21-أكتوبر-2017
المخرج دارين أرنوفسكي

المخرج دارين أرنوفسكي (Telegraph)

بدأ دارين أرنوفسكي حياته كعالم نباتات، وذلك ما استدعى انتقاله لعدة دول في أوروبا والشرق الأوسط، حيث شاهد حضارات مختلفة وتجارب جديدة عليه تمامًا، مما جعله بعد العودة من تلك الرحلة يقرر دراسة صناعة الأفلام. وبالفعل، تخرج أرنوفسكي من جامعة هارفارد ومعه شهادة في الدراسات السينمائية. التحق بعد ذلك مباشرة بالمعهد الأمريكي للأفلام، وهناك تعمق في دراسة الإخراج.

أرنوفسكي ليس من هواة الجوائز، والترشيحات لها حتى، فهو يعرض أعماله في غير  مواسم الجوائز كما يفعل بعض المخرجين الآخرين

 

في عام 1998 صدر أول فيلم روائي طويل من كتابة وإخراج أرنوفسكي، واستقبله النقاد بترحاب كبير. من بعدها ذاع صيته كمخرج، وبدأت شركات الإنتاج تتهافت عليه. وعمل بعد ذلك على أول فيلم بميزانية مرتفعة وكان بعنوان "Requiem for a dream"، ونال المديح من النقاد أيضًا، كما حصل على أول ترشيح لنيل الأوسكار عن ذلك الفيلم. وتوالت بعد ذلك أعماله ككاتب ومخرج لتصل إلى سبعة أعمال، أخرها فيلم من بطولة جينيفير لورانس وخافيير بارديم بعنوان "Mother!".

مقال اليوم المترجم بتصرف عن موقع سينالينكس يستعرض أبرز علامات أرنوفسكي المميزة، التي تكررت في أعماله بصفة مستمرة حتى أصبحت سمة مميزة ومسجلة باسمه، سواء كانت إخراجية أو في القصة أو طريقة السرد أو حتى المونتاج.


1 – تطلعات مستحيلة
بالرغم من التنوع في مواضيع أفلام أرنوفسكي، تعاطي المخدرات، والتفاني الفني، وحكاية من الكتاب المقدس وما بعد الحياة. إلا أن أفلامه كلها تصنف كأفلام دراسة شخصيات. إذ أن أصدقاء بطل القصة أو أقاربه أو المحيطين به دومًا يكونون تعيسين في حياتهم نتيجة قربهم منه. أما البطل فيكون مهووس بشيء ما بشدة، مما يدفع من حوله نحو الهاوية سواء بإيذاء بدني أو نفسي.

غالبًا ما تكون النتائج كارثية وهذا ما يجعل أفلام أرنوفسكي تصور الصراع بين ما تريد الشخصية الرئيسية تحقيقه، وبين القيود أو التضحيات المرتبطة بتحقيق هذا الهدف.

الأهم من ذلك أن شخصيات أرنوفسكي على بينة من طريق الهلاك الذي يسلكونه. وبهذه الطريقة شخصياته ليست بالضرورة تحت رحمة مصير أو تخضع لرحلة الحياة. بدلًا من ذلك، فإنها تزيد من تلك التحديات التي يواجهونها، حتى لو أنهم لن يكونوا قادرين على التغلب على تلك التحديات.

في فيلم "مرثيّة حلم" للمخرج لأرنوفسكي كان أبطال القصة -مدمني المخدرات- لديهم أحلامًا، ولكنها صعب الوصول إليها، وفي الوقت نفسه، لا يمكنهم التخلي عنها لأن الأحلام نفسها هي ما تبقيهم على قيد الحياة وهي ما تعطيهم الأمل.

في فيلم أرنوفسكي الشهير الآخر "المصارع"، كانت الشخصية الرئيسية تسعى للمجد في رياضة المصارعة، لكنه يعاني من أزمة قلبية تمنعه من ممارسة المصارعة مرة أخرى، لذلك يتقاعد ويبتعد البطل عن رياضته المفضلة ومصدر نجاحه.

