًا، تجميع لقصاصات وفضلات نصوص سابقة (إيغلتون)؟

3

يحدث أن تقرأ رواية ضخمة، ومع ذلك لا تشعر بالملل عند قراءتها. إنّ النظر إلى رواية ضخمة قد يزرع الخوفَ في نفسية القارئ، فالقارئ اليوم تُغريه الروايات النحيلة [!] أو تلك التي يمكن قراءتها في جلسة واحدة.

أعرفُ شخصًا قرأ رواية موراكامي 1Q84 وهي تناهز الستمئة صفحة في ست ساعات فقط. أمّا بالنسبة لي فقرأتُها على فترات متقاطعة، دون أن ينقطع خيط القراءة ولو للحظة، ولم أفعل ذلك إلا تحت ضغط العمل، ومع ذلك فرواية موراكامي هي من النوع الذي لا ترغب في انتهائها، فهي نهر متدفق من المتعة.

ثمّة لمسة مجنونة في هذا النص الباذخ، أقصد أن الروائي فتح السرد على أقصى حدود التخييل. أراد أن يجعلنا نعيد النظر في وظيفة الحكاية: الإمتاع والإدهاش، وبين الحالتين، يمرّر أشياء ليقولها.

تخيّل أورويل عام 1984، فوصفه بعالم الأخ الأكبر، الذي يتحكّم في منظومة شمولية، معتمدًا على قوة التكنولوجيا في السيطرة على كل أبعاد الإنسان. حتى المخرج الأمريكي جيمس كاميرون ألهمته هذه السنة 1984 لتكون عام البشر الآليين القادمين من المستقبل، بهدف تدمير العالم.

أما في رواية موراكامي، فلا وجود للأخ الأكبر، ولا للرجل الآلي (التيرميناتور)، فعام 1984 هو عام لاأورويلي. لكنه تحدّث عن عالم مواز له هو عام 1Q84.

وراء هذا العالم توجد عوالم أخرى لا يدركها إلا ذوي القدرات الاستثنائية. أبطال موراكامي من بين هؤلاء الاستثنائيين الذي انتقلوا من عام 1984، إلى عام 1Q84. فما الفرق بينهما؟ هو الفرق بين رؤية أورويل المسكونة بغطرسة التكنولوجيا المادية التي تطورت إلى ضرب من الذكاء الصناعي المستقل عن الذكاء الإنساني، والتي صارت تتحكّم حتى في عواطف الناس وفي خيالاتهم. أما رؤية موراكامي فانفجرت من روحانية الشرق؛ لأن عالم 1Q84 هو عالم روحاني. الخطر القادم لا تصنعه الآلة، بل يصنعه الدين.

ما الذي يخرج من حركة دينية؟ في الرواية قصةّ غريبة عن الرجال الصغار الذين يخرجون من عيون الماعز العمياء، يهددون توازن العالم، ويعدون بعصر الظلام، والحل هو في الحب. نعم! فعلاقة أومامه بحبيبها تنغو، اللذان لم يلتقيا منذ عشرين سنة، هي ما سيحافظ على التوازن. لكن بأي ثمن؟ ثمن التضحية. قبل أن تجهز أومامه على زعيم الحركة الدينية، أخبرها أنّها أمام خيارين: إما ان تبقيه على قيد الحياة، فتنجو هي من الموت ويموت حبيبها تنغو، أو تقتله وتموت هي وينجو حبيبها من الرجال الصغار. في هذه الحرب بين الخير والشر، بين النور والظلام، لا يملك الإنسان إلا سلاحين: الحب أوالتضحية. نفهم في الأخير، أنّ ثمن الحب الحقيقي هو التضحية. الحب الحقيقي هو أصلًا قائم على استحالة اللقاء.

لا ندري ما الذي يخفيه الجزء الثالث من الرواية، تركنا أومامه في نفس المكان الذي انطلقت فيها أحداث الرواية في الجزء الأول، وهي تحمل مسدسًا، لأجل أن تنتحر. وتركنا تنغو في القطار يقطع على نفسه وعدًا أن يجد حبيبته أومامه.

4

من الخطأ أن نصف عملًا روائيًا بالواقعي إذا كانت شخصياته لا تتكلم مثل الناس في الواقع، ولا تراعي مستوياتهم الاجتماعية. ما يجعل شخصية ما غير واقعية أنها مثلا تتكلّم برطانة بلاغية فخمة، بحيث يكون كلامها أكبر منها بكثير.

5

في لَحظةٍ ما، قد تنسَحِب من المشهدِ الثقافيّ، وتختارَ تلك العُزلةِ الضرورية للتفكِير في نفسِك. لا تستطيع أن تكون كاتِبًا وأنتَ تُفكِّر في غيرِك. الكِتابة الحقيقية هي إزاحة للغير، واستعادة للذَاتِ. أشفق كثيرا على الذين يكتبون للآخرين، ويتناسون أنّ الكتابةَ هي أوّلًا اشتغال داخلي حول الذاتِ. انسحبتُ، واستأثرتُ الصمت، والابتعاد عن الأضواءِ. أخيرًا انتشلتُ نفسي من تلك المعارِك الخاسِرة، ومن تلك الجدالات التي ترهق الحِبر، وتُحرق الأعصابَ فيم لا يغذّي الكلمات بروح الإبداع. العُزلة، حين تكون خيارًا، هي حماية للكلمات من التفسّخ بفعل انعدام حسّ المسؤولية الأخلاقية والجمالية اتجاهها. المعارك تقتل الكلمات، تُفقدها وهجها، وألقها، وجمالها، وصدقها.

6

صرتُ أكثر تنبهًا للقراءة، وأكثر إنصاتًا إلى ذلك الشغف الخفيّ الذي يُحرّك الرغبة في الكتابة خارج ضغوطات الخارج. ما عدتُ بحاجة إلى أن أكتب لتنوير عالم لم يعد يبالي بغرقه. صرتُ مهتمًا بانتشال ذاتي من غرق وشيك. كلنا، في الحياة، معرّضون للغرق. القراءة إحدى تلك الوسائل التي تحول بيني وبين السقوط داخل حفرة الآخرين. أتعلّم منها كيف أتدرّب على حكمة الصمت، وعلى حكمة العزلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من أين أبدأ مع هاروكي موراكامي؟

رواية 1984.. التحفة الأدبية التي قتلت جورج أورويل