09-فبراير-2016

غرافيتي للأمير الصغير

الترا صوت- فريق التحرير

رغم أن هناك كمًا هائلًا من الكتابات الأكاديمية حول فن الرواية ونقدها وتاريخها، إلا أن أبدع الكتب وأمتعها في هذا الباب هي تلك التي يصدرها الروائيون أنفسهم، لأنهم حين يكتبونها يمزجون في بوتقة واحدة: الحب والخبرة، فتكتسب اللحظات النقدية مسحة من التشويق لا يمكن أن نجدها في الكتب ذات الطابع الأكاديمي الصارم، وتصبح شهادات الخبرة تلك أشبه بسير ذاتية للنصوص. هنا وقفة مع خمسة روائيين عالميين ممن كتبوا في حب الرواية، ويحاولون إجابة سؤال يتكرر، ببساطته وتعقيده: كيف تكتب رواية؟ 


1- ميلان كونديرا.. كواليس وموسيقى

ربما يكون الروائي التشيكي ميلان كونديرا من أكثر الروائيين الذي تحدثوا وأجابوا عن سؤال "كيف تكتب رواية"، من خلال ما نقرأه في ثلاثيته الشهيرة "فن الرواية"، و"الوصايا المغدورة"، و"الستارة". 

كونديرا في كتبه تلك يقيم علاقات غريبة بين البناء الروائي والبناء الموسيقي، كما يكشف ملامح خفية من أسرار نصوصه، فيبدو في الوقت الذي يحاول أن يقول فيه رأيه في الرواية ككل يقول أسرار مطبخه ورواياته.

في كتاب "فن الرواية" الذي كتبه في 1986، يتحدث عن ثلاث نقاط تتعلق بآلية كتابة الرواية الأوروبية، في الفصلين الأول والسابع يتحدث كونديرا عن فن الرواية الأوروبية، بينما كان الفصلان الثاني والرابع مخصصين لحوارين أجراهما كونديرا، يتحدث في الأول عن فن الرواية، وفي الحوار الثاني عن فن تأليف الرواية، وكيف تكتب رواية. أما الفصل السادس فهو قاموس شخصي يتضمن واحدًا وسبعين كلمة، الفصول الثلاثة السابقة تتحدث عن التجربة الروائية الشخصية لصاحب "كتاب الضحك والنسيان"، أما الفصلان الثالث والخامس فخصصهما لدراسة التجربة الروائية لكل من فرانز كافكا وهرمان بروخ.


2- غابرييل غارسيا ماركيز.. دزينة أحلام

لم يكتب ماركيز كتابًا مكرسًا للرواية، لكنه فعل ذلك في مقالات متفرقة، قام صالح علماني بجمع دزينة منها تحت عنوان "كيف تكتب الرواية؟" وهي مقالات نُشرت في فترات متباعدة في عدد من الصحف الأمريكية اللاتينية والإسبانية.

يوجّه ماركيز حديثه إلى الكتاب المبتدئين الراغبين في كشف السر عن سؤال "كيف تكتب رواية"، وهو يعني بذلك من يعتقدون أن "الأدب هو فن موجه لتحسين العالم"، أما الآخرون الذين "يرون أنه فن مكرس لتحسين حساباتهم المصرفية فلديهم معادلات للكتابة ليست صائبة وحسب، بل يمكن حلها بدقة متناهية وكأنها معادلات رياضية".

وعن آلية الكتابة الروائية يرى ماركيز صاحب "مائة عام من العزلة" أنّ "القصص القصيرة أمر لا مناص منه، لأن كتابتها أشبه بصب الإسمنت المسلح. أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر. وهذا يعني أنه إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها. بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك: إذ من الممكن العود للبدء فيها من جديد. وهذا ما حدث معي الآن. فلا الإيقاع، ولا الأسلوب، ولا تصوير الشخصيات كانت مناسبة التي تركتها نصف مكتملة. وتفسير هذه الحالة هو واحد أيضًا: فحتى أنا نفسي لم أقتنع بها".

بالإضافة إلى كل ما يقدمه "غابو" من أفكار ثاقبة، تحضر في مقالاته هذه روحه الصاخبة التي نقرؤها من خلال ولعه بالرواية اليابانية، وتمنيه لو أنه صاحب رواية "الجميلات النائمات" التي حاكاها في روايته "ذاكرة عاهراتي الحزينات". كذلك تحضر روح السخرية والتهكم في مقال "بيجي أعطه قبلة" و"الريف: ذلك المكان الرهيب حيث الدجاجات تمشي نيئة". قراءة أعمال ماركيز ومقالاته شرط لا غنى عنه لكل باحث عن سؤال: "كيف تكتب رواية". 


3- ماريو بارغاس يوسا.. دودة الكتابة الشريطيّة

في كتابه "رسائل إلى روائي شاب"، يقدم ماريو بارغاس يوسا من خلال اثنتي عشرة رسالة إلى روائي شاب مفترض طرقًا مختلفة يمكن استخدامها في الكتابة الروائية، مستشهدًا بنماذج مختلفة في أسلوب روائيين عالميين، من خلال الأسلوب والزمن والمكان والواقع الروائي، ليساعد في تقديم إجابة شبه شافية عن سؤال الكتاب الشباب عن "كيف تكتب رواية". 

يصف يوسا في رسالته الثانية طريقة كتابة الرواية بأنها "تعادل ما تقوم به المحترفة التي تخلع ملابسها، أمام الجمهور، حتى تظهر جسدها عاريًا. غير أن الروائي يمارس العملية في اتجاه معاكس"، مشبهًا إياه بـ"الكاتوبليباس" المخلوق الذي يلتهم نفسه بنفسه، من حيث أن الروائي يقوم بـ"النبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثًا عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصًا". وعلى صلة بالتشبيه الأخير، يرى يوسا أن الكاتب يجب أن يشعر أن الكتابة دودة وحيدة، تمتص خلاصة حياته.