أما فيلم أرنوفسكي البديع "البجعة السوداء"، كانت الشخصية الرئيسية راقصة الباليه التي تريد بشدة أن تكسب دور البجعة السوداء -الجزء الرئيسي في الرقصة- ويجعلها هذا الهدف في ضغوطات دائمة وإرهاق طويل. رغم أنها تعرف مصير الراقصين السابقين الذين لعبوا نفس الدور، إذ لم ينتهِ بهم الأمر على خير، ثم تبدأ في رؤية التضحية التي يتطلبها الدور وتقرر عدم الاستسلام.


2 – ميل الأفلام للرعب

نتيجة كون الشخصيات الرئيسية لأعمال أرنوفسكي تعاني من الاضطرابات النفسية، فإن أفلامه تتجه لأن تشبه أفلام الرعب. ففي فيلم أرنوفسكي "النافورة"، تدور القصة عن رجل يبحث عن ينبوع الشباب، وبالفعل انتهى سعيه بالنجاح، ولكن ليس بالطريقة المعتادة. إنه يفسر الخلود في الحياة الجديدة، إذ صوره أرنوفسكي بأن أشجارًا تنتشر من خلال جسده –البطل- بشكل مؤلم ومميت. في فيلم "نوح"، يكون الفيضان قادم لا محاله، وذلك ما يحرك تصرفات الشخصية الرئيسية، والخطر يظل حتى بعد انتهاء الفيضان.

بالرغم من التنوع في أفلام أرنوفسكي، تعاطي المخدرات، التفاني الفني، حكاية من الكتاب المقدس. إلا أن أفلامه كلها تصنف كدراسة شخصيات

وفي فيلم "البجعة السوداء" تفقد راقصة الباليه "نينا" عقلها، وتصبح غير قادرة على السيطرة على نفسها، بعد أن تقمصت دورها تمامًا. وينتهي دور البجعة السوداء بالتضحية بالنفس، إذ تتوحد نينا مع البجعة السوداء، لتشاركها مصيرها.


3- الاتساق في الصوت والرؤية

أرنوفسكي يعمل مع نفس الأشخاص، ليس فقط الممثلين، لكن حتى الجنود المجهولين خلف الكاميرا. لذلك يعتبر كلينت مانسيل موزع أرنوفسكي المفضل، ودومًا ما يكون حاضرًا معه في معظم أعماله. مانسيل له دور كبير في الأجواء التي تدور فيها أعمال أرنوفسكي، وفيما بعد أصبحت موسيقاه مرتبطه بالمخرج أرنوفسكي وأعماله.

موسيقى تبدأ هادئة ثم بعد ذلك تدخل الآلات الموسيقية الحادة فيها، التوتر والقلق والخوف والرعب في بعض الأحيان، يكون لمانسيل دور كبير فيها. وعلى غرار الموسيقى، فإن جميع أفلام أرنوفسكي -ماعدا "المصارع"- كانت من تصوير المصور السينمائي ماثيو ليباتيك، ولعل أبرز ما يميز تصويره هو الحفاظ على صورة مضاءة بشكل طبيعي بدون تعديلات. وتشمل الأمثلة غروب الشمس المتناقضة في "نوح"، والنجوم المتوهجة، وتسلسل ضوء الشمعة في "النافورة".

ومن المعروف أيضًا عن ماثيو ليباتيك قدرته على تطويع أسلوبه ليتكيف مع طلبات المخرج، أي في حالتنا هذه أرنوفسكي. ويستخدم فقط نوعًا واحدًا من الكاميرا لتصوير العمل بأكمله، مما يعطي للعمل تناسق كبير واتساق مع بعضه البعض.


4- الإخراج التعبيري

"التعبيرية" هي مذهب من مذاهب الفن، وهي طريقة يقدم من خلالها الفنان وجهة نظر ربما تكون محرّفة، للعالم من حولهم، من أجل خلق أو إثارة مشاعر معينة. ومن هنا، فإن أرنوفسكي يستغل الجانب البصري للتعبيرعن المزاج العام للفيلم للجمهور.

وفيلم "باي" هو مثال عظيم لذلك في أفلام أرنوفسكي، فالفيلم بأكمله بالأسود والأبيض، ليس هذا فحسب بل أن التصوير مرتبك وغامض لأبعد الحدود. الصورة ليست واضحة أبدًا، أو مستقرة، أو في أي موقف يمكن للجمهور أن يشعر بالراحة فيه.