ميزة كتاب يوسا وإجابته عن سؤال "كيف تكتب رواية" هو أنه ينتمي إلى تطوير إبداعي لكتابات يوسا النقدية التي يكتبها بشكل منهجي كما في كتابه "حقيقة الأكاذيب"، لكنه هنا يتحول إلى ما يشبه راويًا لحكاية وتقنيات الكتابة، بعد اختراع ندّ افتراضي هو القارئ الشاب. وعمومًا يحفل تاريخ الأدب بكتابات إلى شباب، بعضها حقيقي مثل رسائل ريلكه، وبعضها الآخر متخيل مثل قصيدة محمود درويش "إلى شاعر شاب".


4- أورهان باموك.. الروايات هي الدرس

يفتتح أروهان باموك كتابه "الروائي الساذج والحساس"، بجملة يعتمدها عتبة أساسية لباقي فصول الكتاب، يقول فيها "هذا الكتاب هو كل متكامل يضم معظم الأشياء المهمة التي عرفتها وتعلمتها من الرواية". يستعير باموك عبارة "الساذج والحساس" من الألماني شيلر، ويعني بها الموهبة والصنعة، والروائي الجيد بالنسبة له من يجمع بين الاثنين. يعتمد باموك في كتابه على العديد من الأسماء الروائية مثل فرجينيا وولف، وفلاديمير نابوكوف، وهوميروس، والفردوسي.. وآخرين كثر، لتقديم رؤيته الشخصية للكتابة الروائية مع الشخصيات الأدبية، الحبكة والزمن الروائيين، وطريقة استخدامه الكلمات والصور والأشياء روائيًا، من خلال تجربته كقارئ رواية، وككاتب رواية في الوقت نفسه، ليكون كتابه من أهم ما يلزم الكاتب المبتدئ للبدء في الإمساك بطرف إجابة عن سؤال "كيف تكتب رواية". 

قارن أورهان باموك صاحب "اسمي أحمر" بين الرسم والسينما والرواية، وبين المتحف والرواية. في نهاية الكتاب يقول: "أردت الحديث عن رحلتي الروائية، عن الوقفات التي صنعتها على طول الطريق، ماذا علمني أسلوب وشكل الرواية، عن القيود التي فرضوها عليّ، كفاحي مع هذه القيود وارتباطي بها". لا يجد باموك ما ينصح به الكتاب الشباب الذين يسألونه عن كيف تكتب الرواية إلا أن يقول لهم: "أفضل طريقة لدراسة الرواية هو قراءة روايات عظيمة والرغبة في كتابة شيء مشابه لها".


5- أمبرتو إيكو.. جريمة الكتابة

بعد صدور روايته "اسم الوردة" عام 1980، وصلت إلى الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو العديد من الرسائل والاتصالات مستفسرة عن العديد من الوقائع والأشياء المتعلقة بروايته التي كتبت بالاعتماد على مجموعة من الوثائق والكتابات المرتبطة بالعصور الوسطى، حيث اعتمد على أدب الجريمة كتكنيك ليخوض رحلة استكشاف كبرى للفلسفة في القرون الوسطى، والتاريخ واللاهوت والمنطق أيضًا. وبسبب إلحاح الرسائل وغزارتها وجد إيكو نفسه يكتب "حاشية على اسم الوردة"، وينشرها في العدد 49 لمجلة ألفابيتا الإيطالية عام 1983. ثم سيتم التعامل مع الدراسة بوصفها كتيّبًا مستقلاً.

يجيب إيكو في هذه الحاشية، على العديد من الاستفسارات التي وصلته حول الرواية البوليسية، وكيف تكتب الرواية من ناحية العنوان والمعنى والسيرورة الكتابية، وكيفية بنائه لعمارته الروائية، وطريقة اعتماده على مراجع ووثائق تعود إلى العصور الوسطى، والحبكة البوليسية التي يصفها بـ "السؤال الأس في الفلسفة (كما في التحليل النفسي، كذلك)، هو نفس السؤال الذي نجده في الرواية البوليسية: من المذنب؟".

يقول مترجم الكتاب سعيد بنكراد في المقدمة: "إن إيكو وهو يحكي سيرورته لا يتوقف عند تأويل أو تفسير لحدث ما، ولكنه يومئ إلى ما يقف خلف هذا الحدث ويحيط به ويبرره ويمنحه معنى: دوافع اختيار هذه الفترة التاريخية دون غيرها، دوافع اختيار المحقق، إحالات على قراءة الإمارات، صراع بين أجنحة الكنيسة، غطرسة التفتيش الكنسي.. إلخ، وهو في كل هذا لا يوحي بأنه يريد أن يضمن نصه معرفة (عالمة)، ولكنه يبث المعرفة في الحدث والشيء والشخصية". 

وهكذا نجد كل كاتب عظيم يقدم إجابة منفردة وفريدة من وحي تجربته الخاصة عن سؤال "كيف تكتب رواية"، وهو سؤال يكون نابعاً من فضول معرفي لدى بعض القراء، كما يكون نابعاً من أمل وحرص من قبل بعض الكتاب الشباب الباحثين عن إشارات تهديهم في تلك الطريق الطويلة للرواية وعالمها الفذ. 

اقرأ/ي أيضًا:

"أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار

"فتاة القطار".. رواية عن نساء على الحافة