اقرأ/ي أيضًا: 9 أفلام أمريكية ستطالها الفضائح الجنسية لهارفي واينستين

هدف أرنوفسكي هو إظهار الفوضى وعدم القدرة على التنبؤ بالكون، الشخصية الرئيسية في ذلك الفيلم هي "المحاولة" للعثور على طريقة رياضية لفهم كل شيء. ولكن كما يوضح أرنوفسكي فإنه كلما حاولت تبسيط الأمور أكثر مما ينبغي قد تصبح أكثر تعقيدًا.

وفيلم "النافورة" للمخرج أرنوفسكي أيضًا يتميز باتجاه تعبيري آخر ولكنه ليس بالأبيض والأسود، هذه المرة يتميز الفيلم بعدة قصص منفصلة لم يتم تأكيد أنها على علاقة ببعضها البعض، على الرغم من ضعف العلاقة بين القصص.

جاءت القصة الرئيسية لمعالجة عدم التيقن من الموت، ولكن بطلة تلك القصة في أرنوفسكي تستسلم لمرضها، مما يصيب باقي القصص الأخرى بالإحباط واليأس في مواجهة الموت. أرنوفسكي هنا يطالبنا بالتشبث بالأمل، ولكنه يذكرنا أيضًا بكم هي الحياة قاسية ولن تتركنا ننتصر بسهولة.


5- تقنيات المونتاج

يستخدم أرنوفسكي تقنيات التحرير والحركة لاستحضار وجهات نظر شخصياته، فمن المهم أن يفهم الجمهور ما يمرون به بأكبر قدر ممكن من الوضوح. ويتم ذلك عن طريق وضع الجمهور في مكان الشخصية، بمعنى آخر يجعلنا نرى ما يراه البطل وكيف يرى الناس من حوله لتحقيق ذلك.

في فيلمي أرنوفسكي المعروفين "المصارع" و"البجعة السوداء"، تتبع الكاميرا البطلين، وتجري خلفهما، وقت استعدادهما لتأديتهما استعراض ما –مباراة مصارعة أو رقصة باليه. هذا التكنيك لدى أرنوفسكي يساعد الجمهور في الحصول على الشعور بالبيئة المحيطة بهم.

نرى البطلة نينا في "البجعة السوداء" أثناء تدريبها، والكاميرا تدور حولها، ثم تومض مرة أخرى إلى وجهها مع تعبير غير مريح. وهكذا يجعلنا أرنوفسكي نرى ونفهم نضالها عن طريق القطاعات القريبة على الوجه. نبدأ في فهم آلامها الجسدية وكذلك التأثير النفسي عليها.

في فيلم "قُدّاس الحلم"، نجد أرنوفسكي يقسم الشاشة جزئين، ويستخدم في منظور البطل وأمه، وفي الأخر البطل وصديقته

في فيلم "مرثية حلم"، نجد أرنوفسكي يقسم الشاشة إلى لقطتين مختلفتين، ويستخدم هذا المنظور بين البطل وأمه، والأخرى يظهر عليها البطل وصديقته.

ليبين لنا أرنوفسكي تأثير المخدرات ليس فقط على الشخص نفسه، ولكن على علاقاته مع أقرب الناس إليه، حيث يستخدم أرنوفسكي لقطات سريعة لإثبات آثار تناول المخدرات، وتنتج عن السرعة صورة غير مريحة. ليس فقط القصة صعبة، ولكن كادرات أرنوفسكي المقلقة تساعد على ضرب أعصاب المشاهدين في مقتل، لتوعيتهم عن أضرار المخدرات.

أرنوفسكي ليس من هواة الجوائز والترشيحات لها حتى، فهو يعرض أعماله في غير مواسم الجوائز -نهاية العام- كما يفعل بعض المخرجين الآخرين لتكون أعماله في دائرة الترشيحات. مع ذلك حصل أرنوفسكي على ترشيح وحيد للأوسكار كمخرج وهو عن فيلم "البجعة السوداء".

ويعرض الآن في السينمات فيلمه "Mother!"، وأثار آراء نقدية متضاربة للغاية، ما بين إعجاب وانتقاد. وقد حقق الفيلم 70% على موقع "روتن توميتوز" وحقق إيرادات جيدة في شباك التذاكر الأمريكية، وهذا يعدل باستمرار الجدل حول دارين أرنوفسكي وأفلامه الأثيرة.